شخصيات من حياتي- قصه حقيقيه- كتبها – فؤاد حسين علي
شخصيات لا تنسى، وحوادث لا تُطمر، وددت أن أبقيها ماثلة في ذاكرة الأجيال قبل أن يغادرنا التاريخ!
مكان إثارتها، مدينة أوربرو السويدية.
توقيتات وجودها مساء يوم 29/مايس/ 2011
شاهدها أبنتي الحبيبة علا عندما جلست أمام جهاز الحاسوب الجديد، وبدأت بتنصيب بعض برامجه، وتتصفح الفيس بوك، وكنت جالسا قريبا منها أتفحص بفضول المتعلم، كل خطوة تخطوها.
ظهرت صورا على الشاشة، كانت الأولى للفقيد (هوبي)، مفاجئة وقفتُّ على قدميّ من هول شدتها.
قلت بصوت عال أجش، توقفي هذا هو هوبي العزيز، أتذكرين عائلته التي تجلس من حوله على السرير في هذه الصورة، إنها تحيط به من كل جانب، وكانهم في جلسة سمر، جميعهم مبتسمين، وكأني كنت حاضرا معهم ، وإن كانت الصورة تعود إلى سبعينات القرن الماضي.
فرحت لمشاهدة الجلسة الحميمة التي أعادتني إلى العراق، وإلى أيام كانت حلوة لأهله، ولنا كأصدقاء أقرب إلى الأخوة.
ذُهلت، توقف عقلي عن التفكير.
حزنت، تبلدت مشاعري، لا أقوى على التعبير.
وعندما فقت من هذا الذهول والتبلد، تذكرت أن هوبي قد فارقني من زمان.
نظري مازال شابحا إلى الصورة، كأنها هي التاريخ، أو كان التاريخ موجود فقط في هذه الصورة .
فرحت من عودة الماضي ومشاهدة العزيز، وحزنت من فقدانه البعيد، فتحيرت من أمر فريد، فيه الفرح مميز، ولم يكن فيه الحزن وحيد.
فقدت السيطرة على مشاعري، أنهمر دمعي من عيوني التي ضعف بصرها، فتشوش بسببه منظر الصورة، كأني أنظر لها وسط ضباب، نزلت دموعي دون أن أتمالك نفسي فأجهشت بالبكاء، وكأني أحضر وداع هوبي من جديد.
قررت الذهاب الى الفراش هاربا من التفكير، وربما رغبة في الغرق بالتفكير، حزين لا أجد لحالي النفسي الكئيب أي تفسير، لكن هروبي لم ينفعني، إذ بقيت أتقلب، والذكريات تقتحم مخيلتي واحدة بعد أخرى مثل شريط سينمائي لا يتوقف، حتى فقدت السيطرة عليها فاصبحت وإياها كتاب مفتوح، تتقلب صفحاته دون وعي ولا تخطيط.
لقد أعياني التعب، وأتعبتني الرغبة في عدم النوم.
نظرت الى ساعتي من شباك جانبي بدأ ضياء الصباح يتسرب منه إلى الداخل بحكم ليل السويد الذي يقل عن الساعتين في الصيف، كانت الرابعة صباحا، يأست من معاودة النوم، فقررت النهوض، وبعد أول خطوة من السرير وجدت نفسي مدفوعا إلى الطاولة القريبة، أفتش عن أوراق كانت مبعثرة بين كتب قليلة أمتلكها بهدف التسلية في الغربة البائسة، وعن قلم أعتدت أن أكتب فيه بعض الملاحظات التي أخشى نسيانها بحكم العمر وكثر التفكير الذي أضعف الذاكرة.
كان الجو باردا مع الساعات الأولى للصباح على الرغم من حلول الصيف، مسكت القلم وبدأت أكتب رثاءا إلى عائلة أخي أبو محمد، أو بالأحرى عزاءا لنفسي من غياب الصديق الأقرب.
رثاءٌ لم أسع أن يكون مثيرا للمواجع والأحزان، بل لأسترجاع بعض الذكريات المشتركة مع الفقيد، عسى أن تخفف من شدة أحزاني وبؤسي، وألمي من رحيل الأخ والصديق (نجم ... هوبي ... عبد الوهاب ... وهاب ... إبن عبد شهد، تلك الألقاب التي كان آخرها وأبقاها في الذاكرة واقربها إلى قلبي أبو محمد).
لقد أمسكت بالقلم، فأحسست وكأني عدت بالزمن الى الوراء، أو عاد بذكرياتي الزمن إلى ماض يصل أمده الممتد إلى ما يقارب التسع والأربعون عاما، وبالتحديد إلى عام 1962 يوم تعرفت على هوبي في منطقة الكرخ سوق حمادة ونحن شباب مراهقين، كنت أنا في الصف الرابع الاعدادي بثانوية الكرخ، الوحيدة في المنطقة، وهو في الصف الثالث المتوسط بمدرسة أخرى قريبة، حيث التقينا في منتصف الطريق بين المدرستين عندما حاول طلاب من حي سوق الجديد التحرش بأحد فتيات سوق حمادة التي دَفَعنا منظرها إلى التدخل سوية حتى توسعت المشاجرة بتدخل طلاب آخرين، وخرجنا منها منتصرين وبخسائر بسيطة هو جرح في مؤخرة رأسي.
لقد أنتهت المعركة، سحبني هوبي من يدي الى بيت أهله، جلب قطعة قماش تبدو جديدة، وضعها على الجرح، قائلا أمسكها حتى يتوقف النزف.
كان جادا يصدر أوامره إلى شقيقته لتجلب الماء الحار، وكأنه في ميدان قتال فعلي، وكان منفعلا بشيمة الكرخي الأصيل، يشجع من معه ويزيد معنوياته.
هكذا هو في المواقف الصعبة، يعشق الوقوف مع الصديق عندما يواجه مشكلة وإن كان معتديا فيها، لأن الصداقة من وجهة نظره توحد في الرؤيا مهما كانت طبيعتها.
لقد توقف النزف، وغسل الجرح بالماء الحار بعد أن نحى قطعة القماش جانبا.
نظر إلي وقال خلاص، عندما تسألك الوالدة إذا ما لاحظت الجرح، فعليك الأجابة سريعا إنها حجرة قذفها صبي على آخر، أخطأت الصبي واصابتني في مؤخرة الرأس، لقد كان نجم خبير في فبركة الأعذار أيضا، لكثر شجاره الشبابي والسياسي في تلك الأيام.
من ذلك اليوم أصبحنا أصدقاء نتواعد للذهاب إلى المدرسة سوية في نقطة وسط بين عطارة والده وبقالة أهلي، وهكذا قويت الصداقة وتعززت بالسباحة في دجلة والذهاب الى السينما، إذ نحب سوية أفلام رعاة البقر، حتى توثقت عرى الصداقة حدا لم نعد نفترق فيه، إلا ساعات النوم والتواجد في المدرسة التي كنا نتغيب بعض ساعاتها أحيانا.
تعلمت منه دروس كثيرة في الصبر والدُهرْ واللامبالاة، وعلمته دروس مثلها في المراوغة والالتزام، قد لا يصدق أحد رواياتها أو بعض تفاصيلها إذا ما تليت عليه كما هي أيام زمان، حتى أنا شخصيا لا أصدق ذلك عندما تتنطط بعض منها على سطح ذاكرتي بين الحين والآخر.
كنا نعمل كل في محل أهله أيام الصيف، وكنا نتآمر سوية على أهلنا من أجل التزويغ للخروج من المنطقة لقضاء وقت فيه لهو شباب، وكنا ندرس سوية وإن كانت الدراسة عابرة فيها أبتعاد عن المواضيع ذات الصلة أكثر من الخوض في تفاصيلها العلمية.
من هذه الظروف كانت بداياتي الأولى مع نجم، ومن هناك في سوق حمادة بمنطقة الكرخ قويت تلك العلاقة وتطورت، حتى أصبحنا نجمين معروفين، في المنطقة مثل نجوم السينما المشهورين يرتبط إسم الواحد بالآخر(هوبي وفؤاد).
لقد مرت الأيام والسنون مرورا سريعا حتى لم نعد نشعر بوقع مرورها إلا بعد أن غادرنا المنطقة بعد تهديمها وترحيلنا منها لإقامة حي جديد في جزء كبير من شارع حيفا، بدلا من أحيائها التي تعود إلى زمن العباسيين كما ينقل المؤرخين والرواة، وقد شاءت الاقدار أن نسكن متجاورين في حي اليرموك بعد التحاقنا بالخدمة العسكرية التي سبقته في دخولها بأربعة سنوات.
لقد تزوج هوبي من أم محمد، وتزوجت من بعده بعدة سنوات، ولم نتفارق إلا في أوقات العمل التي كانت تلزمني الذهاب إلى خارج بغداد، وقد تغيرت وتائر الحياة بعد تكوين العائلة ومجيئ الأولاد والدخول في خضم العمل العسكري والسياسي، لكننا لم نتفارق أيضا، وكانت حديقة بيته وكذلك حديقة بيتي في اليرموك تشهدان على أوقات قضيناها سوية إلى ساعات متأخرة من الليل، نتخاصم دون أن يكون هناك مبرر منطقي للخصام، ونتصالح دون أن تكون هناك مقدمات للصلح، ودون أن تكون في الأصل لكليهما أسباب.
كان آخر لقاء لي معه قبل يوم من يوم مغادرته إلى المثوى الأخير، كان في السيارة مع ولده محمد في شارع النقابات بحي المنصور، وكان الوقت عصرا، أستوقفته وسألته:
هوبي ماذا حل بك، وجهك أصفر؟
فرد بنفس طريقته التهكمية:
كلشي ما بية، غدائي كان ثقيلا وأحس الأكل كابس على قلبي، واريد أن أصل البيت حتى أرتاح ومن ثم سنلتقي مساءا.
لقد عدت إلى بيتي قلقا من حالة هوبي الحبيب، وكأن هاجسا كان ينبئني بحصول شيئ مكروه، أو إن كارثة ستحل بيّ، ولم أعد أصبر حتى أتصلت مساءأ فقيل لي أنه دخل مستشفى إبن البيطار القريب من علاوي الحلة.
أنتظرت مضطربا حتى صباح اليوم الثاني، فتوجهت إلى المستشفى، وعندما عاينته وقبلته ضحك وقال:
فؤاد لا تخاف إني بسبعة أرواح!
صدقته لأني شاهد على مواقف كثيرة كانت صعبة مر بها وخرج منها سالما قويا لا يحسب إلى التي تليها أي حساب.
بقيت نصف ساعة معه جالسا على كرسي قريب من رأسه نضحك ونتذكر، حتى جاء الطبيب الممارس، وقال رجاءأ أتركه الآن ليستريح.
تركته وعدت الى البيت، لم يخطر ببالي أن هوبي سيقع هذه المرة.
في اليوم الثاني للزيارة، وعندما كنت أهم للذهاب الى المستشفى، طرق على بابي صديقنا المشترك من أيام الكرخ أيضا قحطان السهو الذي يسكن قريب منا بنفس الحي، كان مرتبكا، لم يدع مجالا للسؤال والاستفسار، حيث بادرني على الفور:
إلحقنا فؤاد أبو محمد قد توفى.
ماذا تقول، أنا أهم بالذهاب لزيارته الآن.
حضر نفسك للذهاب الى المستشفى لاستلام جثمانه وتشييعه الى مثواه الآخير.
شعرت أن الأرض قد أهتزت من تحتي، أصبت بالغثيان، أحسست أن جزءا مني قد فقد، وإن سلسلة تاريخي قد قطعت، وإن نهاية العالم باتت وشيكة، وإن الحياة لم يعد لها طعم بعد مغادرة العزيز.
توقفت عن الكتابة، نظرت إلى الساعة كانت قد قاربت على السادسة صباحا، سألت نفسي، لماذا أنبش في الماضي الذي أنتهى؟.
وكررت السؤال بصيغة أخرى:
هل ينفع أن أعيد ماضٍ مخزونٍ في الذاكرة البعيدة، إلى حاضر مرفوض من الذاكرة القريبة؟
هممت في أن أمزق ما كتبت، قبل أن أجد تفسيرا لما كتبت، أعدت قراءته ثانية وثالثة، ضحكت لبعض حوادثه، وبكيت لأخرى، وقررت أن أبقيها كما هي دون رتوش، قصة رثاء قصيرة، لابد وان يعرفها الجيل الذي أعقب جيلنا، اي جيل أبنائنا، ليس لشيئ في قلوبنا، بل للعودة منها إلى الجذور التي تقطعت أوصالها فكونت حاضرا قلقا، مربكا، بلا حدود. وأنتجت زمنا بائسا تفرق فيه الأحبة، وتناثر الأصدقاء غربة خلف الحدود، ورقودا تحت التراب.
توقفت عن الكتابة ثانية، واستغرقت في التفكير، فسألت نفسي هذا السؤال الفلسفي المتوارث منذ النشأة الأولى للبشرية:
هل ياترى سألتقي أبو محمد في الآخرة؟
تمنيت ذلك من كل قلبي، لكنها أمنية مثل كثير من الأمنيات الغيبية التي تُترك في المعتاد إلى ما سيقرره الخالق سبحانه وتعالى.
وتمنيت أن يقرأ أفراد عائلة أخي أبو محمد الذين أحببتهم مثل أولادي ما كتبته، لعلاقة بعضه بجذورهم الممتدة الى الكرخ وايام زمان.
وتمنيت أن يتوقف القدر عن التدخل لتفريقنا، وتقطيع أوصال عوائلنا، وقطع سلاسل تاريخنا.
وتمنيت أن يعود لنا وطن عزيز، يحفظ لنا ماضينا وحاضرنا
وتمنيت كذلك أن نجد مكانا ندفن فيه بنفس المكان الذي رقد فيه هوبي وأعز الأصدقاء. وأن يعود التاريخ يسجل الوقائع ولا يغيب العظماء، وتبقى الجغرافية
قادرة على حفظ خارطة بلادنا التي إليها نعود، وأن نجد من يُعَرّف أحفادنا بماضينا، وببعض قصصنا التي تستحق أن تكون شواهد تاريخ.
لكن الواقع عكس ما نتمنى، أو ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، لأن الزمن قد تغير، واصبح رديئا يوم غادر فيه هوبي ووليد الكحلة ورحيم الدشغلي وآخرين.
رثائي لك يا أبو محمد وعزائي لعائلتك، ولي شخصيا.
ستبقى صورتك ماثلة في عقلي، وذكرياتك مطبوعة في ذاكرتي إلى آخر يوم من حياتي.
قبل أن أختتم رسالتي هذه لابد لي أن أترحم ألف مرة ومثلها كثير على روحك الطاهرة يا أبو محمد.
نم قرير العين، ستبقى نجما ساطعا في سمائنا يا نجم، وستبقى ذكراك خالدة في قلوبنا.
سنلحق بك.
عسانا أن نلتقيك ثانية، ولو بحلم طارئ وسط ليل حالك الظلمة.
وإلى عائلتك الوفية الف تحية وإحترام، مع اشد الأعتذار لتسببي في إثارة أحزان لم أكن أقوى على تحملها وحدي في السويد.
فؤاد حسين علي
1433 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع