بعض غربة العراقيين....

                                         

                  الدكتور حسام داود خضر الإربلي

                               

في تعليق لي على صورة بهيّة لأخي جلال چرمگا ، توسّط فيها شارعا في سوق شعبية عامرة ، في إحدى ضواحي زيوريخ ، نزلها على ما أتذكر تبضُّعا أو إمتراء .

قلت :يا لها من طلَّة حزينة يطلّ فيها أخي جلال على متابعيه ومحبِّيه ومعارفيه في أربيل والسليمانية وبغداد .
قال : والله يا دكتور،كل هذه الفانتازية الحياتية القائمة عندنا ، لا أبدِّلها بأزقّة من أزقّات تيراوة (محلة شعبية في أربيل) ، ولا بركن من أركان ( السعدون ) التعبانة ببغداد ، ولا بمحلة من محلاّت ( سرشقام ) المهملة بالسليمانية .
قال : أرجو أن تكتب ما تداوي به جرحي في الغربة ، فبصري ما يزال يرنو إلى العراق .
قلت : صدقتَ وصدق أبو تمّام لمّا قال :
كم منزلٍ في الأرضِ يألفه الفتَى    وحنينُه أبـــــــــــــدًا لأول منزلِ
أو مَنْ قال :   
 لَقُرْبُ الدارِ في الإقْتَـــــــارِ خيْـرٌ    مِنَ العيْشِ المُوسَّعِ في اغْتِرَابِ
( الإقْتَار : الإفْتِقار )
أجل صَدَقْتَ ، أخي جلال ، والشــاعر يؤيِّدك،أو لنقل أنتَ تؤيِّدُه على الجملة في قوله :
إذا ما ذكـــرتُ الدَّارَ فاضَتْ مدامعي    وصــــارَ فؤادي نهبَةً للهماهمِ
حنينًا إلى أرضٍ بها اخْضَرَّ شاربي    وحلَّتْ بها عنِّي عقـودُ التمائمِ
لكن أليس صادقا صدوقا ، مَنْ قال :
وإذا الدِّيـارُ تغيَّرَتْ عن حالها        فَدَعِ الدِّيارا واسْرَعِ التَّحْويلا
ليس المقامُ عليكَ حَتْمًا واجِبًا        في بلْدَةٍ تَدَعُ العَزيـــــزَ ذَليلا ؟
أجل أخي جلال ، أُصَدِّقُكَ القول في أنَّ المرءَ مجبول على حبّ أرضه ومربع صباه ووطن آبائه وأجداده ، ولكن كيف تستقيم له الحياة إزاء وحشة ميادين العراق، أنت
فيها ذليل ومُهان ومطارَد ومطلوب ومغترب . وفي أقل تقدير لا تشعر بالآمان ، ولا تشعر بالمواطنة، والوجوه التي تتعامل معها اضطرارا، لا تمتّ إليك بصلة ،أو هكذا تشعر في الأقل . وعندما تبيع أوتشتري أوتتعامل أوتتعايش أوتتصاهر لا تتمكن أن تمنحَ كلّ الثقة بطرفك الثاني ، فتظلّ عيناك مفتوحتين لئلا يمرَّ غَدْرٌ أو يظفر بُوْر.
ثمَّ ليس الجارُ للجار في العراق ، ولا الماءُ للنَّار ... النَّار تُحرق الغابة ، والغابيُّ بدل أن يُطْفئها يُزيِّتها ، أو ينأى بنفسه عنها في أقل تقدير .
ليس ثمّ مَنْ يجمعنا في العــراق . كلٌّ ينحر أخاه ، ويأكل لحمه ... يأكل أنواع اللحوم ، ولكن لا يشبع حتى يأكل لحم أخيه !
ليس عندنا مَن يضحك أو يفرح أو يغنِّي أو يسيح ...
كلُّ شيء فينا غربة : العقل والجهل ، والفقر والغنى ، والفرح والحزن ، والحبُّ والكراهية ، والحباة والموت .
أخي جلال ، أنتَ تعيش غربة الجسد في سويسرا ، وأنا  أعيش غربةَ الروح في العراق ، وكلانا غريبان ، وغربتي أمرُّ وأتعس ....
يا صاحب البيضة ، إجعلها بيضةَ الديك حتى لا نفقد العراقَ ، ويرقد العراقيون رقدتهم الأخيرة بنار عراقية شقيقة .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1938 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع