د. منار الشوربجي
ماذا لو كنت محامياً توليت الدفاع عن متهم وانتهت القضية بتنفيذ حكم الإعدام، فكانت النتيجة معاقبتك لأنك دافعت عن مجرم؟
وماذا لو كنت محامياً تعمل في مؤسسة كبرى للمحاماة كلفتك بالدفاع عن متهم انتهت قضيته بالسجن مدى الحياة، فعوقبت لاحقاً بالحرمان من وظيفة جيدة لأنك في يوم ما دافعت عن مجرم استحق عقوبة السجن مدى الحياة؟ هل من الممكن أن يصبح عملك كمحامٍ عقبة في طريق ترقيك أو توليك وظائف أخرى في مجال القانون أو العمل العام، إذا كان سجلك ناصعاً وتاريخك مضيئاً؟ والإجابة على كل تلك الأسئلة في أغلب قوانين ودساتير العالم، هي بالنفي.
فالنظم القانونية والدستورية تقوم على فكرة جوهرية، وهي حق المواطن في أن يكون له محامٍ يدافع عنه أمام قاضيه الطبيعي، فإن لم يكن له محامٍ فإن الدولة تنتدب له محامياً يدافع عنه على نفقتها.
وتفعل الدولة ذلك أياً كان نوع الاتهام الموجه للمواطن، وهو ما يعني أن المحامي كثيراً ما يكون مكلّفاً، ليس بشكل شخصي من قبل الفرد صاحب الموضوع، وإنما من قبل الدولة نفسها. فإذا كان الأمر كذلك، فلا يجوز قانوناً معاقبة ذلك المحامي على عمل يؤديه بكل اجتهاد وكفاءة، حماية لحق المواطن في الدفاع.
لكن مجلس الشيوخ الأميركي كان مطلوباً منه الأسبوع الماضي أن يجيب عن كل تلك الأسئلة، فأجاب عنها جميعاً بالإيجاب، أي أنه عاقب محامياً عن دفاعه عن متهم، فحرمه من وظيفة عامة لهذا السبب وحده!
فرغم أن الدستور الأميركي والنظام القانوني الأميركي يقومان في جوهرهما على حق المواطن في الدفاع، بل وعلى نفقة الدولة إن لم يكن بإمكانه أن يجد من يدافع عنه ويدفع له، فقد رفض مجلس الشيوخ بالأغلبية الموافقة على تعيين ديبو أديجبيل مساعداً لوزير العدل ورئيساً لمكتب الحقوق المدنية في وزارة العدل، لأنه كان منذ سنوات قد دافع عن موميا أبو جمال.
وكنت قد كتبت في هذا المكان حين بدأت الحملة ضد أديجبيل، عن موميا أبو جمال. فالداعمون له يشملون شخصيات معروفة، من مانديلا وتشومسكي إلى مايكل مور. وأبو جمال صحافي أميركي راديكالي من أصول إفريقية، كان في شبابه صاحب أحد البرامج الإذاعية الشهيرة.
لكنه اتهم في عام 1981 بقتل ضابط شرطة في مدينة فيلادلفيا، في ملابسات ثارت حولها أقاويل كثيرة، وحكم عليه بالإعدام بعد محاكمة اعتبرتها منظمة العفو الدولية قد "افتقدت المعايير الدولية للإجراءات الواجب اتباعها من أجل محاكمة عادلة".
واعتبرها الكثيرون انطوت على "انحياز قضائي وتلاعب بالأدلة وانتهاكات قانونية من جانب النيابة". وقد تشكلت لجان للدفاع عنه تبنتها منظمات كثيرة، منها منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش والاتحاد العام للنهوض بالشعوب الملونة.
وكان أديجبيل في فترة بعينها مكلفاً من جانب الاتحاد العام للنهوض بالشعوب الملونة، للدفاع عن أبو جمال. وهذا الاتحاد، وهو من أقدم منظمات السود في أميركا وأكثرها احتراماً، لم ينضم رسمياً إلى الدفاع عن موميا، إلا بعد أن كانت إحدى المحاكم الفيدرالية قد اعتبرت الحكم بالإعدام عليه غير دستوري.
وكان في مقدمة الحملة ضد أديجبيل واحد من اتحادات البوليس، الذي أرسل خطاباً مفتوحاً لأوباما ولأعضاء الكونغرس، يطالب بالتصويت ضد تعيين الرجل في وزارة العدل "لأنه كان محامياً لمن قتل ضابط شرطة".
والحقيقة أن تصويت مجلس الشيوخ ضد تعيين أديجبيل، كان مفاجأة لم يتوقعها الكثيرون. فعلى عكس مجلس النواب الذي يسيطر الجمهوريون على الأغلبية فيه، فإن الديمقراطيين هم حزب الأغلبية في مجلس الشيوخ.
ولأن قواعد مجلس الشيوخ قد تغيرت مؤخراً فحرمت الأقلية من الإصرار على أغلبية 60% للموافقة على التعيينات للمناصب التنفيذية والقضائية، فقد كان المتوقع أن تتم الموافقة على ترشيح أوباما لأديجبيل بالأغلبية البسيطة التي يملكها الديمقراطيون في المجلس، حتى لو عارض ترشيحه كل الجمهوريين.
لكن الديمقراطيين هزموا أوباما! فقد خرجت نتيجة التصويت بالرفض 52:47، بما يعني أن سبعة من الديمقراطيين اصطفوا إلى جانب كل الجمهوريين ورفضوا ترشيح أديجبيل.
والأخطر من ذلك أن التبريرات التي قدمها الديمقراطيون الذين رفضوا ترشيح الرجل، لم تكن لها علاقة مطلقاً بمؤهلات الرجل نفسه ولا بالوظيفة المرشح لها.
فأحد هؤلاء الديمقراطيين تحدث عن ضابط الشرطة الذي قتل منذ ثلاثين عاماً في القضية التي اتهم فيها أبو جمال، وتحدث عما "تركه ذلك من جراح مفتوحة لزوجته وأهله ولمدينة فيلادلفيا"، دون أن يشرح ما علاقة ذلك بالمرشح لمنصب مساعد وزير العدل، بينما قال آخر إن هناك حملة منذ عقود "حولت قاتل سفاح وأعطته مكانة السجين والسياسي والبطل الشعبي" (يقصد موميا أبو جمال).
وكل تلك التبريرات لا علاقة لها بكفاءة المرشح ديبو أديجبيل، الذي يعمل مستشاراً للأغلبية الديمقراطية في لجنة العدل في مجلس الشيوخ، وهو مجلس الشيوخ نفسه الذي رفض تعيينه في المنصب التنفيذي! وقد أثار الموضوع كله غضب أوباما الذي أصدر بياناً شديد اللهجة وجهه إلى أعضاء مجلس الشيوخ، عبر فيه بوضوح عن غضبه قائلاً "إن رفض مجلس الشيوخ التصديق على تعيين ديبو أديجبيل لقيادة قسم الحقوق المدنية في وزارة العدل مأساة.. ووأد ترشيحه لسبب وحيد هو دفاعه القانوني عن متهم، أمر يتناقض مع جوهر نظامنا القضائي".
ويقول الكثير من المراقبين إن هزيمة ترشيح أديجبيل ستكون لها أبعادها الخطيرة، التي تتخطى ما يتعلق بالحقوق المدنية عموماً.
فهي تخلق سابقة خطيرة ترتبط بمهنة المحاماة، وما إذا كان أي محامٍ له طموحات في العمل العام، سيقدم من الآن فصاعداً على الدفاع في قضايا جدلية قد تؤثر على مستقبله السياسي.
1600 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع