ابراهيم الزبيدي
رغم أن شيئا لم يعد سرا هذه الأيام، إلا أن صديقا عراقيا مقربا من بعض شيوخ عشائر الأنبار همس في أذني، مؤخرا ونحن في عمان، كمن يكشف سرا خطيرا لا يعرفه غيره، فقال إن أحد المتنفذين العشائريين الأنباريين يسافر إلى الدوحة، عن طريق عمان، شهريا، ودون انقطاع.
لا أحد يملك دليلا ملموسا على سر هذه السياحة. ولكن المتعارف عليه أن مرتبات بعض المسلحين في الفلوجة والرمادي لا تدفع إلا بعد عودته إلى العراق عن طريق مطار أربيل.
ويسألني هذا الصديق عما إذا كنت أعلم بأن الشقيقة قطر تمد يديها في أحشاء العراقيين لتضيف إلى مصائبهم مصائب، وإلى حرائقهم حرائق، ولتصب أموالها السائبة على تجار المسلخ العراقي المتاجرين بالدين المسلح بالغازات السامة والمفخخات، ليزيد تقطيع الأيدي والرؤوس، لا في الأنبار وحدها، بل في محافظات ومدن عراقية اخرى عديدة.
مقدما ليس من حق أحد منا أن نعترض على من يقتنع بالفكر السلفي، أو أي فكر آخر. فمن حق أيٍ كان أن ينحاز إلى ما شاء من (المجاهدين)، ولكن ليس من حقه أن يتجاوز حدود الفكر فيقتحم المحرمات ويزرع الموت في كل أرض يحل فيها تحت جنح الظلام، حيث يضع يده في أيدي مارقين جهلة وحمقى ومتخلفين، ويلقي في أحضانهم كثيرا من المال، وأكداسا من القنابل والمدافع والخناجر والسيوف، ويعينهم على سفك دماء الآمنين الأبرياء وحرق منازلهم وتشريد نسائهم وأطفالهم وشيوخهم، وجعل الوطن غابة من نار ودخان.
ورغم أننا على ثقة كاملة بأن فكر العصور السالفة المتخلف لا يمكن أن ينتصر على طوفان الفكر العصري التقدمي المتنور، مهما طالت المعارك، ومها كان الثمن الذي تدفعه شعوبنا اليوم في مواجهة الإرهاب الإسلامي، على اختلاف أنواعه وفئاته وأساليبه الجهنمية المدمرة، إلا أن من حقنا، بل من واجبنا أن نضرب على يد هذا المعتوه المحمل بقناطير الذهب والفضة ونردعه ونفضحه.
مناسبة هذا الكلام قرار السعودية والإمارات والبحرين سحب سفرائها من الدوحة عقابا لها على دورها التخريبي المريب.
والحقيقة أن أحدا لم يفهم ولن يفهم كيف يستطيع الحكم القطري أن يوفق بين الخطاب التكفيري (الثوروي) القاعدي الداعشي والتزامه المبدأي الثابت بتمويل المجاميع الإسلامية (الجهادية)، وأغلبُها مدانٌ، عربيا وإقليميا ودوليا وأمريكيا، بالإرهاب، وبين احتضانه أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، وإقامته أعمق العلاقات المعلنة الراسخة مع إسرائيل، مع احتفاظه بأواصر قربى وأخوة نضالية متميزة مع الولي الفقيه؟
قد لا يكون قرار السعودية والإمارات والبحرين، وربما مصر أيضا، هو الذي أعلن عن بدء موسم الهزائم القطرية الفاقعة. لكن بداية خسارات الجماعة القطريين كانت قد ابدات في تونس قبل سنتين حين تحول حكومة قطر إلى شيطان رجيم وطردت شر طردة.
لكن الهزيمة الأكبر التي قصمت ظهر المشروع القطري الإخواني جاءت على أيدي ملايين المصريين الذين أطاحوا بالإخوان المسلمين وعرت المتلاعبين بأمن الشعب المصري ورزقه وحريته وكرامته.
ثم جاء الحصار المصري لخلايا حماس في سيناء ومنع كوادرها من دخول مصر، وإغلاق مكاتبها، وإحالة حلفائها محمد مرسي وإخوته الآخرين بتهم التآمر مع حماس على ضرب أمن مصر واستقراها.
أما الهزيمة القطرية في سوريا فهي بجلاجل. فبعد أن كانت اللاعب الأول أجبرت على مغادرة القطار السوري وحلول السعودية مكانها في القيادة، الأمر الذي جعل جماعات المعارضة السورية تنأى عنها وتبحث عن حليف جديد.
ومع كل ذلك فما تزال العزة بالإثم تأخذ القيادة في قطر، وتجعل عنادها وعدم اعترافها بالخطيئة أمرا لا يحتمل ولا يصدق. فهي ما زالت تكابر وتناور وتقامر، وما زالت تتصدق نفسها وأحلامها الساقطة.
ومن يتابع قناة الجزيرة يأخذه العجب والحزن والأسف معا على هذا السقوط المهني والسياسي المريع. فمصر تحترق. وأنباء انتصارات (الشرعية) على (الانقلاب) و(الانقلابيين) تتوالى، وأن عودة الرئيس محمد مرسي وإخوته المجاهدين الصامدين أصبحت قريبة وأقرب من القريب. مع الأسف. إنها تدوس على المهنة وعلى العقل والمنطق، وترث محمد سعيد الصحاف الذي ظل يبشرنا بهزيمة العلوج واندحارهم حتى وهم يسقطون بدباباتهم صنم الفردوس.
هذه حالة فريدة لا يستطيع سوى علماء النفس، وحدهم، دراستها وكشف أسرارها. فحتى في العمل التجاري يكون التاجر ألمعيا وشاطرا حين يشم رائحة فشل مشروعه، قبل فوات الأوان، فيستغني عنه أو عن بعضه، ثم يستبدله بآخر أفضل وأوفر فرصا للنجاح.
وإذا جاز لنا أن نقيس مشاريع (الإسلام السياسي) السني والشيعي، معا، بأحكام التجارة فإن الأمير (الخلف)، وهو الأكثر شبابا وتعليما من (السلف)، حين يصر على مواصلة التمسك بالمشاريع الخاسرة، ومواصلة الجري وراء (المجاهدين) المهزومين المبغوضين من شعوبهم ومن شعوب الأرض المتحضرة كلها، لا يمكن أن يكون إلا واحدا من اثنين، إما أنه رجل أعمال سيء الحسابات، أو أنه مولع بالرهان على الفاشلين.
شيء آخر. إن إمارة صغيرة بحجم قرص (الطعمية) المصرية حين تتوهم بأن في إمكانها أن تتحدي الزمن والتاريخ ومنطق الأشياء فتصبح دولة عظمى تحكم وتدير وتقرر مصير دول وشعوب مهمة عديدة بالمال، وبالمال وحده، لا تخدع إلا نفسها.
فمن أين لـ (قطر العظمى) ما يكفي من القادة والخبراء والعلماء القطريين المؤهلين لإدارة دول عديدة يريد الأمير استعمارها، فينصبون حكامها ووزراءها ونواب برلماناتها، ويضعون دساتيرها وقواعد حياة أبنائها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما فعلت أمريكا بالعراق وأفغانستان، مثلا، وكما تفعل دولة الولي الفقيه، هذه الأيام، بالعراق ولبنان وسوريا واليمن وفلسطين؟
تخيلوا معي لو أن الشقيقة قطر، من أيام انقلاب عام 1995، حصنت نفسها بمحبة الشعوب المجاورة، واستقوت بأشقائها، ولو وضعت بعض ما أنفقته، وبعض ما زالت تنفقه إلى اليوم، في خدمة الملايين الفقيرة في بلاد المسلمين، فعمرت بيوت المستضعفين التي خربها (المجاهدون)، وحقنت دماء العراقيين والمصريين والليبيين والتوانسة والفلسطينيين واللبنانيين والبحارنة، ومنعت الظلم عنهم، وجاهدت لنشر ثقافة التسامح والوسطية والسلم وفعل الخير، لكانت اليوم هي الأقوى والأكثر احتراما وأمنا وأمانا وراحة بال.
لكن غرور (القوة بالمال) أخذها بعيدا عن أهلها وعن أشقائها أجمعين، فامتهنت المشاكسة واحترفت إشعال الحرائق في كل أرض نزلت فيها، بعيدة وقريبة، وظنت أن الصغير بالمفخخات يصبح كبيرا، وتوهمت أن ركوب الأفاعي والحيتان والتماسيح أنفع وأكثر بردا وسلاما وحماية، وأن عصائب القاعدة و(الإخوان المسلمين) وداعش والحرس الثوري وحزب الله والسلفيين والتكفيريين المتطرفين في سورية والعراق ومصر وليبيا وتونس واليمن مشاريعُ باقية ورابحة ولن تبور.
فانظروا ماذا حصل. ينقلب السحر على الساحر، وتجارة الموت تموت، واًصحابها يخسرون، ولكنهم لا يعلمون.
1937 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع