لا لإقحام القضاء للفكاك من الأزمات السياسية

                                               

                          الدكتور/عبدالقادر القيسي

من المحاذير استغلال الأجواء السياسية لإقحام القضاء في المعترك السياسي لخلق ثغرة للخروج من الأزمة السياسية التي يمر بها بلدنا الحبيب والتي اصبحت مجلبة للقلاقل والاضطرابات واصاب الدولة بعدم الاستقرار السياسي، ان ولوج القضاء في مواضيع ذات ابعاد سياسية عديدة منها، اجتثاث البعث كان بابا من ابواب دخول القضاء في السياسة،

ولا نريد ان نتذكر كيف اصدرت الهيئة التمييزية الخاصة بهيئة اجتثاث البعث قرارا في الدورة الماضية وبعدها تراجعت عنه بالرغم من ان قراراتها باتة، ونعتقد ان تعريف البعث الصدامي سوف يحجب عن القضاء امور كثيرة، أن القضاء لو أعمل سكِّينه في المسائل السياسية حتى لو بدون ان يعلم، يكون قد نال من نفسه ومصداقيته لدى الشعب واننا نربأ أن يُتَّخذ القضاء معبراً للمرور من الأزمات السياسية ولو كانت خانقة، لأنه في نظري أن الحرص على هيبة القضاء في نفوس الناس أولى ألف مرة من الحفاظ على الدول ككيانات ولو كان في اضطرابه في نفوسهم خلاصاً لها من التفكك.
تسييس القضاء أخطر من تسييس الدين
الأسس التي تبنى الأديان عليها راسخة وثابتة لأنها مرتبطة بقيم الخير والدعوة إلى تبني أدائه، وإلى السلام النفسي والسلام مع الآخر وإلى محبة الإنسان لأخيه الإنسان، وتقرب النفس البشرية من خالقها كي تلقاه في آخرتها وهي مطمئنة إلى حسن الثواب، وفي الدين عبادات وطقوس تعمل على مدار الساعة في تذكير الإنسان بما يحق له أن بفعله وما لا يحق له القيام به من أعمال أو تصرفات تجاه نفسه وتجاه الآخر.
وتظل بفعل القدرة الإلهية التي لا تدانى فيما أرته للإنسان وفيما تدخره ليراه في أوقات تدبرها هذه القدرة القيم الدينية راسخة وثابتة على مر الزمن، قواعدها واضحة، ومخالفوها يجنون عقاب إثمهم، ومطبقوها ثواب إيمانهم. أي لا يضير القيم الدينية الخروج عليها من أي كان من السياسيين وحيلهم ونفاقهم واستغلالهم العواطف الدينية لأنها مصانة ومحمية من السماء ولا تقبل التأويل والتبديل الانتهازيين، ويظل الدين متأصلا في الوعي الفردي والشعبي وفي ضمير الفرد وضمير الأمة في ذات الوقت، وسماحة رب السماء والعرش العظيم تتسع للعودة بالتوبة وتصحيح المسار فالذي يسيس الدين بالخطيئة إنما يظلم نفسه، ولكن المجال أمامه يظل مفتوحا على التوبة ورفع الظلم عن نفسه بما جنت والعودة إلى جادة الصواب، وتظل العدالة الالهية السماوية محيطة بكل المؤمنين متحققة بصورها الجلية، وهكذا فالخطر في تسييس الدين  أو منه، إنما يقع على مسيّسيه ولا يصيب القيم الدينية وشعائرها بأي أذى أو إخلال بما ارتسمت عليه خلال قرنين ونيف، ويحافظ الدين على طقوسه وشرائعه تحت كل الظروف دون أن تعاني أو تتبدل من نكوث المتدينين بعهودهم، وقصورهم عن أداء واجباتهم الشرعية، ويظل القانون الالهي سيد القوانين ومتسيد عليها جميعها.
القضاء ابتكار إنساني يعمل من خلال قوانين وضعية وأعراف اجتماعية أنجزتها أرادة عامة حفاظا على العدل بين الناس وحماية الحقوق والحريات، ولفض النزاعات بين الناس، وتوفيق قضايا الاختلاف بين أطرافها منعا لتفاقم الخصومات بينهم، ورفع الظلم الذي يلحق بأي مواطن من السلطات أو المجموعات أو المؤسسات العامة منها والخاصة وغيرها وتعويض المتضررين بما يتناسب مع حجم الضرر ونوعه،  وإحقاق حقوق الناس فيما اتفقت عليه التشريعات التي يراعى بها أن لا تخالف التشريعات السماوية في بعض الدول، ومن أهم الميزات التي تقترن عادة بسمعة القضاء هي ميزة العدالة في الأحكام والقرارات التي تصدر عن قضاة المحاكم، ويصدر القاضي العادل أحكامه بعد التوصل إلى القناعة التي تؤيدها الوقائع والوثائق الثبوتية التي يرتاح ضمير القاضي إليها طبقا لأحكام القانون الساري وقتئذ.
وقد صنفت المؤسسات القضائية كواحدة من سلطات ثلاث بالسلطة القضائية إضافة إلى السلطة التشريعية التي يمثلها البرلمان والسلطة التنفيذية التي تتمثل في الحكومات ومؤسساتها، ومما يستوجب التذكير، إن التصنيف السلطوي للجهات الثلاث، في الدول المتحضرة والمتطورة المشار إليها في الفقرة السابقة يُحرم تدخل أيا منها في شؤون الأخرى، فكل منها سلطة مستقلة بذاتها استقلالا تاما، إن التنسيق بينها منوط بكل منها برضاها ومبادرتها إلى ذلك، وقد اقترن هذا التصنيف بخاصيتين اثنتين:
الخاصية الأولى: إن لكل سلطة واجبات واضحة ومحددة ومعرفة بالتشريعات النافذة.
والخاصية الثانية: إن كلا منها خاضع للمراقبة والمحاسبة، بجهات ومرجعيات محددة كذلك بالقوانين المعنية بهذا الشأن.
وهكذا لم تعد دول المعرفة المتجددة تتحدث عن أو تطالب بـ (حاكم عادل) فقد ولى ذلك العهد الذي يجمع الحاكم بيده كل السلطات ولهذا تعذر العدل على قدراته القيادية، والحديث يجري في عصر العلم والمعرفة حول القضاء العادل المستوعب لطبيعة الروابط الراسخة بين البشر، وتتباهى الدول المتحضرة في قضائها عندما يكون قضاء مستقلا عصيا على الضغوط المالية والسياسية من أي جهة كانت، وقناعة العامة في مجتمع ما بعدالة القضاء يقع في مقدمة عوامل استقرار المجتمع نفسيا واجتماعيا، وارتقاء أداء العمل والتعامل بين الناس في مختلف المواقع ومجالات العمل بكافة أنواعه وأشكاله.
كما نشير هنا إن الإعلام (أو الصحافة) لا تمثل سلطة أسماها البعض بأنها تستحق أن تكون الأولى، ويسميها البعض السلطة الرابعة لسبب بسيط وهو: نقبل بصلاحياتها ولكن قبول شرط المراقبة والمحاسبة يخل    بحرية الصحافة ويقيد الحريات الإعلامية التي من أهم ميزاتها الحرية دون قيود أو شروط من أي نوع كان. فإذا رغب الإعلاميون في تصنيف مهنتهم عليهم إبعادها عن التصنيف السلطوي التقليدي.
يسعى القضاء إذن إلى احتراف الوصول إلى العدالة الدنيوية في أحكامه التي ارتبطت بالتشريعات التي يحتكم القضاة إليها بقناعة ورصانة التفسير للقرار المتخذ، إن تسييس القضاء من أبرز مسببات الأحكام الجائرة المجانبة للعدالة القانونية الوضعية، والمحرفة للتشريعات، ويعود تسييس القضاء في أحد أهم أسبابه غير الشخصية إلى إصدار أحكام لخدمة أغراض السلطة التنفيذية، أو جهة  سياسية متنفذة بالتعرض لضغوط منها أو إغراءات تُغيب ضمير القاضي وتحفز قدرته على تحدي العدالة بتحريف نصوص التشريعات والتلاعب بمعانيها ومقاصدها التي؛ في العادة تتحيز للمتهمين(مبدأ المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ومبدأ الشك في  مصلحة المتهم )، أو ما نشهده هذه الأيام في العراق من اعتصامات ومظاهرات من الشعب ومن أحتجاجات الأحزاب السياسية والدينية ضد قرارات المحاكم التخصصية العريقة بموضوعها وعلومها وتهديد القضاة واتهام القضاء العراقي(خصوصا من المنظمات الدولية) بأنه قضاء مسيس من جهة وفاسد من جهة اخرى!! والمناداة بهتاف الشعب يريد تطهير القضاء!!.
هناك كثير من المعوقات والتدخلات في عمل القضاء وقد اعترف بها السيد رئيس الوزراء وهناك مشاكل منها، ظلم الأحكام القضائية القطعية يتمثل هذا الظلم المتعمد(غالبا) في عدم إمكانية الرجوع إلى الحق ورفع الظلم الذي وقع على أحد أطرافه بالضرورة، وإن تعدى الحق الشخصي إلى الحق بالحياة التي يفقدها المحكومون بالإعدام لأسباب أمنية بضغوط سياسية (وهذا ما صرح به رئيس لجنة حقوق الانسان البرلمانية وقبله المنظمات الدولية بصدد احكام الاعدام الاخيرة)، وهذه حالة لا تحقق صحوة الضمير فيها أي فائدة في رفع ظلم أو إعادة الحق إلى أصحابه!
ويقول الصحفي فخري في احدى مقالاته (إن التشكيك بالقضاء، حين يصل إلى السلطة التشريعية ويتحول إلى اتهام صريحٍ لأعلى سلطة قضائية بشبهة التواطؤ لصالح انحرافاتٍ سياسية خطيرة، وارتكاباتٍ تمس سلامة الدولة "ناقصة البنيان"، ووجهة تطور المسيرة الديمقراطية، فان ذلك يشكل تحذيراً من عيارٍ ثقيلٍ يتطلب وقفة جدية من أولي الأمر المختلفين).
 ان قضائنا فيه من القامات القضائية العالية ورجال القانون الأفذاذ الكثير الكثير الذين حافظوا على حياديتهم ومهنيتهم رغم ضخامة التدخلات في عملهم واعطوا أعظم شهادة في استقلالية أعمال القضاء والتي نربأ بقضائنا أن يقع فيها حفاظاً على ثقة الأمة به وباستقلاله.
وقد ورد في «نهج البلاغة» هذا القول للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، يصف هشاشة القضاء في إحدى خطبه:
«ترد على أحدهم القضية فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوب آراءهم جميعا!».
وهناك مقولة رائعة لاحد القادة الغرب قال فيها(هزيمة جيش بالميدان اهون علي من تسيس القضاء....).
وخوفاً على قضائنا أن يكون محلاً للعبث بمصداقيته لدى العوام من قبل رجال القانون أنفسهم.
قد بات مستوجباً لإعادة النظر فيه وصياغته كمؤسسة وطنية رفيعة القدر تنأى بنفسها عن معترك العمل السياسي والذي أراه كما والإعلام المُستقطب للعديد من رجال القضاء على شاشاته قد نالا منه إلى حدٍ كبير.
لذا نحتاج لنهضة تشريعية وقضائية طال انتظارها دون جدوى حتى الآن، وفي ذلك الماء الآسن ما فيه من خطر عظيم على مستقبل العراق ونظام الحكم فيها، يقول الكواكبي:
(إنها قولة حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدا بالأوتاد).
وما نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، وما توفيقي إلا بالله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور
عبدالقادر القيسي
25/2/2014

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1588 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع