إبراهيم الزبيدي
ليس هناك سبب شخصي يجعلني أبغض هذا المخلوق المكشر دائما، والغاضب دائما، والمختصم دائما، والمستهين دائما بالجميع، والمتطوع دائما بنثر تهم الخيانة والإرهاب والبعثية والصدامية على كل العراقيين ما عدا أقاربه وأحباءه ومعاونيه ومستشاريه. بل هناك أسباب عامة عديدة تمس الوطن وحاضره المعمد بالدم والدموع، ومستقبله المحفوف بالمخاطر.
أولها أنه أثبت، بسلوكه المزاجي الانفعالي غير المتزن وغير المستقيم، طيلة ثماني سنوات، أنه أصغر كثيرا من الكرسي الذي جعله يتسلط على شعب عريق كالشعب العراقي متنوع المذاهب والطوائف والأديان والقوميات، وغني بالألوف وربما الملايين من أصحاب المواهب والكفاءات والخبرات وحملة شهادات العلوم والفنون والآداب والاقتصاد والسياسة.
وثانيها أنه جرب حظه في الدورة الأولى من رئاسة الوزراء التي جاءته بالمصادفة والمحاصصة، فلم يحترم نفسه وشعبه، ولم يعترف بفشله وجهله في السياسة وتطفله على القيادة، ولم ينسحب بهدوء وكرامة ويعتذر عن قبول الدورة الثانية.
وثالثها أنه بعد كل الذي جرى وصار في السنوات الثماني الغابرة ما زال يقاتل، بالحلال والحرام، ويشعل الحرائق هنا وهناك من أجل أن يركب على ظهورنا في دورة ثالثة، وكأن ما أنزله بنا من كوارث وحروب ونزاعات وعدم استقرار وضائقات اقتصادية وسياسية واجتماعية لا يكفي.
أتذكر هذا المخلوق أيام معارضتنا للنظام الديكتاتوري السابق. فمن محاسن الصدف، أو ربما من سوئها، أن تكون أول مقابلة إذاعية أجريها لإذاعة المعارضة العراقية أواخر عام 1990 مع المدعو (أبو إسراء) جواد المالكي.
في تلك المقابلة التي أحتفظ بنسخة منها، فيما أختزن من وثائق وشرائط، كان المالكي مصرا على عدم القبول بإسقاط النظام بأيدي الأمريكان أو غيرهم، داعيا بقوة إلى إسقاطه بأيدٍ وطنية عراقية فقط لا غير. ثم أصبح فيما بعد رجل أمريكا المؤتمن.
ثم زعم في تلك المقابلة بأنه، وشركاءه الحاليين في الحزب والسلطة، إذا ما أسقطوا نظام البعث فسوف يصححون ما ارتكبه صدام من خطايا، ويعوضون شعبنا عن كل ما تحمله في حروبه من مصائب، وما عاناه من فساد أبنائه وإخوته وأصهاره وأقاربه وأتباعه الكبار المقربين.
وفي تلك المقابلة كرر أبو إسراء، كثيرا وبحماس وحرارة، إصراره على أن يقيم، هو وإخوته المجاهدون، على أنقاض العراق الذي خربه الديكتاتورعراقا جديدا نقيا مئة بالمئة، آمنا، عامرا، عادلا، عاقلا. حتى تخيلت أن عراق ما بعد صدام لن يكون أقل تقدما وازدهارا وعدالة وكفاية عن سويسرا أو السويد. يقول المالكي في تلك المقابلة: لا طائفية في توزيع الوظائف، ولا رشوة، ولا فساد، ولا تبذير للمال العام، ولا حديث عن الديمقراطية في النهار واغتيال المعارضين بالكواتم في الليل، ولا استغلال، وإنما عدالة في كل مفصل من مفاصل الدولة، وتداول سلمي للسلطة، وتوزيع عادل للثروة الوفيرة على الخدمات الأساسية، وبشكل خاص على مشاريع إسكان من لا سكن له، وعلى أفضل أساليب التعليم والصناعة والزراعة والري، وعلى رعاية أصحاب الاختراعات والمواهب، وعلى المبدعين في الفكر والفنون والثقافة، وعلى إنصاف المُهجرين العراقيين وإعادتهم إلى أحضان الوطن وإسكانهم واستثمار كفاءاتهم وخبراتهم التي اكتسبوها من دول الاغتراب، وليس على مسيرات ومواكب واحتفالات مفتعلة لخدمة الحاكم، ولا على مشاريع وعقود وهمية، ومؤتمرات واجتماعات عبثية باسم المصالحة الوطنية.
وأهم ما ركز عليه المالكي في تلك المقابلة هو وعده القاطع بعدم السماح بالمساس باستقلال القضاء، لأنه الوحيد الذي يصون الوطن من انحراف الحاكم. وتبعا لذلك فليس مسموحا في العراق الجديد لمُدانين بجرائم مخلة بالشرف وبالأمن الاجتماعي أن يفلتوا من العقاب، أو يخدموا في دوائر الدولة، وخاصة قواتها المسلحة وأجهزة أمنها ومخابراتها، كما يفعل صدام حسين مع أصحاب السوابق مرتكبي جرائم القتل والاغتيال والسرقة والاختلاس وتفجير المفخخات وملاحقة المعارضين.
لذلك صرتُ كلما شاهدته على شاشة التلفزيون، بوجهه الخشبي الناشف، وسحنته الحاقدة، وغرور القوة والثروة الذي أصابه إلى هذه الدرجة من الجنون، أتذكر تلك المقابلة، فأشعر بالحزن وأكتئب.
وهذه جردة حساب لما أنجز مما وعد:
- ثبت بالوجه الشرعي الملموس أنه طائفي لآخر نفس. فلم يختر مستشارين ومساعدين ومرافقين ووكلاء إلا من طائفة واحدة، بل من حزب واحد، ومن طينة واحدة. وجلهُم جهلة وكذابون ونصابون وشتامون ومختلسون. أما فضائح ولده وابنته وصهره وأقاربه التي تتكشف كل يوم وتسير بها الركبان فلا تعد ولا تحصى. وقليلٌ، بل نادرٌ جدا، وجودُ موظفين مقربين من الرئيس تمنعهم أصولهم الخيرة ومبادؤهم النبيلة من الانحراف واستغلال النفوذ، ولا يسقطون في إغراء السلطة، ولا يسرقون ويرتشون، ولا يقومون باحتلال بنايات وقصور ومعدات وأجهزة ومزارع وبساتين. أما المساعد أو المستشار الذي تثبت عليه تهمة الأمانة والوطنية والنزاهة والترفع عن الطائفية ومعارضة سياسة تلفيق الملفات وافتعال الأزمات والعداوات فيطرده (الحجي) على الفور شر طردة، ويلفق له ما شاء من تهم وأباطيل.
-ويكفي إعلانُه الشهير المعيب (ما ننطيها) لإثبات أنانيته ونوازعه الديكتاتورية وكذب ادعاءاته باحترام صناديق الاقتراع والحفاظ على الديمقراطية وعدم المساس بالدستور ومبدأ التداول السلمي للسلطة.
-أصبح نقضُه للاتفاقات والعهود والمواثيق، وعدم احترام توقيعه عليها مضرب الأمثال. وما فعله باتفاق أربيل واحدٌ منها.
-كشف عن قلة أمانة وضعف رجولة حين يعمد إلى تسقيط خصومه السياسيين بتلفيق الملفات والتهم. ألم يعلن أكثر من مرة أنه احتفظ لسنواتٍ بملفات إرهاب تخص طارق الهاشمي ولم يحلها إلى القضاء حفاظا على سلامة العملية السياسية؟
-بالغ في لجوئه الدائم إلى أسلوب المساومات والصفقات لتحقيق أغراضه السلطوية الخاصة، وأغلبها ضارٌ جدا بأمن الوطن ووحدة أرضه وشعبه، وعلى حساب سيادته واستقلاله وسيادته الوطنية.
-أسبغ رعايته الكاملة على أصحاب الشهادات المزورة، وهم بالآلآف، ورفض استرجاع الأموال المختلسة التي حصلوا عليها بتلك الشهادات.
- تسترعلى المختلسين حتى بعد أن يدينهم القضاء، وقام بتهريبهم إلى خارج العراق، إذا كانوا من حزبه أو من خاصته المقربين.
- جعل العراق حديقةً خلفية لإيران تتصرف بها كما تشاء، فتنشيء المليشيات، وتسلح العصابات، وتفتعل الحرائق، وتفجر المراقد الشيعية والسنية معا، لإحداث الفتنة وتعميق العداوات بين مكونات الشعب العراقي، خدمة لأهدافها التوسعية. ألم تجفف الأنهار وتغرق الأسواق ببضائعها السيئة، وتجعل سفارتها مرجعا لرئيس الحكومة وللوزارة والأحزاب الدينية الحاكمة؟ ثم، ألم ينزع المالكي ربطة عنقه أمام خامنئي تزلفا ونفاقا وتقية؟
-لم تتوقف حروبه التي تشتعل وتنطفيء مع الكورد، تبعا لسخونة مصالحه السلطوية المتقلبة وبرودتها.
- ثم جاءت حربُه العبثية في الأنبار، بحجة محاربة داعش والقاعدة لتبرهن على أنه ليس رجل دولة بل زعيم عصابة. فلو استجاب لمطالب المعتصمين المشروعة التي كفلها الدستور، وتعامل مع المُطالبين بها بالتي هي أحسن لحقـَن دماءَ المئات من أفراد الجيش وأبناء العشائر، ولجنب عشرات الألوف مشقة النزوح من ديارهم، ولكان حمى الوطن من هذا المأزق اللعين.
-أقدمت حكومته، باعتراف وزير (عدله) نفسه، على تهريب أعداد من عُتاة قادة القاعدة وداعش من سجن أبي غريب، وسهلت عبورهم إلى سوريا.
- تلاعب بالقضاء. حتى صار يأمر فيطاع. ألم يحكم القضاء على عديدين بتهم الإرهاب أو الاختلاس ثم أسقطها القضاء نفسُه بعد حين، بأوامر السيد الرئيس أو أحد سماسرته المُعتمَدين. وما حدث مع مشعان الجبوري ما زال حديث المجالس.
- ليس هناك من وسيلة لكشف عدد السجناء والسجينات في أقبية معتقلاته السرية، ولا من طريقة لمعرفة البريء منهم وغير البريء، سوى الشبهة ومزاج المخبر السري؟
- سطى على الكثير من صلاحيات ر ئاسة الجمهورية، واحتقر البرلمان وتمرد عليه. ألم يهدد بحله والحكم بدونه؟
- بعثر المال العام، مزاجيا وبحسابات شخصية خالصة، فتبرع لدول عربية وغير عربية بنفطٍ أو بملايين من الدولارات، دون إذن من أحد أو مشاورة مع أحد.
- ما زال يغض النظر عن تهريب السلاح والمسلحين من إيران إلى سوريا عبر العراق، وما زال هو نفسه يرسل المليشيات الطائفية إلى سوريا لحماية عرش حليفه وحليف ولي نعمته الإيراني، الأمر الذي أطال أمد الحرب وزاد من تعقيدها، غير عابيء بما يشكله ذلك من مخاطر مستقبلية على أمن العراق نفسه، في قادم الأيام.
- صار ولعُه بتجميع المناصب والهيمنة على الوزارات والمؤسسات وإدارتها من خلال وكلاء ضعاف وانتهازيين مثارَ سخرية الساخرين، مثلما فعل بوزارة الدفاع والبنك المركزي وشبكة الإعلام ومجلس القضاء الأعلى.
- تستر على الفضائح والمخالفات، وأظهر لامبالاة وعدم جدية في تحري الحقيقة عن تهم اختلاس ورشوة وفساد توجه إلى ولي عهده أو بعض مستشاريه، واعتاد على لفلفتها وعدم نشر نتائج التحقيق بشأنها. وصفقةُ الأسلحة الروسية مثالٌ صارخ على ذلك.
- لم يخجل من كذبه الذي فضحته وكالة رويتر حين أنكر شراء أسلحة إيرانية، مخالفا بذلك أحكام المقاطعة الدولية، ثم ثبتت عليه التهمة بعد ذلك.
- لم تتوقف حملات الاعتقال المتكررة في بغداد ومدن المحافظات الأخرى، شيعية وسنية، والتي تنهي دائما باختطاف مواطنين تظهر جثثهم بعد ساعات أو أيام في مكبات النفايات أو على أحد الأرصفة.
- ولم تعد خافية على أحد جرائمُه المتكررة بحق اللاجئين الإيرانيين، وهم ضيوف عزل ومحاصرون في معسكرهم. فقد أوعز بقتل العشرات منهم ودفنهم في مقابر جماعية، إرضاءً لإيران وتنفيذا لأوامرها، غير عابيء بشجب الأمم المتحدة ودول أوربا وأمريكا .
- وأخيرا وليس آخرا، عودنا على سكوته المطبق عن حمامات الدم وحملات القتل اليومية التي تحصد العشرات والمئات كل يوم، في بغداد والمحافظات الأخرى، بالمفخخات والعبوات المتفجرة والكواتم، ثم يلقي باللوم بعد ذلك على خصومه السياسيين، ولا يبذل جهدا مخلصا وحقيقيا لعلاج ذلك الإرهاب من جذوره التي لا يجهلها حتى الطفل العراقي الصغير.
وغيرها كثير وكثير لا يعد ولا يحصى، حتى تصدرت الدولة العراقية قوائم الدول الأكثر فسادا وانتهاكا لحقوق الإنسان وقتلا للصحفيين واعتداءً على المتظاهرين السلميين.
أطفالٌ، بالملايين، دون مدارس، هائمون في الشوارع مع الكلاب السائبة. ملايين الفلاحين دون مياه شرب، ودون صحة ولا دواء. عمالنا العاطلون عن العمل تغص بهم مقاهي الوطن الحزينة وأرصفة شوارعه المحطمة. والمُهجَرون والمهاجرون يكابدون ويصارعون من أجل لقمة عيش في حارات دمشق المحترقة وشوارع عمان وأنقرة والقاهرة وأثينا وبيروت، بلا أمل في عودة أو معين.
هذه هي دولة المالكي. وعليه فإن استمراره في الرئاسة إلى نهاية دورته الحالية كان عارا علينا جميعا، وألحق ضررا كبيرا بالعراق والعراقيين والمنطقة، ولكن عودته في دورةً ثالثة، لا سمح الله، كارثة، بل هي أكبر الكبائر التي يرتكبها شعبنا بحق نفسه، حاضرا ومستقبلا. فعودته إلى السلطة، مرة ثالثة، لن تقود إلا إلى مصير أسود لدولة كان اسمها (عرق).
1309 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع