حظ أمحيسـن!..الحلقة الخامسة
مـسلـسل تلفزيوني بين الحقيقة والخيال من الحياة الأجتماعية في العراق في الحقبة الواقعة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي
تأليف:الدكتور عبدالرزاق محمد جعفراستاذ جامعة بغداد والفاتح وصفاقس سابقاً
الحلقة / الخامسة
بعد عام على حادث وفاة جميل وجميله الطلسـم!, يصل امحيسن الى محطة قطارغربي بغداد, فيسستقل القطارالنازل الى البصرة,لكي يزور اهله في قرية آل سـاجت بأطراف قضاء الشطرة, لواء الناصرية (محافظة ذي قار حالياً), وفي المحطة يشتري تذكرة سفر في الدرجة الأولى,..ويتوجه نحو القطارومن خلفه الحمال, وما ان يصل الى العربة وفق رقم البطاقة,..يستقبله العامل المشرف على (الفاركون), ويتلقف الحقيبة من الحمال,.. ومن ثم يلتفت لمحيسن طالباً منه التفضل بدخول المقصورة المحجوزة له, حيث سيغادر القطار المحطة بعد أقل من ربع ساعة.
يدخل امحيسن المقصورة,... ثم يتوجه نحو الشباك المطل على رصيف المحطه , وراح يراقب المسافرين على الدرجة الثالثة , أي الغلابه ,..وهم على عجلة لأيجاد مقعد لهم قبل موعد أنطلاق القطار,
حيث ركوب المسافرين بدون حجز للمقاعد ولذا ترهم يتزاحمون عند مدخل كل عربة من الدرجة الثالثة لكي يحصل على مقعد فارغ له ولمن بصحبته,..وهنا وجب علينا ان نتذكر المهاتما غاندي زعيم الهند حينما سأل: لماذا تجلس في الدرجة الثالثة؟,.. فقال:لعدم وجود درجة
رابعة ,..وعلى اية حال,.. ففي تلك اللحظة, شـاهد امحيسن امرأة ترتدي الزي الشعبي, (العباءة والبوشي), فأستلطفها,.. وركزعيناه عليها, ثم راحت تقترب نحوه وترفع البوشي عن وجهها!,.. فرأى وجهاً هـَزَ كيانه ومشاعره,..ثم بدأت تلك المرأة تقترب منه رويداً رويداً,.. وتوقفت على مقربة منه بشموخ وبسمة تخلع شغاف القلب!
يرتعب أمحيسن من شدة المفاجئة التي لا يتقبلها العقل!,..فهل حقاً ان التي امامه هي( جـ,..جـ, جميله !؟),فيصرخ بصمت,..ما العمل يا ألاهي؟!, نعم نعم,.. لا يمكن أن يخطأ, انها الحبيبة جميله,ومن المحال ورابع المستحيلات ان تختفي صورة جميلة من ذهنه ؟ انه قادرعلى معرفتها حتى لو كانت في الضباب بين مآت النسـاء المحجبات!
داهم أمحيسـن الشك في قواه العقلية ,..وراح يردد مع نفسه كلمات مبهمة, ويتعوذ من الشيطان,..وغظَ النظرعنها,..الا أن المرأة الشابة تبسـمرت امام الشباك,..وفجأة فتحت عباءتها,..وكشفت عن جسمها الموشح ببدلة مصنوعة من قماش في غاية الروعة وقالت له:
" مساء الخير!,...اشلونك يا..امحيسن!؟ ",... وبلا وعي يجيبها:
"مًن ؟..مًن ؟ هل...أنت..,أنت... جـ, ..جـ..جميله ؟",فتبتسم وتقول:
" شنو؟,..أشدعوه؟, أصار؟, نسيت حبيبتك ورفيقة عمرك جميله؟! يعود امحيسن بعض الشيئ الى وعيه, ويستجمع شجاعته ويقول:
لا,..لا, أنا لم أنسى جميله حبي الأول الذي اعيش بكنفه منذ سنين,
ولكن قيل لي انك ميته!, قتلوك وزوجك الذي خطفك مني,واتهموني بقتلك,.. وا بن عمك اراد الأنتقام مني , ولذا اجبرت على الأختفاء,.. والآن انت حَيه أمامي !؟, يا ألاهي ما الذي يحدث ؟,هل أنا في حلم؟ تنفعل جميله وتخاطبة بصوت الآمر المفتدر,.. اسمع يا امحيسن,..لم يبقى لدي وقت, فالقطارعلى وشك المغادره, خذ حقيبتك وتعال معي من غيرسؤال,.. وسوف أشرح فيما بعد لك كل شيئ!
فقال وهو ما زال في شك:
ارسلت برقية لأهلي, وسيقلقون أن لم أصل في الوقت المعروف.
ركزت جميلة نظرها, وكلمته بلغة العيون المفعمة بأشواق الماضي ونيران الحرمان , فتذكر أيام الصبا يوم كان يلعب وأياها في البستان المحيط بدارهم الواسعة, ثم زادت جميلة من حركات الأغراء الأنثوية , فشم عبيقها من على بعد, فهاجت الذكريات, وبنظرة منها وأبتسامه فهمها امحيسن فوراً, فأندفع داخل المقصورة وسحب شنطته فوراً, وهبط مسرعاً نحوها,.. وعانقها بلهفة,ورددت أغنية نجاة الصغيرة:
اليوم عاد وكأن شيئاً لم يكن = وبراءة الأطفال في عينيه !
وبعد لحظات تحرك القطار,واطلق صفارته ذات النغمة الشهيرة, لتوديع المحطة ومن فيها, وتحركت الأيادي مودعة لبعضها البعض.
يبتعد القطار عن المحطة, ويغادرمعظم المودعين والعمال والحمالين المحطة, ولم يبقى سوى امحيسن سارحاً (كالمسـطول) بجانب الحبيبة جميله,.. مصارعاً افكاره بين الحقيقة والخيال !,..
فهذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها مع جميله في خلوة بعيدة عن أنظارالأهل, وهكذا تفجرت ينابيع عواطفهما المطمورة, وطفحت علانية من دون أي مبالاة للمارة من الناس, وينهارامحيسن في خضم عبيقها المتدفق منها, وجسمها المفعم بحيويةً الصبا والجمال الفطري , فيصرخ بصمت رافعاً يديه بالدعاء "سبحانك يارب!", وعادت دقات قلبه كما كانت يوم اللقاء في القرية,..ولام نفسه لتركها لقمة سـائغة للمعلم جميل الذي هيمن عليها رغماً عنها, فالمحب عليه واجب مقدس بالوقوف جنب حبيبته مهما كانت العواقب, أن كانت راغبة بذلك وأن لا يتركها تصارع قدرها بيد الأهل والطامعين في انوثتها.
لم تستطع جميلة الهيمنة على ينبوع مشاعرها المطمورة في وحل الأستبداد والعادات السقيمة,..فأمطرته بوابلاً من القبل, وصار طوع امرها,.. فسـحبته من يـده, و أستسلم لها كالطفل الرضيع!
ومددت له يـدي لتنام = كالعصفور بين يـديه
صارامحيسن أمام الأمرالواقع , فها هي جميلة بين ذراعيه , ومن المستحيل التنكر لما يراه,..أنها الحقيقة وليس حالة من الحالات التي يتكهن بها , وتحدث فعلاً, وان قصة موتها وعودتها للحياة قد اعد لها اعداداً ذكياً, لا يمكن أن تخضع لقوانين الطبيعة ,ولا بُدَ من كشفها, ثم استدرك وصمت للحظة , ولم لا تكون خاضعة لقانون الميتافيزيقية,.. فالعلم جديد وغير معروف لعامة الناس ,..وقد يحين الوقت ونفهم عن هذا العلم ولا نستغرب بنتائجه,..فقد كنا لا نصدق أن الأنسان قد ينزل على سطح القمر وعشنا آلاف السنين ونحن نتغزل به الى توصل العلم لأكتشاف الطاقة اللازمة لكي يفلت الجسم من جاذبية الأرض وتحقق للأنسان ماكان يحلم به!
خلد أمحيسن للصمت قليلاً وراح يتسـائل لماذا عادت لي؟, ولماذا تزوجت وهي ما زالت تحبني بجنون؟... ثم تهدأ عواطفه, ويردد مع تفسه : والله,.... رأسي راح ينفطر!
استمر العتاب بين الحبيبين, وحدثته بأسهاب عن كل ما مر في حياتها منذ وصول المعلم جميل وتطورالعلاقة معه وقالت:
يأسـت من رؤية وجهك, وحتى من رسالة تشرح لي فيها موقفك!, ثم خيم عليها الحزن , وداهمتها عبرة فكتمت دموعها,.. وقالت له :
لنترك الماضي, فليس امامنا وقت,.. ودعنا نغادرالمحطة الى بيتي لنقضي ليلة من ليالي العمر(صمت):
فهذه ليلتي وحلم حياتى بين ماض من الزمان,. وات
الهوى انت كله والامانى فأملأ الكأس بالغرام وهات
بعد حين يُبدل الحب دارا , والعصافير تهجرالاوكار
ودياركانت قديما ديارا,.. سنراها كما ,..نراها قفارا
سوف تلهو بنا الحياه وتسخر,..فتعال احبك الان أكثر
ينتاب امحيسن الذهول لما يسمع من كلام مُعسل, ثم تُكمل جميله حديثها عن زواجها من جميل, واطلعته على عقد الزواج !,..ثم
تستمر في كلامها ,..وتقول :
على اية حال,..انني وفق معتقدات البشرأعتبر(شهيدة), لأن وفاتي أمرغير طبيعي ومن الصعب أن يصدقه أحد,..فقد أنتهت علاقتي مع
جميل ليلة زواجنا أي (ليلة الدخلة), ولا أتذكر حدوث أي تقارب جنسي بيننا ,..وعلى ما يبدو متنا قبل أن يمس عذريتي,وأنني الآن عذراء بين يديك ,وسأكون زوجتك كما تعاهدنا منذ الصبا,لأن الله يلبي دعوة كل محب شريف يصون العهد لحبيبته ولن يتركها البته!
وقد تكهن نزار قباني بحالتنا حينما انشد البيت الآتي:
" يا ولدي قد مات شهيداً = من مات فداءً للمحبوب "
وضمته الى صدرها ,..وراحت تهمس بأذنه , ما كانت تختزنه في ذاكرتها ,..وقالت له: من الصعب عليك أدراك ذلك!, وعلى أية حال هذا قدرنا شأنا أم أبينا , ولنرضى بما كتبه الله لنا ,..وسأرعاك من دون أن تدري , وأني اعاهدك باللقاء معك مرة واحدة سنوياً في اول ليلة جمعة من تاريخ مغادرتي ارضكم, او ما تسمونه الوفاة!
يفتح امحيسن فاهه كالمعتوه,وتقول له: من حقك أن لا تصديق, فنحن مسيرون, ..نهبط للعالم السفلي لكي نتفقد الأهل والأحباب ,..
ونتعبد في العتبات المقدسة,ولذا جئت الى المحطة من اجل ان تشاركني في هذه ليلتي ,..وغداً ننسى فلا نأسى على ماض تولى!
يتبع قي الحلقة /السادسة
1549 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع