د. محمد عياش الكبيسي
حقيقة العلاقة بين السنّة والشيعة في العراق 2 ـ 1
ينظر السنّة إلى أنفسهم أنهم هم بناة العراق على مدار التاريخ، فهم الذين فتحوه وهم الذين أقاموا حضارته وتاريخه المجيد، وهم الذين شيّدوا مدنه الكبرى كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط وسامراء،
كما أنهم يعدّون أنفسهم ركنا من أركان الأمة الإسلامية الممتدة من المحيط إلى المحيط، وقد تربعوا على عرشها السياسي والثقافي والحضاري لقرون طويلة، وهم بهذا المنظور يتكلمون بروح الأمة بكل ما فيها من إنجازات وإخفاقات وتوجهات وإشكالات، حتى الخلافات الدموية التي جرت بين العلويين والأمويين ثم بين الأمويين والعباسيين ونحوها لا يعتبرونها إلا خلافات داخلية كما تجري عادة في كل الأمم والشعوب ولا يتخذونها سببا لتشتيت الأمة وتعديد ولاءاتها.
وهم طيلة حكمهم للعراق لم يمارسوا سياسة التمييز أو الإقصاء، مما جعل العراق ساحة واسعة لكل الفرق والطوائف والمذاهب المختلفة، وليس هناك من بلد يضم مثل ما يضم العراق من لافتات وعناوين مختلفة ومتشابكة في كل المعتقدات والأفكار والتوجهات، وهذا ما يفسر بقاء الشيعة ومدارسهم وحوزاتهم الدينية ومراجعهم طيلة القرون الماضية.
أما الشيعة فينظرون إلى أنفسهم أنهم الامتداد السياسي والثقافي للعلويين حصرا والمطالبين بحقهم عبر التاريخ، وأن الأمة الإسلامية كلها قد تآمرت على هذا الحق، ولذلك فهم يعيشون ثقافة المظلومية ويورثونها لأبنائهم وأحفادهم حتى أصبحت جزءا من تركيبتهم النفسية والمجتمعية، ثم صنعوا لها من الطقوس والشعائر ما يعززها ويرسخها دينيا وأخلاقيا.
تجدر الإشارة هنا أن السنّة لا يتحملون مسؤولية عزل الشيعة طيلة هذا التاريخ عن المشاركة في الحكم، فعلماء الشيعة هم الذين تبنوا مذهبا سياسيا يقضي بهذه العزلة وهو الذي يتناسب عندهم مع عقيدة (الإمام المعصوم)، والذي يقضي ببطلان كل حكومة لا تكون تحت مظلة الإمام، وبعد غياب الإمام الأخير (المهدي) أصبح العمل لتولي الحكم بدعة دينية، ولم تحل هذه الإشكالية بشكل عملي إلا على يد الخميني بنظريته الجديدة(ولاية الفقيه) والتي أجاز فيها للفقيه أن ينوب عن الإمام في قيادة الدولة.
اليوم انقلبت الصورة كليا في العراق، فالسنّة الذين فتحوا العراق وبنوه على عيونهم وبأيديهم أصبحوا غير مرغوب بوجودهم في هذا (العراق الجديد)، وكان لهذا الانقلاب أسبابه الداخلية والخارجية ومنها:
أولا: سقوط الدولة وهي المرجعية الطبيعية للسنّة كما هي في كل الشعوب المتحضرة، وضياع السنّة نتيجة لهذا في متاهات سياسية وثقافية لها أول وليس لها آخر، إضافة إلى الانقسام العرقي (كردي وعربي وتركماني).
ثانيا: الدور الإيراني والذي تعمد محاصرة السنّة وإضعافهم عبر اخطبوط واسع من الأحزاب والمليشيات والتحالفات التي تتحرك كلها بإيقاع واحد رغم ما بينها من تنافسات ومشاكسات.
ثالثا: غياب الدور العربي والإسلامي والذي لم نجد له تفسيرا لهذه اللحظة سوى حالة الشلل العام إزاء قضايا الأمة كلها في فلسطين والأحواز وسوريا ولبنان وجزر الإمارات، والعراق ليس استثناء من هذا.
رابعا: الدور الأمريكي والذي أظهر انحيازا واضحا للشيعة منذ الأيام الأولى للاحتلال وإلى اليوم، كما أظهر تحالفا غريبا مع النظام الإيراني نفسه رغم ما بينهما من مساجلات إعلامية ودعائية.
إن الواقع الجديد الذي وصل إليه العراق اليوم يعد منعطفا تاريخيا لا مثيل له، وقد يكون الأخطر حتى من سقوط بغداد على يد هولاكو، بيد أن الأمة لم تستوعب هذه الكارثة لحد الآن حتى في جانبها النظري والتحليلي!
لا زال البعض ينظر للموضوع وكأنه حدث طارئ، وقد بشّروا بتغيير الأحوال فور خروج المحتل الأمريكي الذي حمّلوه وحده مسؤولية كل ما جرى ويجري، وهناك من راح يحلل المشهد برؤية سياسية مجردة، فالخلاف لا يراه إلا في دائرة المصالح والمناصب التي تتنازعها الأحزاب والتيارات المختلفة.
حقيقة أن فصل الموقف السياسي عن قاعدته أو خلفيته الثقافية واعتماد المصلحة كعنصر أساس أو وحيد في التقويم أضر في تقدير المواقف والقدرة على التنبؤ، وربما كانت صدمة الأمة في حسن نصر الله نتيجة طبيعية لهذه الطريقة في التفكير، فالذي يجمع حسن نصر الله بالخامنئي والمالكي وبشار والحوثيين هو أكبر بكثير من المصالح، وربما جاء اعتماد المصلحة في تحليل المواقف وتقويمها من التأثر بالنمط الغربي للحياة والذي طغت فيه النزعة المادية على العلاقات الخاصة والعامة، وهو ما لا ينطبق على الثقافة الشرقية بالعموم، وربما يكون من المفيد هنا التذكير بالحقائق الآتية:
أولا: إن الأحزاب المهيمنة على السلطة في العراق كلها أحزاب دينية بدون استثناء، وعلى رأسها حزب الدعوة ثم التيار الصدري والمجلس الأعلى وحزب الفضيلة وهذه كلها تنطلق من أيديولوجيا مشتركة ومرتبطة بالمؤسسات والمرجعيات الدينية.
ثانيا: ارتباط هذه الأحزاب بصورة مباشرة بالنظام الإيراني، وهو نظام أيديولوجي يعتمد على مقولات دينية وطائفية غاية في التشدد والانغلاق، ويكفينا هنا أن نذكربمقولة فيلسوف ثورتهم علي شريعتي (إن العدو هو عامل اتخاذ الموقف الصحيح..فكل حق يخرج من فم العدو ليس حقا..إذا وقد سقط الحج كشعار في يد العدو ما العمل؟ الاتجاه معلوم ومعروف الطواف بقبر الحسين هو إذاً الطواف حول الكعبة الحقيقية) التشيع مسؤولية ص86.
ثالثا: تعتمد الحركة الشيعية على مقولة (يا لثارات الحسين) وهذه الجملة يرددها الكبار والصغار المثقفون والسياسيون وتلاميذ المدارس، وهي لا شك تحدد جهة العدو المستهدف، وقد بررت لدى الشيعة قديما تحالفهم مع السفّاح الوثني هولاكو الذي دمّر بغداد وأوقف مسيرتها الحضارية، وهذه قصة معروفة، ولكن الذي لا يعرفه كثير من الناس هو تمجيد قادة الشيعة اليوم بالطوسي وابن العلقمي المتحالفين مع هولاكو، يقول الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية ص128 ( نصير الدين الطوسي قدم خدمات جليلة للإسلام) والطوسي هذا يقول فيه صاحب روضات الجنات ج6ص300 :(ومن جملة أمره المشهور..استيزاره للسلطان المحتشم هولاكو خان، ومجيئه في موكب السلطان المؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، بإبادة ملك بني العباس، وإيقاع القتل العام من أتباع أولئك الطغام، إلى أن أسال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار) ونحو هذا تحالفهم المتكرر مع الصليبيين، يقول شريعتي :(من القضايا الواضحة وجود ارتباط بين الصفوية والمسيحية حيث تضامن الاثنان لمواجهة الامبراطورية الإسلامية العظمى التي كان لها حضور فاعل على الصعيد الدولي إبان الحكم العثماني) التشيع العلوي ص 2006.
إن اعتزاز الشيعة بكل ذلك التاريخ يعني أنهم مهيئون مبدئيا وأخلاقيا لتكرار تلك المواقف نفسها وهذا ما غاب لدى الكثير من المحللين والمراقبين.
رابعا: ارتباط النشاط الشيعي المعاصر بتطلعات دينية ونفسية عميقة لظهور المهدي الغائب، فجملة المحاضرات التي يلقيها علماء الشيعة تدفع بشبابهم للانخراط في حملات التطهير الطائفي تمهيدا للظهور، ومن هنا جاءت تسمية مليشيا التيار الصدري بجيش المهدي، وهذا المعنى بالذات هو ما أكده مقتدى الصدر في أكثر من مناسبة.
خامسا: عقدة المظلومية والتي تمثل دافعا نفسيا خطيرا للانتقام ، فالمحاضن التربوية للشيعة تركز على هذا الجانب النفسي، وقد غذيت هذه الفكرة بالكثير من الخرافات والأساطير ومنها قصة كسر عمر بن الخطاب لضلع فاطمة وقتل هارون الرشيد لموسى بن جعفر إضافة إلى الاستغلال والتوظيف العاطفي الخطير لحادثة الطف
1245 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع