اللواء غازي
في آب 2005 كنت أشغل منصب المدير العام للمركز الوطني للعمليات المشتركة ..
وكانت واجباتنا تشمل مكافحة الجريمة والإرهاب في كافة أنحاء العراق وتوزيع القطعات العراقية والمتعددة الجنسيات وتحديد قواطع عملياتها وتنقلها ورصد الحوادث ومعالجتها بالقوة العسكرية المشتركة وبالتعاون مع مديريات الدفاع المدني ووزارة الصحة وغيرها من الدوائر ذات الأختصاص مثل الكهرباء والإتصالات ، علماً أن مقرنا يعمل 24 × 7 وبموجود من الضباط عددهم 36 ضابطاً أغلبهم من خريجي كلية الأركان العراقية ورتبهم من رائد إلى لواء ومن لهم الممارسة والخبرة الطويلة في الجيش العراقي السابق والقوات الامنية والمخابرات العامة...
حينها زارني أحد كبار قادة القوات المتعددة الجنسيات وأخبرني بأن الجنرال جورج كيسي سيحضر غداً في الساعة 1700 ومعه آمر وضباط أحد تشكيلات القوات الامريكية من صنف المشاة الآلى والتي ستصل إلى بغداد قادمة بالطريق البري من دولة الكويت لغرض إستلام مسؤولياتها في نينوي وذلك لتبديل أحد ألويتهم المتضررة هناك ، وطلب مني التهيؤ لشرح الموقف في نينوى ( إيجاز الموقف في المنطوق العسكري ) على الخارطة وأمام ضباط اللواء الجديد
وفي الموعد حضر الجنرال كيسي ويرافقه كبير مترجميه وهو المستشار سعدي عثمان ( أمريكي من أصول فلسطينية ) ومعهم ما يقرب من أربعين ضابط يحملون السلاح الشخصي ويرتدون الخوذة والدرع الثقيل ضد الرصاص ومنهكه قواهم ومتعبين من حرارة آب اللهاب ( 54 درجة مئوية ) وطول الطريق الصحراوي بين الكويت وبغداد ، وعندما دخلوا صالة العمليات المبردة مركزياً ( 18 درجة مئوية ) ، نزعوا خوذهم ودروعهم الثقيلة وألقوا سلاحهم جانباً وتناولوا قناني الماء البارد وشربوها بشراهه ثم قاموا بمسح وجوههم بالمناديل الورقية ، وسمعنا أغلبهم يقولون وااااااو مع شهيق عميق وزفير يصاحبه صفير ، وتبّين أن أحدهم من النساء برتبة مقدم طبيب ( آمرة وحدة الميدان الطبية ) حيث قامت بحل شعرها بعد أن كان ذيل حصان مخبأ تحت الخوذة ، وسمعت وقتها نائبي العميد الركن مطاع حبيب جاسم وهو يقول ( شوفوا هاي شلون نثية أتخبّل؟؟) ليجيبه العقيد الركن عدنان عبيد الحلي ويقول :
سيدي يا نثية يا بطيخ شوف ذاك النقيب اللي يشك شك ويمكن هذا غلام من غلمان الجنّة ، وانا بدوري أضحك بداخلي وأقول لهم هششششش ، وكانت خدود الأمريكان حمراء قانية وأنوفهم قرمزية بسبب تعرضهم لشمس آب بينما كانت رقابهم بيضاء كجبن العرب ( كما وصفها أحد ضباطي ) لعدم تعرضها للشمس العراقية الحارقة
باشرت بشرح ووصف وتفصيل الموقف في نينوى ، وتضمّن حديثي الوضع الأمني والمعيشي السيئ في المحافظة من حيث القتل والسلب والإغتيال بين المكونات وسيطرة البيشمركة على الساحل الأيسر وتلعفر وسنجار ، وجرائم القتل والتهجير التي طالت المسيحيين واليزيدية وتفجير الكنائس ، ثم شرحت طبيعة الأرض وطرق المواصلات وألأماكن المتوقعة لتواجد الزمر الإرهابية والطرق النيسمية المتوقعة لحركتهم عبر الحدود السورية مستعيناً بالوصف على خارطة مكبرة لمحافظة نينوى بمقياس 1 / 50000 وبمؤشر يدوي ضوئي أحمر ، ثم أشرت على مواقع قوات اللواء المراد تبديله ، ثم شرحت مكونات المجتمع في نينوى المتنوع القوميات والأديان ووصفت شعبه بالمؤمن بالله وفيه من المسلمين والمسيحيين والايزيدية وتكثر فيه الجوامع والكنائس والأديرة ومعابد اليزيدية وخاصةً في بعشيقة وسنجار ... وكان الجميع يصغون بتركيز لكلامي وترجمته الفورية من قبل الأخ سعدي عثمان .... وفجأةً وبدون إستئذان تكلم أحد ضباطي وهو المقدم رمضان محمود من أهالي الموصل وقال لي بصوت مسموع وباللهجة المصلاوية : ( سيدي سيدي قلّ قلّم أكو بالموصل أربعين نبي ) !!! فلم أعير لما قاله أي إهتمام سوى إنني إبتسمت وإسترسلت بإيجاز الموقف
حينها رجاني الجنرال كيسي بالتوقف عن الكلام وسأل مترجمه :
ماذا قال المقدم ؟
فأجابه المترجم بأن المقدم قال أن في الموصل يوجد أربعين نبياً ! فما كان من كيسي إلا الإعجاب وقال إن هذا شيئ عظيم ، ثم توجه بالسؤال لي وقال : جنرال كازي ، لماذا لم تتحدث عن ما قاله المقدم ولماذا تبتسم ؟
فأجبته والإبتسامة لا تفارقني وقلت له : إن سبب عدم ذكري لما قاله المقدم رمضان هو لكي لا تصابون بالإحباط !!! ، لكون الله سبحانه وتعالى أرسل إلى الموصل أربعين نبياً ولم يستطيعوا من السيطرة على أهل الموصل ويهدونهم للسلام والمصالحة والمحبّة ، فهل بإمكانكم أن تسيطروا على أهل الموصل بهؤلاء الأربعين مسكين ( مؤشراً بإصبعي على ضباطهم ) وأن تصنعوا السلام في نينوى ؟ ...
فلم يتمالك نفسه المترجم سعدي وأطلق ضحكة قوية وأنحنت قامته الطويلة بإتجاه الأرض وهو يضرب ساقيه بكفيه .. ثم سيطر على مشاعره وترجم ما قلته ، فما كان من الجنرال كيسي وضباط اللواء الامريكي إلا الضحك الشديد وبصوت عالى ومن القلوب كما يقال..
بعدها إلتقيت عدة مرات مع الجنرال كيسي في العمليات أو في المؤتمرات والإجتماعات الأمنية والتخطيط الإستراتيجي وأنا أعلم طبعاً من خلال مواقف العمليات بالخسائر التي تتكبدها القوات المتعددة الجنسيات في الموصل ، وكل لقاء معه يقول لي وهو يبتسم : كما قلت يا جنرال كازي ( أربعين نبي لم يسيطروا على أهل الموصل فكيف نستطيع نحن؟؟ ) ...
وفي تقديري أن قرار خروج القوات الأمريكية من العراق هو ليس بسبب المقاومة الشريفة أو الغير شريفة وإنما بسبب إيمانهم بأن الله أنزل أكثر من تسعين نبياً وولياً على أرض العراق أربعين منهم في الموصل وأكثر من خمسين في المحافظات الجنوبية ولم يستطيعوا من إحلال السلام بين مكوناته !! فاتخذوا قرارهم بترك العراق لكون إستقرارة لن يكون إلا بقدرة قادر..
1464 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع