علاءالدين الأعرجي
كُلَّما أَقرأُ أو أسمعُ عن اكتِشافٍ عِلمِيٍّ أو إنجازٍ تِقانِيٍّ ( تِكْنولوجِيٍّ ) جَدِيدٍ— وَما أكثرَ ذلك في أيّامِنا هذِه!ِ— يَنْتابُني شُعورٌ مُمِزِّقٌ مُزْدَوِج: بالغِبطةِ والتَفاؤلِ مِن جِهَةٍ، وبالحزنِ والتشاؤمِ من جهةٍ أُخرى.
فالأوَّلُ نابعٌ من شُعوري كإنسانٍ عاديّ يَعيشُ في قَلْبِ هذا العالَمِ الـمُتفَجِّرِ في جَميعِ المَيادينِ، وبِخاصَّةٍ العِلْميَّة، الأمرُ الذي يُؤَدِّي إلى زيادَةِ مَعرِفتِنا بهذا الكون الهائلِ المحيطِ بِنا، واكتشافِ بعضِ أَسرارهِ وخَفاياه: صُعوداً( وأعتذر لاستخدام هذا التعبير غير العلميّ) إلى بلايينِ الـمَجرَّاتِ والثقوبِ السَوداءِ والعوالِمِ العجيبةِ التي تفوقُ الخيال، وَنزولاً إلى أَصغرِ أَجزاءِ الماَدَّةِ التي هي وَجْهٌ من أَوجُهِ الطاقَةِ الـمَحْبوسةِ، ودُخولاً إلى أعماق نُوَيّاتِ الخَلايا الحَيَّةِ لِفَكِّ أسْرارِ الشِّفْرةِ الحَياتِيَّة. كما يُسفِرُ هذا التقدم العلميّ عنْ تَفهُّمِ جَوانبِ ارتباط الأسبابِ بالنتائِجِ في جَميعِ الظَواهرِ الطَبيعيَّة، وَبِالتالي إلى رُقيِّ العَقلِ البَشريِ وتَعزيزِ الـمَعرِفَةِ الإِنْسانيَّة، واختراق آفاقٍ جَديدةٍ في شتَّى مَيادينِ الحياة. هذا على الصَعيدِ النظريِّ والفكريِّ الصرف. أمَّا في المجالِ التطبيقيِّ فإنَّ تطوُّرَ العلوم والمَعارف أسفَر، كمَا هو مَعلوم، عن مُكتشَفاتٍ ومُبتكَراتٍ تِقانيَّةٍ شامخةٍ ومفيدةٍ لا حَدَّ لها، سواءٌ في مَيادينِ تَسهيلِ الحياةِ العمليَّة، أو تحقيقِ الرفاهيَّةِ لنسبةٍ عاليةٍ من البَشَر، ابتداءً من فوائدِ الطاقةِ الكهربائيَّةِ المتعدِّدة، إلى الاستخداماتِ المتَوَالِدةِ للأقمارِ الاصطناعيَّة، إلى مُعالجةِ الأمراضِ والجِراحةِ المتقدِّمة، وزَرعِ الأعضاءِ البَشريَّة بما فيها القَلب والكَبد واليد والذراع، والهندسة الجينيَّة، ورَدمِ المسافاتِ الجغرافيَّةِ والمادِّيـَّةِ والفكريَّةِ والحضاريَّةِ بين البَشَر، الأمرُ الذي أصبحَت فيه الأنباءُ الخاطفةُ والمعارفُ الأساسيَّةُ والمعلوماتُ الدقيقة، في مُختلفِ الميادين، مُتاحةً لمعظم الناسِ تقريبًا، وعلى نحوٍ أصبحَ فيه العالمُ بحقٍّ قريةً صغيرةً، كما يُقال. وكلُّ هذا يؤدِّي إلى تفاعُلِ الثقافاتِ وتلاقُحِ الحضاراتِ وانطلاقِ الحِوَاراتِ وانفتاحِ الأفكارِ وتفجُّرِ الطاقاتِ الجماعيَّةِ والفرديَّة. وتشكل الثورات العربية التي تفجرت منذ مطلع عام 2011 ، دليلاً على ذلك لاسيما من ناحية بث الأخبار الموثـــّـــقة بالصور حول جميع أحداث الثورة وتطوراتها، مما اعتبر عاملاً مهماً لنجاح معظم الثورات، بالاضافة إلى عوامل مهمة اخرى طبعاً.
أمَّا الشعورُ الثاني، الذي يتَّسِمُ بالأَسى والسَّوداويَّة، فإنَّه نابعٌ من كَوني إنساناً عربيًّا مهموما ً بقضايا الأمَّـة العربيَّـةِ، يُدرك بعمقٍ ووضوحٍ حقيقةً صارخَةً ترتبطُ ارتباطًا وثيقًا بظاهرةِ الثورةِ العلميَّةِ والتِّقانيَّة، ونادرًا ما تتـناولُها، حسبَ عِلمي، أقلامُ الكُتَّابِ والمفكِّرين. هذه الحقيقةُ مَفادُها أنَّ كلَّ تقدُّمٍ عِلميٍّ أو تِقانيٍّ يُحقِّقهُ الغَربُ يُؤدِّي إلى تفاقُمِ الأزمةِ الخانقةِ التي تُعاني منها أُمَّـتُنا العربيَّة، وبالتالي إلى زيادةِ تخلُّفِنا عن رَكْبِ الحضارةِ العالَميَّة، بسببِ تزايُدِ سعَةِ الشقَّةِ بيننا وبينَه، على النَحوِ الذي سأُحاولُ تفصيلَه وتحليلَه في هذا البحث، قَدْرَ الإمكان، من خلال عدَّةِ خُطواتٍ (ورَدت في خطَّةِ البحثِ أدناه). هذا على صعيد المجتمعِ العربيِّ، أمَّا على الصَعيدِ العالَميّ، فيُمكن أن نُضيفَ إلى سلبيَّاتِ زيادةِ التقدُّم التِّقانيِّ عدَّةَ أمورٍ أُخرى، أهمها تطور صناعة الأسلحة ذات التدمير الشامل، وأخرى لا تزالُ خاضعةً للجَدَل، منها تدهورُ البيئةِ الطبيعيَّةِ والانحباسُ الحراريّ، والنتائجُ الإنسانيَّةُ للاستنساخِ البشَريِّ والعَولَمة، في مظاهرها السالِبة، والقضاءُ على الثقافاتِ المحلِّـيَّة أو تراجعُها أَمام التطوُّراتِ المُستَحدثة. وعلى الصعيدِ العربيِّ والإسلاميّ، تأثيرُ ذلك التقدُّم على القِيَمِ والمُعتقداتِ والثقافاتِ والمؤسَّساتِ والتُراثِ أو الهُويَّة.
خطَّةُ البحث
سنحاولُ تناولَ موضوعِ البحث من خلالِ الفرُوعِ التالية: أوَّلاً، التحفُّظاتُ وتحديدُ مَعاني بعض المـُصطلحات. ثانيًا، تفسيرُ جَوهر القضيَّة، أي ما هي آثارُ هذه الثورةِ العلميَّةِ والتِّقانيَّةِ على الأمَّةِ العربيَّةِ ومُستقبلها ومَركزها على الساحةِ العالَميَّة. ويتعرَّضُ الفرعُ الثالثُ لبعض الشواهِد التي تُشيرُ إلى حقيقةِ تخلُّفِنا العِلميِّ والتِّقانيّ بالمـُقارنة مع تقدُّم ”الآخَر“. ويتعمَّقُ الفرعُ الرابعُ في تاريخ هذا التخلُّفِ وأسبابهِ البعيدة والقريبة؛ ونتناولُ من خلالِ هذا الفرع أيضًا تأثيرَ العقلِ الـمُجتَمَعيِّ على نظرةِ العَربِ إلى العلومِ والتِّقانة، فضلاً عن دَورِ العَقل الـمـُنفَعِل في ذلك التخلُّف. ويبحثُ الخامسُ والأخيرُ في وسائل مُعالجَةِ ذلك التخلُّف، بما في ذلك دَور العَقلِ الفَاعِل، ودَور الإرادةِ السياسيَّةِ والاجتماعيَّة، ودَور التربيةِ والتعليم وشروطهما، وأهمِّـيَّة جميع تلك الأَدوار في دَفعِ عَجلةِ التقدُّم العِلميِّ والتِّقانيّ.
أوَّلاً: مُلاحظات وتعريفات
تَوَخِّيـًا للدقَّةِ يَنبغي أَن أُوضحَ النقاطَ التالية:
1- منَ الجديرِ بالاستِحضار والاعتبار، في أيِّ بَحثٍ سوسيولوجي ٍّ فلسفيّ، أنَّ المـَسيرةَ التاريخيَّةَ للمُجتمعاتِ والأُمَم لا تُفسَّرُ بسببٍ واحدٍ أو بأسبابٍ مُحدَّدةٍ ، قد تَبدو واضحةً وبسيطة، بل تعتمدُ على العديدِ من الأسبابِ الخفيَّةِ والـمُعقَّدة التي قد يعجزُ البحثُ، مَهما كان، عن الإحاطةِ بها في الغالِب. ومع ذلكَ فإنَّ مِعيارَ نجاحِ الكاتِبِ أو الباحثِ هو في مقدارِ تقرُّبهِ من بعض تلكَ الأسبابِ أو أهمِّها، وتَحليلِها وتوضيحِها للقارئ، أو مُجرَّد إثارتها وتعريضِها لمزيدٍ من البحثِ والتَمحيص.
2- تحديد مَعنى العِلم: للعلمِ تعريفاتٌ ومفاهيمُ مُتعدِّدةٌ سنكتفي ببعضها، من خلالِ التركيزِ على نُتفٍ من المفاهيمِ المـُتداوَلةِ لدى الأوائلِ ثمَّ على المَفهوم السائِد في العَصرِ الحديث.
أ-يرى أرسطو أنَّ العِلمَ هو إدراكُ الكُلِّيـَّات وأنْ لا عِلمَ إلاَّ بالكُلِّيـَّات، أي الكَشفِ عن العلاقاتِ الضروريَّةِ بين ظواهِر الأشياء. ويَعني بذلكَ أنَّ للعِلمِ غايةً نظريَّةً يصِلُ إليها الخاصَّةُ من الفلاسِفةِ والعُلماء، خِلافًا للمَعرفةِ العامِّـيَّةِ التي تتقيَّدُ بالنتائجِ العَمليَّةِ التي تظلُّ مَعرفةً جُزئيَّة. ويُلاحَظُ من ذلك، أوَّلاً، أنَّ العِلمَ كان يُعتَبرُ جزءًا من الفلسفة، حتَّى انفصلَ عنها نهائـيًّا بعد ديكارت ونيوتُن. ثانيًا، أنَّ الفلاسفةَ الإغريقَ كانوا يَضعونَ العِلمَ النظريَّ في المقامِ الأوَّل، بَل الأوحَد، إزاءَ العِلمِ العمليِّ (الـمُفضي إلى التِّقانة) الذي ليس له مِصداقيَّةٌ ولا قيمَة. ويعودُ ذلك إلى التقسيمِ المـُجتَمعيِّ القائِم على طبقتَينِ مُتميِّزتينِ ومُنفصلتَينِ تمامًا هُما الأحرار، والعَبيد الذين يتولَّونَ القيامَ بالأعمالِ العضَليَّةِ فقط. لنُقارنْ هذا المـَفهومَ الأَرِسطيَّ النظريَّ للعِلم بالمفهومِ العمَليِّ الذي طَرَحهُ الإمام عليّ بن أبي طالب، في صَدرِ الإسلام، الذي يُنسَبُ إليه القول: ”أرفعُ العِلمِ هو العلمُ العَمَليُّ الذي يظهرُ أثرُهُ على الجوَارِح، وأوضعَهُ العِلمُ النظريُّ النقليّ. وأفضلُ العِلمِ ما نعقلهُ عَقلَ رعايةٍ لا عَقلَ رواية، فرُواةُ العِلم كثير، ورُعاتُه قليل.“
ومن هذا الحديثِ يَبْدو بوضوحٍ مدى تقدم الفكر الإسلاميِّ على الفكر اليونانيّ، من هذه الناحية على الأقل، وتطوره العمليِّ أو البراغماتيّ الذي يرفع من شأن العلم ِ العمليِّ الذي يخدم البشرية.
أمَّا الجرجانيّ فقد أَوردَ في تَعريفاته أنَّ ”العِلمَ هو الاعتقادُ الجازمُ الـمُطابقُ للواقع.“ ويقول، نقلاً عن بعضِ الحُكماء، إنَّه ”حصولُ صورةِ الشيءِ في العقل“ أو هو ”إدراكُ الشيءِ على ما هو به.“ والمقصودُ بذلك، بالتَعبيرِ الفلسفيِّ الحديث، هو تحويلُ اللامعقولِ إلى مَعقول. ويَمضي الجرجانيّ في استعراضِ تعريفاتِ العِلمِ ومفاهيمهِ وأقسامه؛ ومنها العلمُ القديمُ والـمُحدَث. فالأوَّلُ يتعلَّقُ بذاتهِ تَعالى، والثاني يتفرَّعُ إلى بديهيٍّ وضروريٍّ واستدلاليّ. كما يُقسِّمهُ إلى عِلمٍ فِعليٍّ وعِلمٍ انفعاليّ: الأوَّلُ ما لا يُؤخذُ من الغَير، والثاني ما أُخِذَ من الغَير. ويقتربُ هذا الـمَفهومُ الخاصُّ بالعِلم من نظريـتِـنا في تقسيمِ العقلِ البشريِّ إلى عقلٍ فَاعلٍ وعَقلٍ مُنفعل. وهذا أمرٌ له أهمِّـيَّتهُ التي سأتعرَّضُ لها في المكانِ المناسبِ من هذا البَحث.
ب- في المفهومِ الحَديث، للعِلمِ عدَّةُ تَعريفات، منها: أنَّه مجموعةُ مَعارفَ متَّصفةٌ بالوَحدةِ والتَعميمِ والتَجريد. ويُمكنُ القولُ إنَّ المعرفةَ أوسعُ من العِلم، فهي تَضمُّ جميعَ المعلوماتِ والأفكارِ والـمَرويَّاتِ والحقائقِ المـُتداوَلة، سواءٌ كانت يَقينيَّةً أو غير يقينيَّة.
أمَّا ما أقصدهُ بالعِلم، في هذا البَحث، فهو كلُّ جُهدٍ مُنظَّمٍ ومُكرَّسٍ لفَهمِ الظواهرِ الطبيعيَّةِ أو الإنسانيَّة، يعتمدُ على ”الاستِقرَاء“ (الـمُشاهدةِ أو الملاحظة الهادفة إلى تعميم أو استنتاج )، ويتمخَّضُ عن ”فرضيَّةٍ“ خاضعةٍ للاختِبار، إمَّا بالوَسائلِ التجريبيَّةِ المـُعتَمدَة، بالنسبةِ للظواهرِ الطبيعيَّة، أو بوسائلِ الرَصدِ والبَحثِ وتَراكُمِ الشوَاهدِ والإحصاءاتِ، بالنسبةِ للظواهرِ الإنسانيَّة، بُغيةَ إثباتِها أو تعديلِها أو نَفْيها، للتوصُّلِ إلى ”نظريَّاتٍ“ تَظلُّ خاضعةً للتَمحيصِ والاستقصَاء، بغَرضِ التوصُّلِ إلى ”قوانينَ“ ثابتة، إلاَّ إذا ظهرَ ما يُعدِّلُها. وكلُّ هذه الخُطواتِ تَعتمدُ على الرَبطِ المحُكَم بين الأسبابِ والنتائج، إمَّا تجريبيًّا أو منطقيًّا.
ج- وهناك عدَّةُ تصنيفاتٍ حديثةٍ للعلوم، نذكرُ واحدًا من أهمِّها، هو التقسيمُ الرُّباعيّ: العلومُ البَحت، مِثلُ الرياضيَّاتِ والفيزياءِ النظريَّة؛ والعلُومُ الطبيعيَّة، مثلُ علُوم النباتِ والحيوان؛ والعلُومُ التطبيقيَّة، مثلُ علوم الكهرباءِ الصناعيَّةِ والإلكترونيَّة، وهذه تَدخلُ في العلومِ التِّقانيَّة؛ والعلومُ الإنسانيَّة، مثلُ عِلم الاجتماعِ وعلمِ الأخلاقِ وعِلم التاريخ.
3- تحديدُ مَعنى الـتِّقانَة (التكنولوجيا technology): نَقصِدُ بالتِّقانة، بِمعْناها العَامّ، كُلَّ استخدامٍ لآلةٍ أو أدَاةٍ لتحقيقِ غَرضٍ في الحياةِ العاديَّةِ للبَشر، أو تسهيلِ أو تحسينِ أداءِ آلاتٍ أو أدواتٍ أخرى. فاستعمالُ الإنسانِ القديمِ للفأسِ الحَجريِّ أو الإبْرةِ الـمَصْنوعةِ من العَظْم يُعتَبَرُ نَمطاً من التِّقانة، كاسْتِخدامِ الإنسانِ الحَديثِ للحاسوبِ لشراءِ حوائجه، أو لأيِّ غَرضٍ آخر، أو كاستخدامِ رجلِ الفضاءِ لأداةٍ متطورةٍ لإصلاحِ خَللٍ أو عَطبٍ في سَفينتهِ الفضائيةِ. لذلكَ يُمكنُ القولُ إنَّ التِّقانَة سبَقتِ العِلمَ زَمَنيًّا بملايينِ السِنين، إذْ ظَهَرَتْ مُنذُ ظُهورِ الإنسانِ الصَانِع Homo Faber. وكانت في الغالِبِ تَسبِقُ العِلم، حتَّى أصبَحَت تكادُ تواكِبُه في العَصرِ الحديث. فعلى سَبيل الـمِثال، تَمَّ اختراعُ المـُحَرِّكِ البُخاريِّ واستعمالُه في مَطلعِ الثَورةِ الصِناعيَّة، قَبلَ مَعرفةِ نَظريَّاتِ الدِينامِيكا الحَراريِّة.كما تَمَّ بِناءُ الطائِراتِ واستِخدامُها قَبلَ اكتشافِ نَظَريَّاتِ الدِيناميكا الهوائيَّة. ومن جهة أخرى، كُلَّما تَقدَّمَ الزَمنُ ارتبطَ تَقدُّمُ العلُومِ بتقدُّم التِّقانَة، وأصبحتْ هذه تعتمدُ على العِلم في المـَقامِ الأوَّل، وتضاءَلتِ الفترةُ الزمنيَّةُ بين المـُكتَشفاتِ العلميَّةِ وتطبيقاتِها التِّقانيَّة. فبعدَ أن كانت 112 عامًا في حالةِ التصويرِ الضَوئيّ، أصبحتْ ثلاثَ سنواتٍ فقط في حالةِ الدوائرِ الإلكترونيَّةِ المـُتكاملة. وهكذا يمُكنُ تعريفُ التِّقانة، بالمعنى الحديث، باعتِبارها "منظومةَ الخبراتِ والمهاراتِ والصناعاتِ التي تُؤدِّي إلى توفير مُنتَجاتٍ أو خدماتٍ بالاستنادِ إلى تَراكُمِ العلومِ والـمَعارفِ والمـُكتَشفات".
4- تحديدُ مَعنى الحضارة: في إطار هذا البَحث، نقصدُ بالحضارةِ تلكَ الـمَظاهرِ الـمُتميِّزةِ بقَدْرٍ من الرُقيِّ والتقدُّمِ والرفاهيَّةِ في حياةِ مجتمعاتٍ مُعيَّنة وصَلتْ إلى مرْحلةٍ عاليَّة من سُلّمِ التطورِ البشريّ. ويُقاسُ تحضرُ تلكَ المـُجتمعاتِ، بالإضافة إلى ذلك، بمدى تقدمِها الفكريّ، بما فيه من فلسفةٍ وعِلمٍ وأدبٍ وفنٍ، وتقدمِها العمليِّ بمدى ما تُحقِقُه من مُنجزاتٍ تِقانيَّة(تكنولوجية)، وتحويلِ نتائجِ العلومِ النظريّةِ إلى أدوات وآلات ومستحضرات نافعة، أو تؤدي إلى نتائج يَستفيدُ منها المجتمعُ البشريّ ككل، الأمر الذي يُسفر عن تسهيلِ حياةِ الإنسانِ، أو تحقيقِ الرفاهيَّة والعيش الكريم له. كما نُضيفُ إلى جميعِ تلك المعاييرِ، معاييرَ أساسيَّة أُخرى تتعلقُ بمدى تَمَـتُعِ الأفراد، الذين يَعيْشونَ في كنفِ تلكَ المجتمعاتِ، بحقهمْ الطبيعيِّ في التفكيرِ الحرِّ والتعبيرِ والتنظيمِ والمـُعارضَةِ والتظاهرِ، وانتخابِ سلطاتهم الحاكمة ومحاسبتِها أو عزْلهِا، أو نَقْدِها واستبدالِها. فضلاً عن حقِ كل فردٍ راشدٍ عاقلٍ في الاشتراكِ في السُلطةِ. كما نُضيفُ حقَ الأفرادِ الطبيعي في المساواةِ أمامَ القانونِ وحقِهم في توفيرِ العَملِ والتعليمِ والتمتع بحقوق الإنسان الطبيعية والحقوق المدنية والاقتصادية والسياسية، المنصوص عليها في المواثيق الدولية.
ونحنُ نميِّزُ، من جِهةٍ أُخرى، بين الحضارةِ Civilization والثقافة Culture، باعتبارِ أنَّ الأخيرةَ تُمثِّلُ مجموعةَ المظاهرِ البارزةِ في حياةِ أيِّ مُجتمع، مهما كانَ مدى تقدُمِه أو تخلُّفه، وتشملُ العاداتِ والتقاليدَ والأعرافَ والمعتقداتِ والفنونَ والمصنوعاتِ، مهما كانت، أي بصَرفِ النظر عن مُستواها وتَميُّزها على الـمُستوى العالَميّ. فنحن يُمكنُ أنْ نتحدثَ عن ثقافةِ القبائل أو الشعوبِ البدائية، مثلاً، ولكنْ لا يمكنُ أنْ نتحدثَ عن حضاراتها. لذلك حَصَرَ المؤرخُ المعروفُ أرنولد توينبي، الحضاراتِ البشريَّةِ بإحدى وعشرينَ حضارةٍ، بينما هناك مئاتُ الألوفِ من الثقافاتِ، تبعا لتعددِ المجتمعاتِ في العالم. وبناء على ذلك، ربطنا "العقلَ الـمُجتمعيَّ" بثقافةِ المجتمعِ، ولم نربطْه بحضارتِه. لأن ذلك العقلَ يعكسُ قِـيّمَ ومعتقداتِ "الوحدةِ المجتمعيةِ"، الكبيرةِ أو الصغيرةِ، الأصليَّة أو الفرْعيَّةِ، ويسري على المجتمعاتِ البدائيَّة أو المتحضرة، على السواء، كما يَعْكِسُ تاريخَ تطورِها منذُ أقدم العصورِ، مع اختلافٍ في شِدةِ تأثيرِ بعضِ الفتراتِ أكثر من فتراتٍ أخرى، تكونُ عادةً أكثر قِدَماً .
5- تحديدُ مَعنى الأزمة: بالمعنى العامِّ، ينصرفُ إلى الضِيقِ والشِدَّة، أو الحالةِ أو الفترةِ التي تتَّسمُ بالخُطورةِ والحَسم، أو تُشكِّلُ نقطةَ تحوُّلٍ خطيرٍ أو حَاسِم، أو انعطافٍ حادٍّ في الوَضعِ القائِم. وفي سِياقِ موضوعنا، نقصدُ بالأزمةِ الحالةَ الصعبةَ التي يمرُّ بها الوطنُ العربيّ، أو بالأَحرى المِحنةَ التي تُواجِهُ العَربَ في مَسيرتهم الحضاريَّة، أو الإشكاليَّة المـُعقَّدةِ التي كانت ولا تزالُ تُصاحبُهم منذُ اصطدامِهم بالحضارةِ الغربيَّة. وهكذا فإنَّ المقصودَ بتعبير أزمةِ التطوُّرِ الحضاريِّ في الوطن العربيّ، الوارد في العنوان، وجودُ أزمةٍ (إشكاليَّةٍ أو مِحنةٍ) في المسيرةِ الحضاريَّةِ للأُمَّةِ العربيَّة، بسببِ تخلُّفها عن الركبِ الحضاريِّ العالَميّ، الذي يرتبطُ بوثوقٍ بمَدى تخلُّفها في ميدان العلُوم والتِّقانة.
ثانيًا: ماذا يَعني التقدُّمُ العلميُّ والتِّقانيُّ، على الصعيد العالميِّ، بالنسبةِ للوطن العربيِّ؟
لاشكَّ بأنَّ للتقدُّم العلميِّ والتِّقانيِّ حسناتِه المتعدِّدة الهائلة التي لا تخفى على أحدٍ، كما أسلفنا. وهي مُنجزاتٌ يلمسُها كلُّ إنسان، في كلِّ لحظة، وخاصَّةً في مجالِ نَشرِ الـمـَعرفةِ، أو استخدام الأدوات أو الآلات التي تُسهلُ الحياةَ اليوميةَ للإنسان، أو تُجَمِلُها. بَيد أنَّني سأفترضُ مُقدَّمًا، أنَّ آثارهُ الجانبيَّةَ السيِّئةَ على العَربِ يُمكن أن تكونَ خطيرة، ما لم يشترك العَربُ في إنتاجهِ وتطويرهِ على نحوٍ فعَّالٍ ومُثمِر.
وبكلمةٍ أُخرى، إنَّ آثارَ التقدُّمِ العِلميِّ والتِّقانيِّ السيِّئةَ على الذاتِ العربيَّة، في الأَجلِ القصيرِ أو الطويل، تكمنُ في فوائدهِ الكثيرةِ والـمُتوالدة ذاتِها. فيبدو لي أنَّ كلَّ خُطوةٍ تزيدُ من ذلك التقدُّمِ تُؤَدِّي إلى زيادةِ استعمالِنا لحصائِلها وتطبيقاتِها، وبالتالي زيادةِ اعتمادِنا على ”الآخر“ (البُلدان المتقدِّمة علميا وتقنيَّا)، ليسَ من خلالِ استخداماتِ آخرِ الـمُبتكراتِ الحديثةِ من الحواسيبِ ووسائلِ الاتِّصالاتِ السريعة فحَسب، بل حتَّى على صعيدِ الأمن الغذائيّ. فمثلاً كان الوطنُ العربيُّ مُكتفيًا ذاتيًّا من الموادِّ الغذائيَّةِ الأساسيَّةِ حتَّى مُنتصفِ القَرنِ الماضي، إلاَّ أنَّه أصبحَ يستوردُ نحو 90 في المئةِ منها في نهاية القَرنِ العشرين. إنَّ هذا الاعتمادَ الـمُتزايدَ على ”الآخر“، لا يؤدِّي إلى استِنـزافِ مواردِ الوطنِ الطبيعيَّةِ (النفط مثلاً)، القابلةِ للنُضوب، وحسْب، بل أصبحَ يُشكِّلُ عامِلاً حاسمًا في اعتبارنا مُواطنينَ عالَميِّينَ من الدرجةِ الثانيةِ أو الثالِثة، ما يؤدِّي إلى استغلالِنا واحتلالِ أراضينا. وبالإضافةِ إلى ذلك فقد أصبحَ العالَمُ العربيُّ يمُثِّل، بالنسبةِ للبلدانِ المتقدِّمةِ علميًّا وتِقانيًّا، سوقًا مُتاحةً وعظيمةً لتصريفِ البَضائع من جهة، واستغلالِ مَواردهِ الطبيعيَّةِ والبشريَّة، التي تَعتمدُ عليها تلكَ الدُوَلُ إلى حدٍّ بعيد، من جهةٍ أُخرى. كلُّ هذا مع مُراعاةِ مَزايا التقدُّمِ العلميِّ بوَجهٍ عامّ، والمذكور بعضُها أَعلاه. بيدَ أنَّ الاستفادةَ منها يعتمدُ على مَدى قُدرتِنا على تَبيِئتَها واستيعابِها وتوظيفِها واستِشرابـِها نظريًّا وعمليًّا، فلسفيًّا وتِقانيًّا. وهذا ما سنُحاول طرحَهُ وتحليلَه في هذه الدراسة.
يجدرُ بنا أن نعترفَ بحقيقةِ أنَّ القوَّة، لا العدلُ والإنصاف، كانت وحدَها تُشكِّلُ العامِلَ الحاسِمَ في سيادةِ الأشخاصِ والأُمَمِ منذُ الـمَراحلِ الأُولى لظهورِ البَشريَّةِ على الأرضِ حتَّى يومِنا هذا. ولا نَعني بذلكَ القوَّةَ المادِّيـَّة وحسْب، بل القوَّة المعنويَّة أيضًا، بما فيها العقليَّةُ التي كانت تتجلَّى في الماضي، على الأَغلب، في دَهاءِ الزعيمِ وحُسنِ رعايتهِ لشأنِ الأُمَّةِ وسعةِ حيلتهِ وقوَّةِ عزيمتهِ أو شَكيمتِه. أمَّا اليومَ فقد أصبحتِ القوَّةُ المادِّيـَّةُ تعتمدُ على القوَّةِ المعنويَّةِ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مَضى. وهي ليست قوَّةَ الزعيمِ الفَرد ذاتها بقدْرِ ما هي قوَّةُ أفرادِ الرعيَّة، وخاصَّةً قِواهُم المعنويَّة، بما فيها الفكريَّةُ والمعلوماتيَّةُ أو العِلميَّةُ والتِّقانيَّة، وبوجهٍ أخصّ، قوَّة عزيمتِهم وتصميمِهم. لذلك نُلاحظُ أنَّ البُلدانَ التي جَرى تدميرُها خلالَ الحربِ العالميَّةِ الثانيةِ قد استعادتْ عافيتَها بعدَ فترةٍ وجيزةٍ نسبيًّا، بل أصبحَ بعضُها يُنافسُ الدُولَ الـمُصنِّعةَ الكُبرى، بما فيها الولاياتُ المتَّحدةُ الأمريكيَّة، لا على الصَعيدِ العسكريِّ بل في المجالِ التِّقانيِّ والإنتاجيِّ، كَمًّا ونوعًا. حتَّى إنَّ اليابانَ وألمانيا أصبحتَا مُرشَّحتَينِ لاحتلالِ مَقعدينِ دائمينِ في مجلسِ الأَمن، مع أنَّ هاتَين الدَولتَين لا تَتمتَّعانِ بأيَّةِ قوَّةٍ هجوميَّة، بل بقوَّةٍ فكريَّة، نابعةٍ من حَضارةٍ متقدمةٍ، وهما بالتالي تتمتَّعان بقدراتٍ علميَّة وتِقانيَّة وإنتاجيَّة، الأمر ُالذي أسفرَ عن احترامِ العَالم المتقدِّم والنَّامي لهما. وقد أدركتْ إسرائيلُ بعُمقٍ هذه النقطة، فخطَّطتْ لتُصبحَ واحدةً من أكبرِ البُلدانِ المصنِّعة، إلى جانبِ البلدانِ الثماني الكُبرى في مَوعدٍ أقصاهُ عام 2020؛ وهي فعلاً مُرشَّحةٌ لذلك، لأنَّها تُصدِّرُ اليومَ إلى مُختلفِ البُلدان، بما فيها الصين والهند وجنوب أفريقيا، معدَّاتٍ ورقائقَ إلكترونيَّةٍ وبرامجيَّاتٍ تُقدَّرُ بعشراتِ البلايين (صدَّرتْ إسرائيلُ 21،6 بليون دولار، كان ثلثُها من السِلَعِ ذاتِ التقنيَّات العالية). هذا فضلاً عن أنَّ الحربَ الحديثةَ، بين جيْشَينِ نظاميْـيَن، تعتمدُ في حَسمِها النهائيِّ على الفِكر العِلميِّ الـمـُتقدِّمِ وما يتفرَّعُ منه من تطوُّرٍ معلوماتيٍّ و تِقانيٍّ وإستراتيجيٍّ مُتزايدٍ، كما أثبتتْ ذلك حربُ الخليج الثانية وحربُ البلقانِ التي تلتها. فضلاً عن أنَّ التطوُّرَ العِلميَّ والتِّقانيَّ يُسفرُ بدونِ شكٍّ عن زيادةِ المنعةِ الدفاعيَّةِ والقوَّةِ الرَّدْعيَّةِ للأُمَّة، وتَعزيزِ مكانتِها على الصعيدِ الدوليِّ ونفوذِها على الأُمم الأُخرى الأقلّ تقدُّمًا.
من هُنا يَبدو أنَّ المجُتمعاتِ والدُولَ التي تأخذُ بالقِسطِ الأكبرِ من العلُومِ وما يتبعُها من تِقانة، أو تُشاركُ فيها على نحوٍ فعَّالٍ ومُنتِج، تحظَى بالاحتِرام والمكانةِ والكلمةِ بين الأُمَم. وعلى العكسِ من ذلك، فإنَّ المجُتمعاتِ التي تُقصِّرُ في هذا المِضمار لا تُهمَلُ فقط، بل تُستَغلُّ وتُستَنـزَفُ، كما هو واضحٌ تمامًا في البلدانِ العربيَّة، وخاصَّةً التي تتمتَّعُ بثرواتٍ طبيعيَّةٍ كبيرة. هذا إضافةً إلى أنَّها تظلُّ مُعتمِدة، حتَّى في دفاعِها المشروعِ عن نفسِها، على ذاتِ تلكَ البُلدانِ التي تستغلُّها. ورُغم أنَّ الدولَ العربيَّةَ قد استَوردَتِ الأسلحةَ ربما بألوف البلايين. مع أنَّ لدينا تحفُّظاتٍ على نوعيَّاتِها وكفاءاتِها، لأن معظمها يكون عادة قد فاتَ أوانها أو لا تمثل آخر التطورات التِقانيَّة. لذلك ظلَّت عاجزةً عن واجبِ الدفاعِ عن النَفسِ ومُواجَهةِ التحدِّياتِ التي يتعرَّضُ لها الوطنُ العربيُّ على جميعِ الـمـُستوَيات، بل فَشِلتْ في التلويحِ بهذه القدُراتِ الـمُفترضِ تهيُّؤها من أجل رَدعِ أيِّ اعتداءٍ مُوجَّهٍ ضدَّ سيادتِها وكرامتِها. والسببُ في ذلك، كما أَرى، أنَّ الآلةَ المتطوِّرةَ الحديثةَ بحدِّ ذاتِها تظلُّ وسيلةً عقيمةً حتَّى يتيسَّرَ لها مَن يَضطلعُ بالقُدرةِ على استعمالِها بالشكلِ الـمُناسبِ والوقتِ المناسبِ وبالكفاءَةِ اللازمة، بعقليَّةٍ مُتطوِّرةٍ إلى نفسِ مَرحلةِ تطوُّر تلكَ الآلة، لا من جانبِ الشَخصِ نفسه الذي يستخدِمُها وحسْب، بل من جانبِ سلسلةٍ طويلةٍ من الإداريِّينَ والسياسيِّينَ والمسؤولينَ والـمَعنيِّينَ بالتخطيطِ والدَّعم، على كافَّةِ الأَصعِدة. فإنْ كانت واحدةٌ من جميعِ تلكَ الحلقاتِ مَفقودةً أو ضَعيفة، فإنَّ جميعَ الحلقاتِ الأُخرى تُصابُ بالشلَل، وبالتالي تَفقدُ الآلةُ فعَّاليَّتها، والسلاحُ قدرتَهُ وتأثيرَه. ومن الواضِحِ أنَّ الجهاتِ التي تُزوِّدُ بعضَ البُلدانِ العربيَّةِ بالسِلاح تُدركُ تمامًا هذهِ الحقيقةَ وتباركُها، لأنَّها تضمنُ أنَّ هذا السِلاحَ سوفَ يظلُّ إمَّا مُكدَّسًا في التِرساناتِ أو لا يُستعملُ بالكفاءةِ اللازمة، في أفضلِ الأحوال. الأمرُ الذي يَعني تأمينَ مصالِحها ومَصالِح حُلفائِها الإستراتيجيَّة، من جِهة، وتصريفِ بضائِعها التي أصبحتْ بائرةً بسببِ التقدُّمِ التِّقانيِّ السريع، من جهةٍ أُخرى. لذلك فإنَّ تزويدَ العربِ ببليون دولارٍ من أَنواعٍ مُعيَّنةٍ من الأسلحة، مثلاً، لن يؤدِّيَ إلى نَفسِ النتيجةِ التي يَتمخَّضُ عنها مَنحُ إسرائيلَ نفسَ الكمِّيـَّةِ من تلكَ الأسلحةِ وبنفسِ الـمُوَاصفات، لأنَّ إسرائيلَ قادرةٌ على استخدامِها بأَعلى كفاءَة، بل قادرةٌ على تطويرِها وتَحسينِها تِقنيًّا ودَعمِها إداريًّا ولوجيستيكيًّا، خلافاً لـمـُعظمِ البلدانِ العربيِّةِ الغنيَّةِ التي ابتاعَتِ الأسلحةَ من الغَرب.
وهكذا فإنَّ عجزَ العَربِ عن الـمُشاركةِ في عمليَّةِ الإنجازِ العلميِّ والتِّقانيِّ واكتسابِ العقليَّةِ العلميَّةِ اللازمة قد أدَّى بهم إلى الخضُوع الـمُباشِر أو غَير الـمُباشِر ”للآخر“، والاعتمادِ على الذئبِ القويِّ في حراسةِ القطيعِ الضعيف.
والخلاصةُ فإنَّنا نحاولُ تسليطَ الضوءِ على نقطةٍ أساسيَّةٍ جديرةٍ بالاهتمام، وأَعني بها زيادةَ سعَةِ الشقَّةِ الحضاريَّةِ بين البلدانِ الـمـُتقدِّمةِ والمتخلِّفة، ومنها البُلدان العربيَّة، بمرورِ الوقتِ، الذي يكونُ في مصلحة الأُولى. ذلك لأنَّ مجموعةَ البُلدانِ الأُولى تتقدَّمُ بسُرعةٍ كبيرةٍ وبوتائرَ مُتسارعةٍ أكثرَ فأكثر، يصعبُ اللحاقُ بها بسهولة. وكلَّما زادتِ الشقَّةُ سَعَةً وعُمقًا، زادت سيطرةُ الأُولى على الثانية، على نحوٍ مُباشرٍ أو غيرِ مُباشِر، ما لم تُسارعِ الثانيةُ إلى إحراقِ الـمَراحلِ لتحقيقِ التقدُّمِ العلميِّ والتِّقانيّ، عن طريقِ بَذلِ الجهودِ الـمُضاعفةِ بوسائِلَ مَدروسة وموجَّهة توجيهًا دقيقًا. ولنا من مجموعةِ النمُور الآسيويَّة مِثالٌ واقعيّ على إمكانِ القيامِ بذلك، مع مُراعاةِ العقَباتِ والمحُدَّداتِ الكُبرى والمـُعقَّدَة التي تُواجهُ الأُمَّةَ العربيَّة، والظروفِ الاجتماعيَّةِ والسياسيَّةِ والجيوبوليتيكيَّةِ الدقيقةِ والخاصَّةِ الـمُحيقةِ بها، فَضلاً عن الجهاتِ الداخليَّةِ والخارجيَّةِ التي تَسعى إلى إبقاءِ القديم على قِدَمه.
ثالثًا:حقيقةُ تخلُّفِنا العِلميِّ والتِّقانيّ
ولكن هَلْ تخلُّفُنا العلميُّ والتِّقانيُّ يُشكِّلُ حقيقةً واقعة؟ وإلى أيِّ حدٍّ؟
هناكَ عشراتٌ بل مئاتٌ من الشواهِدِ على هذهِ الظاهرة، نكتفي بذكرِ بعضِها فقط:
- يُشيرُ تقرير المؤتَمَرُ القوميُّ العربيُّ إلى أنَّ ”مُعظمَ مؤشِّراتِ التقدُّم العلميِّ والتِّقانيِّ العمليَّة، وبشكلٍ خاصٍّ في الإنتاجِ والخدمات، راوحَت في مكانِها تقريبًا خلال العَقدِ الماضي.“ كما يُشيرُ المؤتمرُ إلى أنَّ ”مُعدَّلَ الابتكاراتِ العلميَّةِ والتِّقانيَّةِ الناتجةِ ذاتيًّا في الأَقطارِ العربيَّةِ قريبٌ من الصِفر.“
- مُقابلَ ذلك بلغَ عددُ الجامعاتِ في الوطنِ العربيِّ حوالى 300 جامعة، (وهي في تزايد مستمر) تجاوزَ عددُ خريِّجيها 12مليونًا، منهم نحو مليونَي مُهندِسٍ وعالِمٍ تِقانيّ؛ وهي تضمُّ أكثرَ من خمسينَ ألفًا من أعضاءِ الهيئاتِ التعليميَّة. كما إنَّ في الوطن العربيِّ مئةَ ألفِ مؤسَّسةٍ استشاريَّةٍ، وألفَ مُنظَّمةٍ تضطلعُ بنشاطاتِ البحثِ والتطوير، ومئاتِ الشركاتِ الصناعيَّةِ الكُبرى التي تمتلكُ قاعدةَ رأسمالٍ تُقدَّرُ بعدَّةِ بلايين من الدولارات. وهذه تقديرات قديمة يمكن أن نزيدها بنسبة كبيرة اليوم. ومع ذلك لم يُسهمِ العلماءُ العَرب، المقيمونَ في الوطن العربيِّ، في وضعِ أيِّ إنجازٍ عِلميٍّ أو تِقانيٍّ خارقٍ على الصعيدِ العالَميّ. كما لم يتمكِّن هذا الجيشُ الهائلُ من الخرِّيجينَ والـمُختصِّينَ من وضعِ قاعدةٍ علميَّةٍ وتكنولوجيَّةٍ تُؤدِّي إلى إنتاجٍ صناعيٍّ مُتطوِّر يمكنُ تصديرُه، بل حتَّى الاستغناء عن استيرادِ مختلفِ السِلع الـمُصنَّعةِ الجاهزةِ الحديثة.
- يقولُ تقريرُ المؤتمرِ القوميِّ العربيِّ إنَّ ”حالَ الأمَّةِ لا يكشفُ عن أيِّ يقين، ولا يُوحي بأيَّةِ ثقَة، بل يُؤَكِّدُ أنَّهُ لا قَاعَ للتردِّي في الوطنِ العربيّ.“
ترابطُ الصِلاتِ وتبادُلُ التأثير والتأثُّر:الحلقة القاتلة
لو ربطنا بين التقدُّم العلميِّ والتِّقانيِّ الذي حقَّقتهُ البلدانُ المتقدِّمةُ النموّ، في مُختلفِ الميادين، وبين الازدهار الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ الذي تَعاصر معه، حتَّى في بلدانٍ لا تملكُ ثرواتٍ طبيعيَّةٍ تقريبًا، مثل اليابان، وبلدان النمور الآسيوية، من جِهة، وما يقابلهُ من تخلُّفٍ علميٍّ وتِقانيٍّ في مُعظم بلدانِ العالمِ الثالث، وخاصَّةً البُلدان العربيَّة، وما ينتجُ عنه من تَراجُعٍ اقتصاديّ، من جِهةٍ أُخرى، ثمَّ لاحظنا الترابُطَ الوثيقَ بين هذا التخلُّفِ الذي تُعاني منهُ الأُمَّة العربيَّة، وخاصَّةً في مجالِ العلمِ والتِّقانة، وبين النفوذِ الأجنبيّ، من جانبِ البلدانِ المتقدِّمة، على مختلفِ الصُعُد السياسيَّةِ والعسكريَّةِ والاقتصاديَّةِ والفكريَّة، لَتوصَّلنا إلى نتيجةٍ مفادُها أنَّ التقدُّمَ العلميَّ والتِّقانيَّ يُشكِّلُ حجرَ الزاويةِ في أيِّ بناءٍ تحرُّريٍّ وحضاريٍّ تهدفُ إليه الأُمَّة. وفي هذا السِياق، نُلاحظُ وجودَ حلقةٍ مُفرغَةٍ مُدمِّرة، تأخذُ بخناقنا ونظلُّ ندورُ في فلكها على نحوٍ مُتواصِل، ما لم نَجدْ وسيلةً صائبةً وحاسمةً في كسرها.
خاتمةُ
تتَّسمُ الثورةُ العلميَّةُ والتِّقانيَّةُ الحديثةُ بخصائصَ مُتفاعلة إيجابياً، من جِهة، ومُتعارضة، من جِهةٍ أُخرى. فعلى الصعيدِ العالَميِّ العامّ، أفرزَتْ هذه الثورةُ آثارًا إيجابيَّةً هائلةً على مُختلفِ الصُعُدِ العمليَّةِ والنظريَّة، ونتائجَ سلبيَّةً أحيانا، ما زالتْ مَوضعَ نِقاش. وأبرزها التلوث البيئي، الذي يمكن تجنبه إلى حد ما، لولا تشدد بعض الدول الرأسمالية الكبرى، خوفاً من أصحاب الشركات الكبرى التي لا تريد تضحي بأية نسبة من أرباحها الخرافية. وعلى الصعيدِ العربيِّ شَرحنا حسناتِ هذه الثورة وسيِّئاتها، وأكَّدنا حقيقةَ أنَّ أيَّ تقدُّمٍ حضاريٍّ يُحقِّقهُ ”الآخرُ“ قد ينعكسُ سلبًا على الوطن العربيّ، ما لم تُشاركْ بُلدانُه وشعوبُه، بفعَّاليَّة، في ذلك التقدُّم. وذلك بسببِ زيادةِ اتِّساعِ الشقَّةِ الحضاريَّةِ بينهُ وبين ”الآخَر“، الأمرُ الذي يُؤدِّي إلى زيادةِ نفوذهِ وتحكُّمِه بمقدّراتِ الأمَّةِ العربيَّة، كما يحدثُ فعلاً الآن. وبعدَ أن حدَّدنا معاني الـمُصطلحاتِ الواردةِ في العنوان، شَرحنا بشيءٍ من التفصيل، ماذا تعني هذهِ الثورةُ بالنسبةِ للعَرب، وعرضنا بعضَ الأمثلةِ التي تُوضِّحُ مَدى تخلُّفنا، وأوضَحنا ترابطَ الصِلاتِ بين الظواهرِ المختلفة. ففي الوقتِ الذي يرتبطُ التقدُّمُ العلميُّ والتِّقانيُّ بالازدهارِ الاقتصاديّ، يرتبطُ التخلُّفُ في هذين الميدانَين بالتخلُّفِ في الميدان الأخير، وبالنفوذِ الأجنبيّ. وبالتالي تدخلُ الأمَّةُ في حلقةٍ مُفرغةٍ قد تُوصلُ إلى الهاويةِ التي ليسَ لها قَرار.
يمكن القول إنَّ قانونَ تنازُعِ البقاءِ وبقاءِ الأَصلَحِ لا يَسري على الحيواناتِ فقط كما يقول دارون، بل يسري على الجنسِ البشريّ، كأفرادٍ ومجتمعات، أيضًا، وبامتياز. ومن الـمُلاحَظِ أنَّ القوَّةَ المعنويَّة، وخاصَّةً القوَّة الفكريَّة، بما فيها العلوم والمعارف، أصبحَت تحظى بالأولويَّة، لأنَّ القوَّةَ المادِّيـَّة، بما فيها العسكريَّة، تأتي نتيجةً لها. وقد أدرك آدم سميث (A. Smith)، قبل نحو مئتَيْ عام، هذه الحقيقةَ وسمَّاها فكَّ الارتباطِ مع المادَّةِ (Dematerialization). فقد لاحظَ أنَّ المهاراتِ البشريَّةِ والإبداعِ أكثرُ أهمِّـيَّةً من الموادِّ الخام. وكأن هذه النصيحة، غيرُ المقصودة، موجَّهةً إلى البُلدانِ العربيَّةِ النفطيَّة، بوجهٍ خاصّ، لأنَّ هذه البُلدان تعتمدُ في اقتصاديَّاتِها على الموادِّ الخام، وخاصَّةً النفط، الذي يُمثِّلُ سلعةً ناضبة. ويُكرِّر آرنولد توينبي (A. Toynbee) مقولتَه الشهيرة، التي استذكرناها في ِ مُناسباتٍ سابقة، بأنَّ العَالم الثالثَ عامَّةً، والعَربَ والمسلمين خاصَّة، لن يتمكَّنوا من مُواجهةِ الغَرب أو مُقارعتهِ إلاَّ بنفس أسلحته. ويقصُد بها، في المقامِ الأوَّل، العلومَ والتِّقانةَ والفكرَ والإبداع.
ويظلُّ السؤالُ القديمُ الجديدُ مَطروحًا، بصِيغٍ وأبعادٍ مختلفةٍ منها: ”لماذا تأخَّرَ المسلمونَ وتقدَّمَ غيرهُم؟“ (جمال الأفغانيّ وشكيب أرسلان)، أو ”لماذا لم تتطوَّر الأوضاعُ الاجتماعيَّةُ والاقتصاديَّةُ المتقدمة في العالَمِ العربيِّ خلالَ القرونِ الوُسطى إلى نظامٍ رأسماليٍّ قادرٍ على تحقيقِ التقدُّم المطَّرد كما حدثَ في أُوروبّا؟“ (المستشرق الماركسيّ الـمُعاصر مكسيم رودنسون M. Rodinson). أو لماذا لم تتطوَّر أدواتُ المعرفة (مفاهيم، مناهج، رؤية...) في الثقافةِ العربيَّةِ خلالَ نهضتِها في القرونِ الوُسطى إلى ما يجعلها قادرةً على إنجازِ نهضةٍ فكريَّةٍ وعمليَّةٍ مُطَّردةِ التقدُّم، على غِرارِ ما حدثَ في أوروبَّا ابتداءً من القرنِ الخامس عشر؟
أمَّا نحن، فسنقوم، في سياقِ هذا البحثِ، باستعراضِ عددٍ من الأسئلة، التي كُنَّا ولا نزالُ نطرحُها بصِيغٍ مُختلفة؛ منها:
1- لماذا لم يتنبَّه العَربُ إلى خطورةِ المعارفِ والعلومِ الحديثةِ في مَسيرة النهضة، منذُ بدايةِ اتِّصالِهم بالغَربِ في بدايةِ القرنِ التاسعَ عَشر؟ أو بالأَحرى، لماذا لم يُحاولوا بذلَ جُهودٍ أكبر في هذا السبيل، كما حدثَ في اليابان التي بدأت وعيها النهضوي بعد مصر بنصف قرن على الأقل ؟
2- ولماذا لم نتمكَّنْ من المـُشاركةِ الفعَّالةِ في الثورةِ العلميَّةِ المتفجِّرة اليوم، مع وجودِ هذا العددِ الكبير من الجامعاتِ والخرِّيجين؟ ( علماً أن لدينا اليوم حوالى 300جامعة خرجت أكثر من 13 مليون خريج!!).
3- لماذا تمكَّنت بُلدانٌ آسيويّةٌ أُخرى، مثل تايْلانْد وكوريا الجنوبيَّة وماليزيا وسنغافورة، أن تُلاحق التطوُّرَ الحضاريّ: العلميِّ والتِّقانيِّ والاقتصاديّ، فنمت وازدهرت؛ بينما تخلَّفتِ البلدانُ العربيَّةُ عن الرَكبِ، في حين كانت تلك البُلدان أكثرَ تخلُّفًا من البُلدانِ العربيَّةِ قبل نصف قَرنٍ فقط؟
4- هل يُمكنُ أن نُحمِّلَ ”الآخرَ“ مُعظمَ المسؤوليَّةِ في ظاهرةِ تخلُّفنا، أم إنَّ السببَ الأساسيَّ الحاسمَ في استمرارِ ذلك التخلُّفِ يرجعُ إلى ”الأنا“؟
5- وما هو دورُ "العقلِ المجتمَعيِّ" في تخلُّفِ الأُمَّةِ العلميِّ والتِّقانيِّ والفِكريّ؟
6- وما هو دورُ العقلِ الـمُنفعِل في أزمةِ التطوُّرِ الحضاريِّ العربيّ؟
7- وما هي الحلولُ المقتَرحةُ للتغلُّبِ على أزمةِ التطوُّرِ الحضاريِّ العربيّ؟
8- ولماذا ظلَّ التُراثُ العلميُّ العربيُّ والإسلاميُّ بعيدًا عن الوعي الثقافيِّ العربيّ، سواءٌ بالنسبةِ للشخصِ العاديِّ أو بالنسبةِ للمُتعلِّم والمثقَّف والكاتب، على الرغم من أن هذا التراث كان يتمتَّعُ بمكانةٍ مَرموقةٍ، بينما احتلَّ التُراثُ الدينيُّ والأدبيُّ كاملَ العنايةِ والاهتمام، مع ما رافقَ التُراثَ الدينيَّ من إشكاليَّاتٍ وخِلافات أثَّرتْ سلبًا على نهضتِنا وساهمتْ إلى حدٍّ بعيدٍ في تخلُّفنا؟
هذه التساؤلات، التي يُمكن أن تُطرَحَ في هذا السياق، قد تلقى بعض الإجابات ، قدْرِ الإمكان، في الفصول القادمة، ولاسيما الأسئلة الواردة في 4و5و6 .وأترك لأساتذتنا المفكرين العرب، الإجابة عن البقية الباقية.
3008 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع