حظ أمحيسـن ! ..الحلقة الثامنة عشر

                                             

           

حظ أمحيسن !مـسلـسل تلفزيوني بين الحقيقة والخيال من الحياة الأجتماعية في العراق في الحقبة الواقعة في منتصف الأربعينيات ولغاية أحتلال بغدادفي 9 نيسان2003

              

                             الحلقة /الثامنة عشر

ما أن أنتهت أغنية على بلد المحبوب وديني, حتى عانق زوجته وقال لها : فرجَت وكنت أظنها لن تفرج!,. وشرح لها ما قاله المسؤل في قسم الأجانب حول منحها الباسبورت, والسفر بمعيته !

   
وهكذا تحقق حلم "أمحيسن",.. ففي منتصف سبتمبر 1966  وصل إلى وطنه بعد إن أكمل دراسته العليا بصحبة زوجته وطفله الذي لم يتجاوزالثانية  من عمره.
 تمت الرحلة بسلام على متن شركة الطيران (أيروفلوت), الا أنه توشـح بحزن ونحيب خافت, وبعد برهة  تمكن من السيطرة على مشاعره, وراحت زوجته تواسيه بكلمات جعلته يعود لرشـده,.. وقاد زوجته وأبنه بأتجاه بهو القادمون لفحص الجوازات والمرور على الكمارك لفحص الحقائب,.. وعند مدخل البهو, أستقبلته صبية عراقية باللباس الشعبي (الهاشمي), وفي يدها طبق تمـرمن النوع الموسوم بـ (الخستاوي),..فأخذ ثلاثة تمرات وقدم واحدة لزوجته وأخرى لطفله, وما أن وضع الثالثة في فمه حتى سمع من مكبر الصوت في صالة الأستراحة موال :

 

حلاوه وطيب للياكل من تمرنه,.. لحسام الرسام :
حلاوه وطيب للياكل من تمرنه
نحب نسمع كلامك من تمرنه
تميل البصره كلها من تمرنه
و الك شط العرب ياخذ تحيه سوالف عل سلاطين يا ابو الخير ليش تفيض خيرات على الجيران,.. وعيالك مساكين, حيطانك صفت بـس للشعارات,.. هوايه احزاب وشويه الحياطين!

     

وعلى أية حال وكما في المثل المصري (الحلو ما يكملش),فما إن أكمل معاملة الجوازات , أستقبله أبن عمه وأخته في بهو مطار بغداد وأعلموه عن حالة والدته الصحية والتي لم يراها منذ ست سنوات !، وهي الآن ترقد في مسـتشـفى الحيدري في بغداد, حيث أجريت لها عملية لأخراج " الحصى" من المثانة ، وحالتها خطرة بسبب حقنها بكمية كبيرة من المخدر (البنج), سـبب لها شللاً في الأمعاء!
تلقى " أمحيسن" النبأ بألم شديد ، وطارت أحلامه بحرارة اللقاء التي تخيلها كثيراً عندما قرر العودة لوطنه، والتي حدَّث زوجته عنها وفق تقاليدهم بمثل هذه المناسبات،... ولذا طلب من أبن عمه الذي استقبله في المطار الإسراع لتوصيل زوجته وولده لداره وتوجه هو للمستشفى،..وما أن دخل حتى وجد والدته ممدّدة على سريرها، وتبادل معها القبل المختلطة بدموع الفرح والأسى للحظات، وابتسمت الوالده له ورفعت يدها نحو السماء شاكرة ربها على تحقيق أمنيتها التي رددتها كثيراً أثناء تأدية الصلاة، ونصها :
" اللهم دعني أرى ولدي أمحيسن للحظات قبل أن تأخذ  أمانتك" !,
وبعد برهة وجيزة ، أمر أحد المسؤولين في المستشفى بأخلاء الغرفة لسوء حالة المريضة!
خرج " أمحيسن " يجر قدميه جراً، ومضت لحظات كأنها الدهر كله وخاصة عندما لا حظ عين والدته ترصده وتكاد تنطق بالوداع!,
وهكذا عاد لسكن أبن عمه فأستقبلته زوجته ,وراح يداعب ولده وفتح مسجله ليستمع لسعدون جابر وهو يغني لأمه في عيد الأم :

يا امي يا ام الوفا ياطيب من الجنه...
 ياخيمه من طيب ووفا جمعتنا بالحب كلنا
تعلمت الصبر منك يايما ... الهوى انتي الهوى ومحتاج اشمه
يااغلى واعز مخلوق عندي ... ياماي عيوني امي قلب هالبحر امي
سلام وخير امي وجه يمطر محنه قمر ونجوم كانه
تعرف تهمل هموم وماتعرف المنه
ياامي ياامي يام الوفا
كبرت يايمه والايام تمشي ...شفت مايعادل الام ثمن كل شي
يايمه الشمس من تمشين تمشي
ياتربه طاهرة ودار ربينا بحضنك صغار
المحبة تنحني وتبوس ايدك ويصلي الوطن لغيونك ياجنه
يا امي يا امي يا ام الوفا
مابين الناس اسهر ياشمعتي تصيرين الحديث الحلو انت
واسولف لاصدقائي شلون كنتي
تناديني حبيبي ذخر لايام شيبي
ايش ما ما وفينا ما نقدر نجازي انت النهر واحنا فروع منه
ياامي ياامي يام الوفا

   

وفي اليوم التالي، وبينما كان " أمحيسن " يتناول طعام الغداء مع زوجته,  دخل أبن عمه وطلب منه مرافقته  للمستشفى!,..فرمى الملعقة من يده وخرج مع أبن عمه, وما إن وصلا المستشفى حتى وجدا الحاجة أم أمحيسن قد فارقت الحياة !
شارك أمحيسن الأقارب والأصدقاء النحيب والبكاء، وتمت بعد ساعات مراسم تشييع الفقيدة إلى النجف الأشرف وعاد الجميع إلى دارالعائلة في مسقط رأسه,..وأرتدت زوجته العباءة العراقية والبدلة السوداء وشاركت نساء القرية باللطم والنحيب , وحدثتنا فيما بعد عن نساء العائلة وطريقة صراخهن ولطمهن على الخدود والصدور، وهن موشحات بالسواد في حزن شديد, وبعد أن أنهكها التعب وقفت بعيداً ، واكتفت بمراقبة تلك الأجساد الشبه عارية والراقصة في حركات ممتزجة بعويل مفتعل,.. أو قل مُبالغ به إلى أقصى الحدود!  
أثرت تلك الفاجعة المفاجئة على نفسية " أمحيسن " ، ووجد نفسه في عزلة تامة عن أفراد الأسرة لأسباب عديدة لم يكترث لها ومن أهمها زواجه من أجنبية!,..تاركاً أبنة عمه المرشحة له منذ ولادتها!
بدأ الدكتور " أمحيسن " العمل في جامعة بغداد بعد ثلاثة اشهر من وصوله للوطن، وراح يصارع الحياة بمفرده!,..وتمكن من التعيين  في دار المعلمين العالية (كلية التربية حالياً), وهي نفس الكلية التي تخرج منها سنة 1956, بعد جهود مضنية, بسبب موقف النظام آنذاك من خريجي الأتحاد السوفيتي, مما أخر تعيينه لأكثر من ثلاثة أشهر,.. وأخيراً تمكن من تأجير مشتمل تعود ملكيته الى السيدة صبرية, يقع في بداية شارع الزهاوي المقابل للبلاط الملكي/ الكسرة, حيث أبَت السيدة صبرية تأجيره للعديد من الراغبين, الا انها وافقت على تأجيره الى "أمحيسن", عندما علمت انه من الشــطرة!

ولذا تَوطدت علائق السيدة صبرية مع الدكتور"أمحيسن" وعائلته بعد ايام من سكنهم, ودعتهم لحضور وليمة عشاء,.. وأثناء تبادل الحديث ,.. تمعنت صبريه في وجه الدكتور"أمحيسن",  وحدســت انه أبن شيخ أحد قبائل الشطرة, ولكن انتابها الشــك!, وبعد طرحها لعدة اسئلة اسـتنباطية, تراقصت في مخيلتها مآسي السنين الغابرة التي أصابتها في الشطرة,..وتذكرت قصة الحب الأسطورية بين الصبي "أمحيسن" أبن الشيخ ساجت والصبية جميلة أبنة فراش المدرسة الأبتدائية في القرية, .. لذا تغرغرت دموع  السيدة صبرية و" أمحيسن" كالأطرش بالزفه !,  وبعد لحظات تهدأ العواطف ثم تشرح السيدة صبرية ســيرة حياتها في الشطرة, وتحمد الله, على نجاة "أمحيسن" من المحن التي كادت أن تقضي على مستقبله ,.. وعلى حياتها لولا مساعدة شيخ الشطرة ( الحاج خيون آل عبيد), عضو مجلس الأعيان, حيث  أمر زوجها القائمقام بمغادرة الشطرة, عندما تحرش بصبية  قروية جلبت له الكيمر الى بيته!

                               

بعد مضي أكثر من سنة على عودة "أمحيسن" استقر بعض الشيء،.. إلا أن النحس لم يمهله، حيث اندلعت حرب الخامس من حزيران 1967 بين العرب وأسرائيل، فأضطرالدكتور "أمحيسن" إلى تسفير زوجته إلى موسكو,على أن يلتحق هو بها في بداية العطلة الصيفية ,ولذا استخرج جواز سفر لولده وأعطى موافقته على سفره.
الا أن الثقة العمياء التي يتصف بها " أمحيسن" أوقعته في نفق مظلم,..  فما أن وصلت الزوجة إلى مطار موسكو, لم تبرز جواز سفر طفلها العراقي الجنسية ، وأنما عرضت جوازسفرها الروسي الذي يحتوي على البيانات المتعلقة بالطفل,على أنه "روسي الجنسية  وقد علم" أمحيسن" بتلك الأمورعندما وصل إلى موسكو, لمس رغبة والدي زوجته على عدم عودتها معه!   
بذل "أمحيسن" قصارى جهده لإقناع زوجته وحثها على تغيير رأي والديها, وتنازل عن أخذ الطفل معه وتركه عندهم، ليكسب ثقتها حيث قيل لها أن غرض العربي من الزواج هو الحصول على الأولاد !,.. إلا أنها لم تذعن لتوسلاته وإغراءاته بالتجول معها في أوربا,..لشـراء ملابس لها من أرقى دور الأزياء الأوربية!
دامت تلك المشكلة زهاء ثلاث سنوات، زار"أمحيسن" فيها زوجته في موسكو سـتّ مرات!.. باذلاً  المستحيل من أجل عودتها والعيش بكنفه،.. فهو مازال يحبها ولا يستطيع البعد عنها،  إضافة إلى تعلقه بطفله الوحيد والذي تولع به منذ ولادته!

استغلت الزوجة نقاط ضعف "أمحيسن" وعزفت عليها فترة ليست بالقصيرة وطلبت منه في آخر لقاء أن يغادر وطنه ويعمل في مكان
آخر, لأحتمال اشتعال الحرب بين العراق وإيران, وفق ما صرح
والدها العسكري بالجيش الروسي!.. فضحك " أمحيسن" من هذا التصور الساذج حيث لا يمكن لإيران أن تشن حرباً على العراق، الذي يضم أضرحة آل البيت وخاصة الأمام علي "كرم الله وجهه"، فهل لعاقل يمكن أن يصدق مثل هذا الرأي آنذاك؟!, ولكنه حدث في سبتمبر 1980 ,..فهل ما قاله ذلك العسكري محظ صدفه ؟!

                          


يتبع في الحلقة التاسعة عشر
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابعةعشر:

http://www.algardenia.com/maqalat/9565-2014-03-21-18-06-56.html

 

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1325 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع