ملح وسكّر...

                                           

                            أحمد حسن الزعبي

سواليف - مثل حارس يقظ ،يتفقد الأقفال ، ويختبر احكام الأبواب، كنت تحصنين أحلامنا ومناماتنا بمعوذات الليل وقصار السور، ترددين بصوت منخفض سورة "الماعون" وكأنها مسطرتك اليومية التي تقيسين فيها قربك الى الله..

  

كان للبيت الشرقي رائحة مختلفة،لا ذاكرة لها لأصفها..كانت تنبعث من خشب الخزانة القديمة ، وأرفف النملية الداكنة ، الدهان المقشور قرب الباب وأسفل النافذة القديمة يطلق تجاهنا كائنات من الخيال ، صحيح انه –الدهان-  يبدو كجدارية رسمت خصيصاً بــ"الأملشن" لكنها في الواقع جدارية "الطفر" ، رائحة الصوف النفّاذة التي تنبعث من ألحفتنا ، الرطوبة التي تتغلغل في مفاصلنا وفي "فرشاتنا" المرصوفة تباعاً...
 
كنت تربين الحكاية كما تربينا ، تعتنين بها تقلمين اظافرها ، تمشطين لغتها ، تغضبي منها احياناً كي تطيعك، وأحياناً تعاقبينها عندما تقولين "نسيت آخرها"...فنرجوك وترجوك "القصة" المبتلّة بمطر الليل وضحكاتنا الناعمة تحت الأغطية الشتوية الثقيلة، فتصالحينا على الأحداث حتى نصل حدود النوم..

              
 
كان المطر جزءاً من أدواتك...يشتدّ اذا ما اشتدّت نبرة صوتك..ويهدأ عندما تهدأ...وعندما كنت تضخّمين الحروف في مقطع الرعب...كان يستجيب لك الرعد فيقرع عصاه فوق طبل الغمام ، فقط ليجعل قصة امي أكثر تشويقاً وصدقا...كنت أتخيل أن الليمونة المرابطة خلف شباك البيت تنحني لتسمع تفاصيل "الحدوثة" وان الغيم يضحّي بوقاره فيدنوا ليصبح ضباباً فقط ليسمع الكلام الخفيف المهموس من الغرفة الشرقية..

  
 
تعالي يا غالية نقايض العمر..خذي سنة من عمري وامنحيني طاء طفولتي، خذي عقداً من عمري وامنحيني ليلة شتوية واحدة  في البيت الشرقي..خذي نصف قرن ..وامنحيني ابتسامة حقيقة من قلبك لا يثنيها ألم ولا يقمعها وجع ، امنحيني ضحكة صافية تورق من عينيك كما كانت لا يلجمها مرض ولا يعبث بصوتها ضعف...
 
أعرف أن اكياس أدويتك، وأشرطة العلاجات المزمنة المنثورة فوق سريرك هي باتت قصصك الآن..وأن أبطالك في حكايا "ابو الفول" و"العجوز الزغيرة" ..و"خنيفسة" هم ايضاَ يعانون من الضغط والسكري وضعف العضلة وقلة الحركة والقولون العصبي...
 
تعرفين يا غالية ..منذ ان اصبح  "الملح"عليك محرّماً والسًّكّر المسالم مجرّماً...صارت الحياة بمجملها بلا طعم ولا نكهة ...والسعادة تشرب تجرّعاً هكذا "سادة"...باختصار ما العيش بدون أمي "ألقديمة" ...وانت ملح الوقت ..وسُكر العُمر...
 
تعالي يا غالية نقايض الزمن ثانية ...خذي ما تبقى من عمري ومن تفاصيل الأيام ، واحكي لي قصة - أي قصة - لأنام...فأنا مستودع الضعف يا أمي...أنا سرب هوامشٍ وقبيلة من أرق...انا "الحكّاء" يا أمي الذي يمطر عدوه ألف رصاصة...وسلاحه  من ورق..
كل عام وانت قلبي...
 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1962 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع