حظ أمحيسـن ! ..الحلقة الرابعة عشر

                                            

           

                          

حظ أمحيسـن ! مـسلـسل تلفزيوني بين الحقيقة والخيال من الحياة الأجتماعية في العراق في الحقبة الواقعة في منتصف الأربعينيات ولغاية أحتلال بغدادفي 9 نيسان / 2013


                           

                            الحلقة الرابعة عشر

سارت أمور " أمحيسن" بشكل طبيعي في دراسته ، وتكونت لديه صداقات جديدة لا حصر لها, وفي أحد الأيام علم من زميله عن  رحلة الى لندن عاصمة أنكلترى ،..في صيف 1962 بحراً, فرغب بالمشاركة بها  ، وهكذا هيأ كل ما يلزم من وثائق وأمتعة  وتوجهوا بالقطار إلى مدينة " لينين جراد/ سابقاً " أي "سانت بيتربورج/ حالياً", والتي كانت تعتبر المدينة الثانية بعد موسكو، و كانت في عهد القياصرة قبل الثورة (الشيوعية) هي العاصمة، و أهملت قليلاً بعد أن تحولت العاصمة إلى موسكو، إلا أنها حافظت على طابعها المعماري للقرن التاسع عشر، إضافة إلى موقعها الجغرافي وقربها من القطب الشمالي ممّا كساها حلة ممتعة للغاية، حيث يبدأ فيها (النهار) في الصيف بالزيادة و(الليل) بالنقصان، إلى أن يصل زمن طول الليل أي فترة (غياب الشمس) للحظات!, وتسمى هذه الليالي بـ (بِيلي نوج,  أي الليل الأبيض),
 أنه لمنظر مذهل يهَّزُ الناظر هزاً، وهولا يتكرر إلا مرة في السنة !  
صَعَدَ " أمحيسن " ورفاقه ولأول مرة الباخرة الروسية من ميناء
" لينين جراد" وكانت من أبدع طراز آنذاك ، وهي عبارة عن "فِلةْ" أو "قصر", من القرن التاسع عشر مُزيّن على الطريقة الحديثة التي تبهر الداخل اليه وكأنه في حلم جميل!.. وما أن يضع الفرد رجليه على أول عتبة حتى يجد صفاً من البحريات  الروسيات الجميلات يبتسمن له, وترافقه احداهن  لترشده إلى مقصورته في الباخرة بكل أدب وذوق ،... أنهن حوريات بملابس البشر زادتهن تلك الملابس الخاصة بالبحارة رونقاً  !
وبعد ثلاثة أيام اقتربت الباخرة من ميناء لندن فلاحظ أمحيسن وزملاءه, الخزانات الهائلة والعديدة " للنفط " وراحوا يصرخون بالروسي (أَيتَّه ناشا نفتا) أي أن ما هو أمامكم هو خزانات  النفطنا العراقي !  
خيَّمتْ الدهشـة على " أمحيسن " ورفاقه عندما وصلوا لندن وتجولوا بأشهر شارع فيها,.. أنه شارع "أكسفورد" الذي ضَّمَ بين جانبيه أجمل مخازن التبضع في العالم،... أنها تبهر الناظر ومن المستحيل أن تغادرها ما لم تشتري شيئاً ما،... وقد كسبت تلك البضائع شهرة عالمية لجودة صناعتها، إضافة لأخلاق العاملين البريطانيين آنذاك التي لا مثيل لها والتي تختلف تماماً عن سياسات رجال الحكومة البريطانية. إنه الأدب الإنكليزي الذي لا ينكره بشر حتى لو كان من أشد أعداء الأنظمة البريطانية !
وبعد أسبوع قضاه " أمحيسن " ورفاقه في لندن , رجعوا إلى موسكو بالقطار عن طريق ألمانيا الشرقية - بولونيا ، وكانت الرحلة ممتعة حتى وصول القطار إلى الحدود البولونية!,..  فهنا نبه " أمحيسن " جميع رفاقه لتدقيق تاريخ انتهاء تأشرة السفر"الفيزة",وفرح الجميع لصلاحية تاشيرتهم ، إلا أن سوء حظ "أمحيسن",..جعل القطار يتأخرعن موعد دخوله الأرض البولونية، بسبب عطل فني,.. ووصل الى منطقة الحدود بعد الساعة الثانية عشـر, وعملياَ  يعني أن القطار تأخر يوماً واحد!
 فما أن دخل عسكري الحدود لتفتيش الجوازات، حتى وجد انتهاء صلاحية فيزة "أمحيسن" لمدة يوم واحد,.. ولذا طلب من " أمحيسن " النزول معه لمرجعة المفرزة العسكرية لتصحيح الفيزة لأنها "فقدت  صلاحيتها "، وضَجَّ الأصدقاء بالضحك على "أمحيسن",الذي نبههم  للتأكد من صحة فيزتهم, ولكن ما العمل؟..أن حظ ,.."أمحيسـن" أنتعش من جديد !
انزعج الجندي من ضحك الأصدقاء, وأعتقد أنهم ضحكوا على لهجته باللغة الروسية,.. ولذا أزداد حنقاً,..ومسـك  جواز سفر " أمحيسن", وطلب منه النزول إلى مقر المفرزة العسكرية لتصحيح وضعه... فأذعَّنَ " أمحيسن " لأمره, وما أن هبط ومسَّت قدمه أرض المحطة حتى أعطى الجندي أوامره للقطار بالتحرك ،... ورفاق " أمحيسن " يصرخون،.. والتفت نحوهم وهو في ذهول تام,.. حيث كان مرتدياً قميص وبنطلون وشـبشـب ,.. وليس في جيبه دولاراً واحداً , وبادلهم الصراخ ،(ولكم شسوي ما أبجيبي فلس واحد؟!), ولكن من دون جدوى,...فقد بدأ القطار بالابتعاد,.. وقاد الجندي "أمحيسن " إلى مقر المفرزه العسكرية وطلب منه الانتظار لحين عودته !
 وقف " أمحيسن " بمكانه  ينتظر ذلك الجندي, بأمل عودته حيث جواز سـفره معه, ولكن طال الأنتظار ولم يعد حتى الصباح !
 بدأ الموظفون بالوصول لعملهم وشاهد من ضمنهم ذلك الجندي اللعين فتبعه وراح "أمحيسن " يكلمه وهو (إمطنَّـشْ) أي لا يسمع ولا يتكلم, ثم أشر إلى " أمحيسن " لمرافقته ، ودخل معه إلى كبير العسكر, وتكلم معه باللغة البولونية القريبة من اللغة الروسية، وفهم من كلام الجندي أن " أمحيسن " مذنباً وسلمه جواز سفره بعد أن كتب عليه كلمات مبهمة، وطلب من الجندي أن يقود صابراً نحو القطار الواقف بمواجهة المركز العسكري.
أسـتُلَّمَ " أمحيسن " جواز سفره,  وصعد إلى القطار, وبعد لحظات بدأ القطار بالتحرك وفرح " أمحيسن " لأنتهاء تلك المشكلة, ولكنه وقع بالفخ، ليس بسبب جهله لقوانين (الفيزة)، بل للحظ الذي جعل القطار يتأخر تلك الليلة لما بعد منتصف الليل، مما جعل ذلك الجندي يعتبر " أمحيسن" مذنباً ليس فقط بسبب التأخر وإنما أنتقاماً لكرامته التي أهدرها رفاقه بضحكهم عليه للهجته المضحكة عندما يتكلم باللغة الروسية.
جلـس " أمحيسن  " على أحد المقاعد الفارغة، لاعناً حظه المتعثر وناعياً أحلامه في لقاء "الزميلة" التي تنتظره على رصيف محطة موسكو، وماذا سيقول الرفاق لها!... سرح بخياله وراح يجتر الذكريات الحلوة وأخذته سّنةَّ من النوم!

   

لم يدري كم مضى من الزمن  ولم يشعر إلا والقطار واقف في المحطة !,..فترجل ,..ووجد  أمحيسن  نفسه من جديد في محطة برلين الشرقية سابقاً...
 

                             محطة قطار برلين

فذهل للصدمة الجديدة، فقد كان يظن غير ذلك،... ولم يخطر بباله أن ذلك الجندي سينتقم منه ويعيده لبرلين, فقد كان العرف السائد في مثل هذه الحالة أن يغرم المخالف مادياً ويدفع رسوم (الفيزة) ويعاد فوراً للواسطة التي وصل بها سواء كانت قطاراً أم طائرة أم سيارة، إلا أن سوء العلاقة بين المجتمع البولوني وكراهيتهم للروس إضافة لأنزعاج الجندي من رفاق " أمحيسن " كان السبب في الأنتقام من " أمحيسن  " وإعادته إلى من حيث وصل !
راح "أمحيسن" يتجول في بهو محطة قطار برلين الشرقية ,..و ينظر بوجوه الناس, وهو منهار، فمنذ البارحة وهو بلا مأؤى بلا أهل بلا بلد ,فلم يذق  طعاماً ولا نوم ، فكاد أن يسقط من التعب إلى أن وقعت عينه على جندي روسي، وركز"أمحيسن" نظره على العلامة المميزة على قبعتة,(المطرقة والسندان, شعار الأتحاد السوفيتي السابق),.. فتقدم نحوه وكلمه باللغة الروسية ، فرحب الجندي بـه واستمع لقصته، ثم قاده إلى  مركزالأنضباط  العسكري الروسي
في الطابق الثاني في محطة القطار ،.. وبعد استراحة قليلة ، طلب الجندي من "أمحيسن", أن يتسطح على سريره في غرفة الحرس ، وعلى الفور رمى " أمحيسن " نفسه, .. وغط في نوم عميق، ولا يدري كم مضى من الوقت ، حتى وجد الجندي واقفاً أمامه,.. وبمعيته شاب وسـيم بملابـس مدنية زاهية، وبادر بالسلام على " أمحيسن " واستمع إلى قصتة كاملة، ثم طلب منه التوجه معه، فطاع " أمحيسن " الأمر,.. ونهض و رافق الرجل الروسي بسيارته الدبلوماسية، وبعد فترة توقفت السيارة أمام مخزن راق للملابس الجاهزة، وطلب الرجل من " أمحيسن " أن يختار لنفسه أي شيء يرغبه من الملابس الداخلية وبدلة كاملة، وهكذا نفذ "أمحيسن" الأمر,.. ودفع الموظف الروسي ثمنها ،.. ثم رجعا بعد ذلك إلى فندق ممتاز, وتكلم مع الأستعلامات باللغة الألمانية، وطلب من أمحيسن التوقيع على فاتورة خاصة، وسلمه مفتاح غرفته ,ثم طلب من " أمحيسن " الإقامة بهذا الفندق لحين تسوية التأشيرة (الفيزة), ثم سلمه ظرفاً يحتوي بعض النقود, وأبى " أمحيسن" استلامه، إلا أن الشاب الروسي أكد لصابر أن هذه النقود وجميع ما صرف عليه هو دين بذمته سوف يستقطع من راتبه عند عودته إلى موسكو!
شكر " أمحيسن " مُضيفه ، وودعه على أمل اللقاء معه بعد أيام، وتوجه نحو غرفته، واستكن بذلك الفندق عدة أيام حتى اكتمال فيزته.
فبعد اسبوع, حضر الشاب الروسي ,ومعه جواز سفر" أمحيسن" وبه كافة التأشيرات بشكلها النظامي، وتوجها معاً في الموعد المحدد لانطلاق  القطار المتوجه نحو موسكو، وبعد استكمال الإجراءات الرسمية ودع " أمحيسن " مضيفه وداعاً حاراً ودخل مقطورته ولوح بيده لذلك الإنسان المفعم بالوفاء، وبدأ القطار بالتحرك ودقات قلب " أمحيسن " تزداد ضرباتها وفق ضربات عجلات القطار!... وكيف لا وشوق " أمحيسن " وصل لدرجة الأتقاد، أو قل أن روح " أمحيسن " تحلق في سماء موسكو باحثة عن الأحبة لتبشرهم بقدوم " أمحيسن " قريباً.
وبعد أيام  وصل " أمحيسن" العاصمة واستقبله الزملاء بكل حفاوة, وفي اليوم التالي صباحاً عرج على قسم الأجانب في الجامعة وأبلغهم بما حدث له في الحدود البولونية، وقدم رسالة خطية للعاملين في السفارة السوفيتية في برلين يثمن فيها موقفهم الإنساني ويشكرهم على عنايتهم به ,..وخاصة ذلك الشاب الروسي الذي اعتنى به طيلة إقامته في العاصمة برلين الغربية , وبعد أشهر لم يشعر "أمحيسن" بأي نقص براتبه ، ولما راجع قسم الحسابات لمعرفة السبب , قيل له: أن كل ما صرف عليك, هدية من سفارة الأتحاد السوفيتي !
وبعد أن استقر " أمحيسن" بعض الشيء من العناء الذي عاناه من رحلته إلى أوروبا، والمطب الذي هزَّ استقراره في الحدود الألمانية - البولونية،... انهمك في متابعة دراسته، والتقى مع أستاذه عدة مرات، وبدأ يطبق خطط البحث بكل جد واجتهاد لفتت أنظار زملاءه !
وفي أحد الأيام واتصلت صديقة "أمحيسن", لتعلمه بسـفر والدتها إلى أختها في ضواحي موسكو,.. ودعته لزيارتها في شقتها , ورحب  "أمحيسن"  بالفكرة,..وحُددَ الوقت المناسب , وما أن أقترب الموعد, خرج إلى أقرب "سوبر ماركت" للتسوق لأعداد العشاء,.. فأشترى كل ما يحتاجه من مواد غذائية, وتوجه نحو بيت الحبايب ,..فأستقبلته الزميلة بحرارة ,..وهي تردد "هذه ليلتي", ولم تتكن للمستخبي والمستور,..فما أن تم أعداد كل ما هو ضروري للسهرة
وجلسا ليحتفلا بهذا اللقاء بعد فراق طويل,..حتى داهم الغرفة زوج والدتها,.. فرأى ابنة زوجته"  تعانق أمحيسن " فهاج  كالثور,..وكاد أن يضرب امحيسن  بقنينة شراب كانت بيده، .. ومنعته الفتاة ,..وراحت تصرخ,.. وتجمع الجيران ,.. وأنقذوا أمحيسن  من خطر كاد يعصف بحياته !

                                            

مرت عدة أسابيع على تلك الحادثة ,..فهدأ "أمحيسن ", ووافق على أقتراح صديقته لقضاء عطلة نهاية الأسبوع بالسفر الى خالتها  التي تسكن في إحدى ضواحي موسكو مع زوجها في بيت قروي يسمى "الداجه".
أشترى "أمحيسن" كالعادة  كل ما يتطلب من مواد لتحضير وجبة عشاء عراقية,..وتوجه نحو محطة مترو السوكول :

    
محطة مترو السكول التي تُعَد من أجمل محطات المترو (قطار تحت الأرض).

ووفق الموعد تم اللقاء ,..وبعد عتاب وهمس وعناق ,..توجها الى بيت الهنا,..مستخدمين القطار العادي ,..ووصلا المنطقة الريفية في غضون نصف ساعة,.. فأستقبلتهما الخالة وزوجها بطريقة تشبه الى حد بعيد طريقة القرويين في العراق عند استقبال الضيوف!,..
        


       مائدة الطعام وقد احتوت ما لذ وطاب من الأكلات العراقية

وعلى اية حال وجدا الضيوف متكأ لائقاً بهما,..وخلعا ملابس السفر وارتديا ملابس البيت ثم دخلا المطبخ وبدأ "أمحيسن" يعد الطعام وزميلته تساعده , وما أن تم الطبخ ,.وضعت الصخون على المائدة وتجمع الضيوف وأهل البيت حولها,..وهم بنشوى لرؤية هذه الأنواع من الطعام.
  كان أمحيسن فرح وسعيد لمشاعر خالتها وزوجها لتذوقهما الأكل العراقي,.. وبعد شرب الشاي ,..أقترحت (آلـيسا..), على أمحيسن التمشي في (البارك ) القريب من البيت  قبل أن يحل الظلام ,..فطاوعها أمحيسن,..وودعا الخالة وزوجها متمنين لهما نوماً سعيداً !
وعلى اية حال شعر أمحيسن بقدوم النحس ,..فمن غير الممكن أن يستمر النعيم كل هذه الفترة!,..وراح يتعوذ من الشيطان,..وعانق صديقته وشكرها لتهيئتها هذا الجو (الرومانسي), الممتع ,..ولكن ,..وكما حدس أمحيسن فمن المحال أن يسير حظه بالأتجاه الصحيح,..فلا بُدَ من مطب غير متوقع سيطمر مشاعر السـعادة مع صديقته,..وفي هذه اللحظة صَرخ أمحيسن بأعلى صوته,..وهم يتفحص ساقه وأذا بعقرب قد تسلقتها وقرصته ,..
وبسرعة تخلص منها بعصى,..ولكن وعلى ما يبدو, قد تسرب السم في ساقه وبدأ يستغيث ,..وما كان امامهما سوى العودة للبيت ,..وفزعت الخالة وزوجها واستعانوا بجيرانهم الذي يملك سيارة وقام بنقله بسرعة الى مستوصف المحلة ,..فأعطوه بلسم ضد سم العقرب ! وراح يردد ,..خلي بس هل الليله تكمل ,..يا حظ النحس!

*****
يتبع في الحلقة 15
للراغبين الأطلاع على الحلقة الثالثة عشر:

http://tcharm8.myhostpoint.ch/maqalat/9193-2014-03-02-20-49-11.html

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

847 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع