بقلم احمد فخري
مقدمة
الدكتور محمد فاضل الجمالي، وزيراً و رئيساً للوزراء وسياسي ومفكر عراقي مختص بالتربية. ولد في بغداد عام 1903. عين مدرساً في دار المعلمين العالية، وتدرج في المناصب العلمية حيث رقي إلى مرتبة استاذ. حمل شهادة الدكتورا عام 1927. عين مديرا عاما للمعارف ورئيسا للتفتيش العام. اختير عضوا عاملا في المجمع العلمي العراقي عام 1949. استوزر أول مرة في وزارة ارشد العمري في حزيران 1946 للخارجية، واستوزر سبع مرات أخرى منذ عام 1946-1952. أصبح رئيسا للوزراء من عام 1953-1954.
انتخب رئيسا لمجلس النواب عام 1952 ولمرتين. كان ممثلا للعراق في حفل تأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945. كان من المناضلين في المطالبة باستقلال الدول العربية خاصة دول المغرب العربي من خلال المحافل الدولية الديبلوماسية. شارك في العديد من المؤتمرات الدولية، ومثل العراق في اقطار كثيرة، واسهم في العمل التربوي. حكم عليه بالاعدام بعد الانقلاب العسكري الذي اطاح بالملكية في العراق عام 1958، ولكن لم يعدم بل اعفي عنه.
مؤلفاته
•دعوة العراق للاتحاد العربي.
•دعوة إلى الإسلام.
•العراق بين الامس واليوم.
•وجهة التربية والتعليم في العالم العربي وخاصة العراق.
•ذكريات وعبر من العدوان الصهيوني واثره في الواقع العربي
•مذكرة العراق عن قضية فلسطين
•التربية لاجل حضارة متبدلة (ترجمة).
•افاق التربيه الحديثة في البلاد النامية
•الامة العربية.. إلى أين؟
•فلتشرق الشمس من جديد على الامة العربية
•دروس من تفوق اليابان في حقل التربية والتعليم
•دور التربية والتعليم في تعريف الإنسان بحقوقه وواجباته
وغيرها من الكتب والبحوث. (المصدر ويكي بيديا)
هذه نبذة مختصرة عن حياته والآن ابدأ ذكرياتي معه.
عندما كنت مقيما بتونس وبالتحديد عام 1992، استدعيت بشكل رسمي لحضور حفل متواضع اقامته السفارة العراقية بمناسبة ذكرى السابع عشر من تموز يوليو والذي اقيم بفندق سيدي بو سعيد غربي العاصمة التونسية في خارج مبنى الفندق بالقرب من حمام السباحة.
في الاحتفال التقيت بعض اعضاء الجالية العراقية التي كانت تسكن هناك ومن ضمنهم المرحوم الاستاذ قاسم الخطاط الاديب والمفكر العراقي الكبير، الذي رحب بي ترحيبا حاراً وسحبني من يدي وقال لي دعني اعرفك بفاضل الجمالي. في الواقع كنت قد سمعت بفاضل الجمالي سابقاً من خلال الحديث مع العراقيين هناك ولكن لم يتسنى لي مقابلته وجها لوجه لذا استبشرت بذلك اللقاء. كان جالساً مع سفير العراق بتونس آن ذاك السيد حامد علوان الجبوري. هنا بدأ الاستاذ قاسم الخطاط الحديث قائلاً، "دكتور فاضل، دعني اقدم لك المهندس احمد فخري، هو من الشباب العراقي الجديد والواعي."
قلت، "انا لست كما يصفني استاذي الكبير قاسم الخطاط، فانا انسان عادي لا استحق كل ذلك الثناء"
فنظر الي د. فاضل الجمالي وقال، " ان هذا التواضع الذي على لسانك هو اكبر دليل على انك كما يقول قاسم واكثر بكثير"
شكرته على هذا الثناء واستأذنت منه كي اذهب الى الجهه المقابلة لحمام السباحة كي التحق بزوجتي هناك. وبعد ذلك اللقاء لم يتسنى لي ان التقيه او اسمع عنه حتى العام الموالي.
في عام 1993 في تونس ذهبت مع احد اللاجئين العراقيين طوعاً كي احاول مساعدته للحصول على بعض المساعدات المالية من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR.
هناك التقينا برئيس المفوضية وقتها. وكان رجلا تونسياً مسناً، رحب بنا بمكتبه وسألنا فتطوعت بالاجابة
•من اين انتم؟
•نحن من العراق. انا مقيم هنا منذ تشرين الاول 1990 اما هذا الاخ فقد حضر الى تونس منذ بضع شهور.
•اذا كنت تسكن هنا منذ سنتين فمن المؤكد انك تعرف د. فاضل الجمالي اليس كذلك؟
•بالواقع انا سبق وان التقيته في حفل للسفارة العراقية بالعام الماضي ولكن ليس لي علاقة وطيدة معه.
• وكيف ذلك يا رجل؟ انا لو كنت مكان اي عراقي هنا بتونس لقمت بزيارة ذلك الرجل العظيم كل يوم كما يزور الناس الاولياء الصالحين. ان هذا الرجل له فضل كبير على كل العراقيين والتونسيين.
•انا افهم ان لديه فضل على العراقيين ولكن كيف يكون له فضل على التونسيين؟
•دعني اقص عليك هذه الحادثة ومن خلالها تستطيع ان تستنتج ما يحلو لك.
في عام 1954 كانت تونس تحت الانتداب الفرنسي. وكانت فرنسا تعتبر نفسها الوصية المطلقة على شؤون تونس من كل النواحي. وكانت تمثل تونس بالنيابة عنها في المحافل الدولية ومن ضمنها الامم المتحدة. كان وقتها الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الدستوري الجديد الذي يحارب الفرنسيين من اجل الاستقلال. وكان د. فاضل الجمالي رئيساً لوزراء العراق وقتها.
اراد الحبيب بورقيبة ان يعرض قضية استقلال تونس على هيئة الامم المتحدة. فسافر الي نيويورك ووقف امام مبنى الامم المتحدة محاولا الدخول. الا ان الحراس خارج المبنى منعوه لانه لم يكن يحمل صفة شرعية كي يحضر الاجتماع. فحاول بورقيبة التفاوض مع الحراس بشتى السبل الا انهم لم يسمحوا له بالدخول نهائياً. وبهذه الاثناء مر الوفد العراقي برئاسة د. فاضل الجمالي فتسائل الجمالي عن سبب ذلك الضجيج فقالوا له ان رئيس احد الاحزاب المعارضة بتونس يحاول الدخول الى مبنى الهيئة لكنه لا يحمل صفة رسمية، لذلك فهو ممنوع من الدخول. هنا استدعى د. فاضل الجمالي الحبيب بورقيبة وقال له، "انت ستدخل اليوم الى الهيئة بصفتك عضو في الوفد العراقي" ثم التفت د. فاضل الجمالي الى احد اعضاء وفده ورفع منه الشارة التي كتب عليها (وفد الجمهورية العراقية) ووضعه على صدر الحبيب بورقيبة وقال له "تعال معنا، فانت من ضمن وفدي الآن، ولن يستطيع ان يمنعك احد).
لم يكن للحراس الا ان يسمحوا للحبيب بورقيبة ان يدخل القاعة مع باقي افراد الوفد العراقي. وبعد ان افتتحت الجلسة تسلم المكرفون الدكتور فاضل الجمالي كي يتحدث. واول ما نطق به هو "ساحيل المكرفون لاخي الحبيب بورقيبة للتحدث باسم دولة تونس الحرة" وهنا قام الوفد الفرنسي وغادر القاعة معبراً عن معارضته لذلك التصرف. استلم الحبيب بورقيبة المكرفون والقى خطاباً مطولا ومؤثراً حول الاوضاع بتونس وحاجة تونس للاستقلال من الاستعمار الفرنسي، ولقى ذلك الخطاب التصفيق والحماس الشديد من قبل اغلب الحضور ووقف الجميع تحية لذلك البطل القومي. نظر بورقيبة الى الدكتور فاضل الجمالي وقال له،
"لا انا ولا بلدي تونس سوف ننسى لك صنيعك هذا"
مرت الايام واستقلت تونس عام 1956 واصبح الحبيب بورقيبة رئيسا للبلاد.
وفي 14 تموز 1958 فجر العراق ثورته ضد الملكية واصبح عبد الكريم قاسم رئيساً للجمهورية العراقية، ومن ضمن الامور التي عملها هو الحكم على د. فاضل الجمالي بالاعدام. وبنفس الوقت استدعى عبد الكريم قاسم نظيره الحبيب بورقيبة رئيس دولة تونس لزيارة العراق. فاجابه بورقيبة بالرسالة المشهورة،
"سوف لن ازور بلداً يحكم على د. فاضل الجمالي بالاعدام"
وكانت تلك المقولة قد سببت وقعا شديدا على عبد الكريم قاسم الرئيس الجديد للعراق فتراجع عن حكمه وغير حكم الاعدام بالمؤبد. فعلم بذلك الحكم الحبيب بورقيبة وفعلا زار العراق ثم عاد الى بلده وهو راض تماماً. وبعد بضع شهور عفى عبد الكريم قاسم عن د. فاضل الجمالي واخرجه من السجن. بعد ان نال حريته توجه الى سويسرا. وفي تلك الاثناء علم الحبيب بورقيبة ان د. فاضل الجمالي حر طليق وهو الآن في سويسرا. فارسلني (المتحدث) الى سويسرا وقال لي سوف لن اسمح لك بالعودة الى تونس الا و د. فاضل الجمالي معك يد بيد.
وعندما التقيت د. فاضل الجمالي بسويسرا واخبرته بما امرني به الحبيب بورقيبة قال لي، "اسأل رئيسك بورقيبة: ما هي الصفة التي ساحضر بها الى تونس؟ فإن كانت بصفة لاجئ، فانا لاجئ هنا بسويسرا. فقلت له ساتصل بالرئيس بورقيبة وساخبرك بالجواب غداً. استأذنت منه وتوجهت الى الفندق. وبنفس الليلة اتصلت هاتفياً بالرئيس بورقيبة ونقلت له سؤال د. فاضل الجمالي فاجابني بورقيبة ما يلي:
"قل له بانه سيأتي الى تونس كتونسي. لاني منحته الجنسية التونسية الشرفية اليوم"
رجعت باليوم التالي الى د. فاضل الجمالي ونقلت له ما قاله لي الحبيب بورقيبة. فتبسم وقال، "اذا كانت القضية هكذا، اذا فانا آت معك"
وبالفعل عدنا الى تونس بعد يومين ووجدنا استقبالاً كبيراً لا يليق الا لرؤساء الدول. وحالما التقى الرجلان تعانقا وتحابا. وامر الحبيب بورقيبة ان يمنح داراً في منطقة المرسى بتونس. وكذلك امر له بسيارة حديثة وامر له بسائق يكون معه 24 ساعة، يخدمه ويخدم زوجته بذلك الدار. الا ان د. فاضل الجمالي كان يطلب من السائق ان يرحل الى بيته وان لا يأتي الا عندما يتصل به هو.
اما المرتب الذي خصصه له الحبيب بورقيبة فقد رفضه وقال بانه لازال قادراً على العمل، لذلك قرر ان يكون محاضرا بجامعة تونس وكان يرتزق من عمله هذا لفترة دامت 30 سنة حتى اصبح لا يقدر على التدريس فتقاعد حينها.
هنا نظرت اليه وقلت له، انت لا تعلم كم اسعدني كلامك هذا. فنحن العراقيين لم نكن نعلم بكل هذه التفاصيل. انا اشكرك بالنيابة عن جميع الشعب العراقي. خرجنا من مكتبه وكان قد قضى حاجتنا بخصوص اللاجي العراقي. وعلمت وقتها بان لدي واجب وطني وتاريخي ان اتعرف على ذلك الانسان العظيم.
في منتصف عام 1995 وبمناسبة عيد الفطر، قام سفير العراق بتونس آنذاك السيد منذر المطلق باستدعاء جميع اعضاء الجالية العراقية الى منزله الواقع بمنطقة المرسى غرب تونس. ومناسبة من هذا القبيل كنت احرص على ان اكون حاضرا بها كي اتمكن من التواصل مع ابناء بلدي ممن حرمتني المشاغل عن اللقاء بهم بالايام الاعتيادية. وصلت دار السيد السفير تمام الساعة السادسة مساءاً وصعدت الى الطابق العلوي حيث وجدت البعض من موظفي السفارة وبعض من المدعوين هناك. حييتهم واخذت مجلسي امام الباب المؤدي لتلك القاعة. وتوالى المدعوون شيئاً فشيئاً حتى امتلأت القاعة. وبعد حوالي ساعة دخل د. فاضل الجمالي بصحبة احد اصدقائه المقربين وجلسا على مقربة مني. وبعد ان وقف احد الجالسين بالقرب من د. فاضل الجمالي وترك كرسيه، انتهزت الفرصة وانتقلت الى ذلك الكرسي بجانب د. فاضل الجمالي واديت له التحية قائلاً،
"السلام عليكم دكتور. كل عام وانت بخير رمضان مبارك ان شاء الله"
"شكراً جزيلاً. وانت بالف خير"
"اتتذكر لقائنا القصير قبل 3 سنوات؟"
"اللقاء كان بفندق سيدي بوسعيد. وانت المهندس العراقي الذي قدمك لي الاستاذ قاسم الخطاط. اليس كذلك؟"
"سيدي، ان لك ذاكرة تفوق ذاكرة اي انسان عرفته بحياتي. احييك سيدي على هذه الذاكرة"
"بل الشباب الذين من نوعك يصعب نسيانهم"
تخيل اخي القارئ، هذا الانسان العظيم يمدح العبد لله بهذه الطريقة الرائعة وهذا الاسلوب المنمق الجميل.
حاولت جهد امكاني بتلك الامسية ان استمع لكل ما يقوله ذلك العملاق الفكري دون ان انبس بكلمة واحدة. لكنه كان ينظر الي بين الفينة والفينة ويقول، "وانت مولانا، ماذا تقول؟" فاجيبه برأيي الصريح بالرغم من اني لم اكن افهم حديث السياسة بتلك الحرفية. واستمر النقاش فترة لابأس بها حتى قرب الاحتفال من الانتهاء. وبدأ المدعوين بمغادرة المكان. نظر د. فاضل الجمالي الى زميله الذي جاء معه وقال،
"انذهب نحن ايظاً ام تريدنا ان نساعد الجماعة بالتنظيف؟" فتبسم الجميع. وعندما هم بالوقوف نظر الي وقال،
"يجب عليك ان تزورني ببيتي، فانا سوف اكون سعيداً بذلك"
"وانا كذلك سيدي. ساكون سعيداً بان البي دعوتك لي. الى اللقاء"
مرت بضع اسابيع واتصل بي سعادة السفير وقال بانه يريد مني خدمة. سألته عن ما يريد فقال،
"انت تعلم بان هذا العام يصادف الذكرى الخمسين لتأسيس هيئة الامم المتحدة. وقد ارسلوا دعوة الى د. فاضل الجمالي كي يحضر الاحتفال ويلقي كلمة بتلك المناسبة. والسبب هو ان د. فاضل الجمالي كان احد الناس الاوائل ممن وقعوا على ميثاق تأسيس المنظمة. وقد بحثوا بجميع انحاء العالم فوجدوا اربعة فقط ممن بقوا على قيد الحياة ومن بينهم د. فاضل الجمالي. لكن د. فاضل الجمالي رفض الذهاب الى الاحتفال وبدلاً من ذلك ارسل اليهم رسالة مطولة بالانكليزية وضح فيها سبب عدم مقدرته على قبول الدعوة. وانا بدوري اريد نشر تلك الرسالة بجريدة القدس العربي. لذلك اريد منك ان تترجم تلك الرسالة، فما قولك؟"
"استاذي سعادة السفير، انك تمنحني شرفاً عظيماً ما بعده شرف. وكيف لي ان ارفض ذلك؟ ساحضر الى مكتبك بعد قليل واخذ الرسالة"
وبالفعل انطلقت الى السفارة التي كانت بالقرب من عملي وتسلمت الرسالة من هناك ثم رجعت الى مكتبي. وبعد ان قرأتها، بدأت اشعر باني فعلا اقوم بعمل تأريخي سوف اخبر اولادي واحفادي به يوماً ما. قمت بترجمة الرسالة وللأسف لا اذكر تفاصيلها بالحرف الواحد ولكني اذكر بعض المقاطع منها وساحاول ان اسرد عليكم هذه المقاطع.
السيد الامين العام حضرات السادة والسيدات الاعضاء ممثلين للدول الاعضاء.
تسلمت رسالتكم الموقرة بالامس تدعونني الى الاحتفال بذكرى الخمسين لتأسيس هيئة الامم المتحدة والتي تضم تقريباً جميع امم العالم. والتي بنيت على ميثاق يحدد ثوابت وشروط تلتزم بها الدول كي يحققوا الامن الدائم للعالم. ولكن ما تفعله الولايات المتحدة اليوم هو نسفاً خارقاً لتلك الثوابت التي وقّعنا عليها في 26 حزيران 1945. ان الحصار الذي فرضته الامم المتحدة ظلماً على العراق والذي تسبب في وفاة الآف الاطفال في بلدي العراق لهو شرخ كبير في ذلك الميثاق الذي اصبح اداة للتخريب لا لنشر السلام والحب والوئام بين الشعوب. انتم تدعونني للاحتفال بينما يموت ابناء شعبي من الجوع. فهل يرضاها ضميركم ان احضر واحتفل؟
(طبعا لا اتذكر النص بحذافيره لكني اذكر خاتمة الرسالة وكانت كالتالي)
انتم تعلمون بان عمري ناهز الثاني والتسعون، وان رحلة من هذا القبيل سوف ترهقني كثيراً خاصة وان صحتي لا تسمح بمثل هذا العناء. لذا قررت عدم الحضور.
وختم رسالته هذه بهذه الطريقة. ان هذا الانسان يدافع عن بلده باستماتة وهو ممنوع من الرجوع للعراق وكانت قد سحبت منه الجنسية العراقية. سمعت بعد ذلك ان صدام حسين سمع بتلك الرسالة من خلال السفير العراقي ودعى د. فاضل الجمالي للعودة الى العراق لكن د. فاضل الجمالي رفض العودة وقرر البقاء بتونس.
في شهر تموز من عام 1996 اتصل بي سعادة سفير العراق وقال،
"عزيزي احمد، ما رأيك في ان نزور الدكتور فاضل الجمالي ببيته؟ فهو يسأل عليك دائماً"
"ان ذلك من دواعي سروري، متى تود الذهاب؟"
"اليوم. هل انت مشغول؟"
"كلا. سااتي حالاً"
انطلقت بسيارتي من منطقة المنزه السادس بتونس متوجهاً الى منطقة المرسى التي تبعد عني حوالي 25 كلم. وحالما وصلت الى دار السيد السفير وجدته بحديقة داره. وعندما انتبه لوقوف سيارتي جاء نحوي وقال. اقفل سيارتك سنذهب سوياً بسيارتي.
انطلقت بنا سيارة السيد السفير باتجاه المرسى اذ ان دار د. فاضل الجمالي كان قريباً من دار السفير العراقي. وعندما وصلنا هناك كان قد وصل الاشتياق عندي الى اقصى الدرجات. طرقنا الباب ففتح هو الباب ورحب بنا ترحيباً حاراً وادخلنا الى صالة الاستقبال ببيته. وحالما جلسنا على الارائك قال،
"لحظة واحدة ويحضر الشاي"
حاولنا التملص من تلك الدعوة كي لا نجعل عليه حرج الا انه لم يقبل التراجع عن عرضه. وبعد بضع دقائق عاد وهو يحمل صينية فضية وعليها ثلاث اقداح شاي (استكان) وصار يقدم لي الشاي اولاً ثم الى السيد السفير. اخذ قدحه من الصينية وعاد وجلس على اريكة مقابلة لاريكتنا وبدأ الحديث،
"انا جداً سعيد بحضوركم هذا اليوم"
فرد عليه السيد السفير بنفس الدبلماسية والاحترام ثم بدأ د. فاضل الجمالي بالتحدث عن شيء صادفه اليوم حيث قال،
"اليوم نشرت احدى الصحف الاسرائيلية مقالة تفند الوجود الاسرائيلي في فلسطين وتفبرك التاريخ بشكل مغلوط جداً اذ انهم تطرقوا الى معلومات تاريخية ليس لها اي سند صحيح. لذلك قررت الرد عليهم. لقد كان ردي مسنوداً بكتاب (رسائل بن غوريون) من تأليف دافيد بن غوريون. والذي كان ينفي الكثير من الادعائات التي تدعيها تلك المقالة علما ان بن غوريون هو ابو الحركة الصهيونية وهو بمثابة الاب الروحي لجميع اليهود الصهاينة. سااتي حالاً"
انتفض د. فاضل الجمالي واتجه نحو غرفة مجاورة ثم عادة بعد بضع دقائق يحمل كتاباً قديماً مغطى بالتراب. وقال،
"ان هذا الكتاب موجود عندي منذ سنين طويلة. لقد احتفظت به بمكتبتي التي هي اعز ما املك. لدي فيها مئات الكتب. وهي تحتوي ايضاً على جميع مؤلفاتي."
فسأله السيد السفير،
"وكم عدد مؤلفاتك يا دكتور"
"انها 42 كتاباً. هم عندي بنفس معزة اولادي. لا افرط فيهم ولا اعيرهم لاي شخص كائن من كان"
وبدأ د. فاضل الجمالي يقلب الكتاب ويستخرج منه مقاطع ويقرأها علينا. وكان بالفعل مثلما قال. فالاختلاف في الرأي واضح للعيان. وهنا قال،
"لقد نشرت ردي هذا بصحف عدة وانا انتضر ردود فعل تلك القنابل عليهم"
وبعد ان عاد وعمل لنا قدح شاي آخر نظر الينا وقال،
"انا معتاد على عمل رياضتي المعتادة. وهي المشي والتنزه في المقبرة الفرنسية. هل زار احدكم تلك المقبرة؟"
فاجبناه بالنفي. قال، "إذاً هذه فرصتكم. تعالو معي."
وقف هو ووقفنا معه فتوجه الى الباب الخارجي لبيته حيث هناك رف وضع عليه مئات العكازات. نظر الينا وقال، "ليأخذ كل واحد منكم عكازا كي نخرج"
فقلنا له باننا لا نحتاج الى عكاز. نظر الينا مبتسماً وقال، "وانا كذلك لا احتاج الى عكاز اثناء المشي، الا اني اءخدها معي كرفيق لا اكثر." اخذ معه عكاز مزخرف جميل والذي قال عنه انه العكاز المفضل لديه وانطلق امامنا. في الواقع كنا نخاف عليه من الاجهاد خصوصاً وان رجلاً مسناً مثله قد لا يتحمل السير لمسافات كبيرة. ومع هذا فانه انطلق بسرعة عالية يمشي بكل ثبات وكأنه شاب بالعشرينات من عمرة وكان بالفعل لا يستند الى عكازه بل قام بتعليقه على ساعده وصارت نهاية العكاز تزحف على الارض ورائه. بعد بضع دقائق وعندما ابتدأ الشارع بالميلان نحو الاعلى بدأنا نشعر بالارهاق ونظرنا الى د. فاضل الجمالي واذا به يسبقنا بعدة امتار. وكان كلما لاحظ تأخرنا وقف واستدار الى الخلف وانتضرنا حتى نلحق به. وعندما وصلنا الى قمة التل الذي كنا نتسلقه شاهدنا بوابة حديدية مغلوقة بسلسلة حديدة وعليها قفل مغلق. تبسم وقال، دفن في هذه المقبرة الجنود الفرنسيين الذين قتلوا وهم يدافعون عن تونس. ان القائم على هذه المقبرة رجل تونسي مكلف من قبل الدولة. والمقبرة تفتح للعوام في الصباح. وتغلق الساعة الخامسة ظهراً. انا ازورها بعد الخامسة. فانا الوحيد الذي يملك مفتاحاً لذلك القفل بامر من رئاسة الجمهورية. والآن سترون لماذا.
حالما دخلنا المقبرة وجدناها حديقة غناء تسبح بالورود من جميع الاصناف والالوان. ولها منظر خلاب يطل على وادي جميل جداً. جلس د. فاضل الجمالي على احدى الارائك وجلسنا معه. وكنا نلتقط انفاسنا من عناء الجري للحاق بذلك الانسان الذي ظنناه غير قادر على السير.
بعد حوالي نصف ساعة، اقترح علينا الرجوع وقال، "لا تقلقوا، فالعودة ستكون اسهل لانها اخذةً بالهبوط. وانطلق امامنا وهو يسير بخطاه السريعة الثابتة. ونحن نهرول ورائه ونتشوق للجلوس بالسيارة. حالما وصلنا الى داره، ودعناه وركبنا السيارة وعدنا ادراجنا.
بعد زيارتي لبيت د. فاضل الجمالي ببيته للمرة الاولى مع السفير العراق. صرت ازوره بانتظام، اما مع احد الاصدقاء وهو الاستاذ قاسم الخطاط رحمه الله او اقوم بزيارته وحدي واعرض عليه كل انواع الخدمات وبكل صدق. الا انه كان دائما يشكرني ويخبرني بانه لا يحتاج الى اي مساعدة مهما كانت.
وفي يوم من الايام في علم 1997 اتصل بي احد الاصدقاء وقال لي بان د. فاضل الجمالي قد وافته المنية. كان ذلك الخبر بمثابة صدمة قوية بالنسبة لي لان د. فاضل الجمالي كان بصحة جيدة ولا يشكو من اي مرض او الم، فكيف توافيه المنية بهذه السرعة؟
اتصلت مباشرة بالسفير العراقي وسألته،
"اصحيح ما سمعت، ان د. فاضل الجمالي رحل عنا؟"
"نعم هذا صحيح. يبدو انه سقط على عتبة بابه ولم يجد احداً ينجده فتوفى. الدفنة ستكون غداً"
"واين التجمع؟"
"سنتجمع بمسجد بالمرسى ونصلي على الجثمان ثم نتوجه الى مقبرة قريبة من المسجد حيث سيوارى جثمانه هناك"
اخذت العنوان والتوقيت من السفير وانا اضرب اخماساً باسداس.
في اليوم التالي توجهت الى المرسى حيث مكان التجمع. هناك شيعنا الجثمان بمسيرة كبيرة تليق بالملوك والامراء حتى وصلنا الى المسجد. وفي المسجد اقيمت صلات الميت على الجثمان الفقيد. ثم توجهنا بعد ذلك للمبقرة حيث دفن د. فاضل الجمالي وكانت هذه حسب وصيته. فقد كان دائماً يقول اريد ان ادفن بتونس.
وهكذا انطفأت شمعة د. فاضل الجمالي وهكذا خسرنا واحد من اعظم رجالات العراق. سيبقى التأريخ يذكر هذه الشخصية المليئة بالعلم والحيوية والنور والوطنية والكفاح. رحمك الله يا د. فاضل الجمالي واسكنك الباري عز وجل فسيح جناته.
1249 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع