هنري كيسنجر*
جميع النقاشات التي تدور في العلن بشأن أوكرانيا تتضمن أجواء المجابهة، ولكن هل نعلم حقاً إلى أين نحن ذاهبون؟
لقد شهدت خلال فترة حياتي أربع حروب تبدأ وسط حماس عظيم وتأييد شعبي واسع. جميع هذه الحروب لم نعرف كيف ننهيها، وفي ثلاث منها اضطررنا للانسحاب من طرف واحد، فالمحكّ الحقيقي لأية سياسة هو كيف تنتهي لا كيف تبدأ.
في معظم الأحيان تعرض المسألة الأوكرانية في صورة مواجهة فاصلة، محورها إن كانت أوكرانيا ستنضم إلى الشرق أم الغرب. ولكن على أوكرانيا، إذا ما أرادت الحفاظ على بقائها، ألا تسمح لنفسها بالتحول إلى مخفر حدودي لأحد الطرفين بوجه الطرف الآخر، بل أن تجعل من نفسها جسراً بين الاثنين.
وروسيا أيضاً عليها تقبل حقيقة أن محاولتها إرغام أوكرانيا على القبول بوضع التابع، وبالتالي تمديد الحدود الروسية من جديد، سوف يعود بموسكو القهقرى إلى زمن دوائر الضغط المتبادل مع أوروبا والولايات المتحدة، تلك الدوائر التي تستمر في تغذية نفسها بنفسها.
أما الغرب فعليه أن يتفهم أن أوكرانيا لن تصبح ذات يوم بلداً
أجنبياً بالنسبة لروسيا على الإطلاق، فالتاريخ الروسي قد ابتدأ مما يطلق عليه "كييف روس" (كييف روس أو القوة الحاكمة: هو نظام سياسي كان سائداً في أوروبا الشرقية خلال العصور الوسطى، من القرن التاسع إلى منتصف القرن الثالث عشر، عندما تفكك تحت وطأة الغزو المغولي في 1237 إلى 1240 - المترجم) ومن هناك انتشرت الديانة الروسية.
على مدى القرون كانت أوكرانيا جزءا من روسيا وكان تاريخاهما متداخلين حتى من قبل ذلك الوقت، بل أن بعض أهم معارك التحرر الروسية، بدءاً من معركة "بوتلافا" في 1709.
قد دارت رحاها على تراب أوكرانيا، كما أن اسطول البحر الأسود (الذي يعدّ الذراع الذي تفرض عن طريقه روسيا قوّتها على منطقة البحر المتوسط) يرابط بموجب عقود طويلة الأمد في
قواعد له في "سيفاستوبول" في القرم.
حتى المنشقين المعروفين من أمثال "الكساندر سولزنتايسين" و"جوزيف برودسكي" يصرّون مؤكدين على أن أوكرانيا كانت جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الروسي ومن روسيا نفسها.
كذلك على الاتحاد الأوروبي الاعتراف بأن بيروقراطيته البطيئة وإخضاعه العناصر الستراتيجية للسياسات المحلية عند مناقشة علاقة أوكرانيا بأوروبا قد ساهمت كلها في تحويل تلك المناقشات إلى أزمة، فالسياسة الخارجية هي فن ترتيب الأولويات.
ويبقى الأوكرانيون الذين يمثلون العنصر الحاسم في هذه المسألة، فهم يعيشون في بلد له تاريخ معقّد ومزيج من لغات متعدّدة.
في العام 1939 تم ضم الجزء الغربي من أوكرانيا إلى الاتحاد السوفييتي حين جلس ستالين وهتلر لتقاسم الغنائم.
أما القرم، التي يشكل الروس 60 بالمئة من مجموع سكانها، فلم تصبح جزءاً من اوكرانيا إلا في العام 1954 عندما أهداها "نيكيتا خروشيف"، وهو أوكراني المولد، كجزء من احتفالية بمناسبة مرور 300 سنة على الاتفاقية الروسية مع القوزاق. غرب أوكرانيا معظمه كاثوليكي أما شرقها فأغلبه من الروس الارثوذكس، الغرب يتكلم اللغة الأوكرانية بينما يتكلم معظم الشرق اللغة الروسية، لذلك فإن محاولة أي من الجناحين الأوكرانيين الهيمنة على الجناح الآخر، وهو النمط الشائع، سوف تفضي إلى الحرب الأهلية أو التقسيم في نهاية المطاف.
كما أن التعامل مع اوكرانيا على أساس أنها جزء من المواجهة بين الشرق والغرب سوف يؤدي، ولمدة عقود من الزمن، إلى إحباط أية آمال لجمع الروس والغرب معاً - وعلى وجه الخصوص روسيا وأوروبا - ضمن نظام تعاون دولي.
لم تنعم أوكرانيا بالاستقلال إلا لمدة 23 سنة فقط، أما قبل ذلك فقد كانت خاضعة لشكل من أشكال الحكـم الأجنبي منــذ القرن الرابع عشـــر.
لهذا السبب ليس مستغرباً أن يكون الزعماء الأوكرانيون على جهل بفن التفاوض والحلول الوسط، وأقل استيعاباً للمنظور التاريخي.
وتكشف سياسة أوكرانيا بعد الاستقلال أن جذور المشكلة تكمن في مساعي الساسة الأوكرانيين لفرض إرادتهم على الأجزاء المتململة من بلدهم والتعامل معها فصيلاً بعد فصيل.
وهذا هو بالضبط جوهر الصراع بين "فكتور يانوكوفتش" ومنافسته السياسية الرئيسية "يوليا تيموشينكو" لأنهما يمثلان جناحي أوكرانيا ولكن أي منهما لا يبدي أي استعداد لتقاسم السلطة.
لذا ستكون سياسة حكيمة من جانب الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا أن تسعى إلى إيجاد سبيل لجعل شطري هذا البلد يتعاونان مع بعضهما.
ينبغي علينا السعي لحثهما على التصالح بدلاً من هيمنة أحد الفصيلين على الآخر.
بيد أن لا روسيا ولا الغرب تصرفا وفق هذا المبدأ، وكانت الفصائل المختلفة في أوكرانيا أسوأ منهما في ذلك. كل طرف من هذه الأطراف ساهم في تردّي الوضع أكثر وزاد الطين بلّة.
روسيا من جانبها لن تتمكن من فرض الحل العسكري من دون أن تتسبب بالعزلة لنفسها في وقت تعاني فيه كثير من حدودها أوضاعاً حرجة.
وبالنسبة للغرب لن يحل تصوير "فلاديمير بوتين" بصورة الشيطان محل السياسة، بل هو محاولة لتبرير غياب السياسة.
على بوتين أن يفهم أن سياسة الفرض بالقوة العسكرية سوف تتمخض عن حرب باردة جديدة، أياً تكن حقيقة دعواه.
كذلك على الولايات المتحدة أن تتحاشى من جانبها التعامل مع روسيا وكأنها منحرف ينبغي الصبر عليه إلى أن يتعلم قواعد السلوك السوي التي وضعتها له واشنطن. بوتين ستراتيجي خطير على حلبة التاريخ الروسي، ولكن فهم القيم والسايكولوجيا الأميركية ليست ساحته.
كذلك فإن التاريخ الروسي والسايكولوجيا الروسية لا تمثل جانب القوة لدى صانعي السياسة الأميركيين.
على قادة جميع الأطراف أن يعودوا إلى النتائج ليتفحصوها ملياً ويمعنوا النظر فيها بدلاً من التسابق إلى التموضع واتخاذ المواقف. وفيما يلي رأيي وتصوري للنتائج التي يمكن أن تنسجم مع القيم والمصالح الأمنية لجميع الأطراف:
1.يجب أن يكون لأوكرانيا الحق في أن تختار بحرية ارتباطاتها الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك ارتباطاتها مع أوروبا.
2.على أوكرانيا عدم الانضمام إلى حلف الناتو.
وهذا هو نفس موقفي الذي اتخذته قبل سبع سنوات عندما أثير هذا الموضوع في آخر مرة.
3.ينبغي أن تترك لأوكرانيا حرية تشكيل حكومة تنسجم مع إرادة شعبها المعلنة.
بعد ذلك يجب على الزعماء الأوكرانيين العقلاء أن يمارسوا سياسة المصالحة بين أجزاء البلد المختلفة. أما على الصعيد الدولي فإن عليهم اتخاذ موقف شبيه بذاك الذي اتخذته فنلندا، حيث أن هذا البلد لم يترك مجالاً للشك في قوّة تمسكه باستقلاله وهو يتعاون مع الغرب في معظم الميادين ولكنه مع هذا يتجنب بمنتهى الحذر إثارة العداء مع روسيا على مستوى المؤسسات.
4.ليس مقبولاً، وفق قواعد النظام العالمي القائم، أن يقوم الروس بضم القرم، ولكن من الممكن أن توضع علاقة القرم بأوكرانيا على أسس أقل عرضة للتشاحن.
لأجل هذه الغاية يترتب على روسيا أن تعترف بسيادة أوكرانيا على القرم.
كما أن على أوكرانيا أن تعزز استقلال القرم من خلال انتخابات تقام بحضور مراقبين دوليين.
هذه العملية يجب أن تتضمن أيضاً إماطة أي غموض أو إبهام يتعلق بوضع اسطول البحر الأسود في سيفاستوبول.
هذه مجرد مبادئ وليست وصفات طبية لازمة التطبيق، والعارفون بالمنطقة سيعلمون أنها لن تكون كلها مستساغة لدى جميع الأطراف.
الامتحان هنا ليس في كيفية التوصل إلى الرضا الكامل بل إلى عدم الرضا المتوازن، وما لم يمكن التوصل إلى حل قائم على أساس هذه المبادئ أو عناصر مناظرة لها فإن الانزلاق باتجاه المجابهة سوف يتسارع، وموعد ذلك سوف يكون قريباً جداً.
*هنري كسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة للفترة من 1973 إلى 1977.
"واشنطن بوست"
ترجمة: أنيس الصفار
1285 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع