قصة (متلازمة داون) - الجزء الاول

بقلم احمد فخري

قصة (متلازمة داون) - الجزء الاول

مشى الشاب المراهق عادل في شارع الربيعي بمنطقة زيونة في بغداد حتى وصل الى بيت صديقه المقرب رياض. ضغط على زر الجرس وانتظر قليلاً حتى ظهر له صاحبه مرتدياً بيجامة مقلمة بخطوط زرقاء باهتة قال،

رياض : اهلاً ابو العدل، تفضل.

عادل : لا اريد الدخول، ضع ملابسك بسرعة ودعنا نتمشى قليلاً فقد سئمت الجلوس بالمنازل.

رياض : إذاً انتظرني بعض الوقت لأُغير ثيابي وسأعود اليك على الفور.

عادل : استعجل ارجوك، فانا اشعر بضيق في صدري.

عاد رياض الى داخل بيته وبقي عادل ينتظر لاكثر من ربع ساعة يتأفف ويركل الحائط بحذائه المطاطي حتى رأى صديقه يخرج من الباب مرتدياً بنطالاً قصيراً وقميصاً فضفاضاَ ويقول،

رياض : بالرغم من انها السابعة مساءاً لكن الجو ما زال ساخناً لا يحتمل. اليس كذلك؟

عادل : اجل، والانكى من هذا وذاك انقطاعات التيار الكهربائي. لن يبقى لدينا قدرة على التحمل ولا على الفواتير المدمرة لاصحاب المولدات.

رياض : ما العمل يا صاحبي، هذه ضريبة الديمقراطية. لقد ابتلينا بالهمج الطامعين الذين نصّبوهم علينا ليحكمونا ويسرقوا اموالنا.

قالها بتهكم فضحك صاحبه وعلّق،

عادل : جائنا العم سام بالديمقراطية وسلب منا راحتنا.

رياض : دعك من هذا الآن، اين سنتسكع اليوم يا ترى؟ ما رأيك بالمجمع (دريم سيتي مول)؟

عادل : فكرة سديدة فالتكييف هناك رائع ولا ينقطع ابداً كذلك سنرى اموراً مثيرة تسرنا من السكريات.

رياض : ماذا دهاك يا عادل، لماذا انت هكذا؟ تفكر دائماً بالفتيات.

عادل : وهل تفكر انت بالفتيان مثلاً؟

رياض : لا اقصد ذلك. فالفتيات الجميلات اليوم في كل مكان، ولكن ما الفائدة؟ نحن فقط ننظر اليهن وقلوبنا تتفطر من شدة الحسرات وكما يقول المثل (العين اتشوف والگلب يسوف). يا صديقي العزيز انصحك بتغيير ستراتيجيتك معهن، فانت تقذفهن بابشع الكلام عندما تراهن في الشوارع. هل تعتقد انك ستحصل على وِدّهِنّ بهذه الطريقة؟

عادل : الفتيات يحبون الرجل الخشن. هذا ما قاله لي جدي سلمان.

رياض : ربما كان جدك يعاكس الفتيات بتلك الطريقة في زمن الدولة العباسية. لكن الوقت قد تغير الآن وتغيرت نظرة الفتيات نحو امور كثيرة. خصوصاً وانهن اصبحن اليوم اكثر تعليماً وثقافة واستقلالية. فالفتاة منهن تحب من يمتدح جمالها وتسريحة شعرها وهندامها وطريقة وضع مكياجها وتتباها باللغات الاجنبية التي تجيدها. لا لكي تهان بطريقتك الغبية السمجة لتحطم معنوياتها.

عادل : صدقني يا ريوضي لن يتغير شيء ابداً عبر الازمان. فالنساء بالماضي هن نفس النساء بالحاضر. انظر، انظر، ها قد اقتربنا من بيت المرأة الجميلة جيداء. اتعرف ماذا رأيت بالاسبوع الفارط؟ رأيتها تخرج الى شرفة منزلها بملابسها الداخلية. وانا بقيت افكر بذلك المنظر كلما اويت الى فراشي.

رياض : الم اقل لك انك انسان فاسد ومتخلف عقلياً ومنحط حتى النخاع. تلك السيدة متزوجة يا رجل، وحسب علمي فهي تحب زوجها كثيراً. ربما ظهرت امامك بالصدفة لثوانٍ معدودات وهي تزيل بعض الملابس من على حبل الغسيل. وحسب علمي فهي انسانة رصينة يحبها الجميع.

عادل : من اين اتتك تلك المعلومة يا نبيه؟ هل قرأتها على الفيس بوك او الانستاكرام مثلاً؟ هاهاها

رياض : لا يا اخي. سمعت جيرانها يمتدحونها ويقولون بانها انسانة محترمة.

عادل : وهل تكون سيدة محترمة عندما تخرج عارية الى الشرفة؟ كفاك سذاجة يا فتى، كلهن سواسية.

رياض : بكل الاحوال، فهي لن تخرج الى الشرفة اليوم. ربما تركت منزلها للتسوق او لزيارة بعض الاصدقاء.

عادل : يقول الكثيرون انها الزوجة الثانية. ويقولون ايضاً ان ضرتها تسكن بشارع رقم 2 هنا في زيونة.

رياض : الآن، اترك الحديث عن المخلوقة ودعنا نكمل مشوارنا نحو المجمع التجاري.

عادل : انظر، ها قد اقتربنا من المول، اني اراه الآن. هيا اسرع فالفتيات الآن يَحُمْنَ بالداخل كالنحل. سنصبح محظوظين إذا لسعتنا واحدة.

رياض : على رسلك يا رجل، انا امشي باقصى سرعتي، هل تريدني ان اهرول مثلاً؟

بقي الصديقان يمشيان بخطىً سريعة لاكثر من ثلاث دقائق اخرى حتى بلغا مدخل المجمع التجاري فدخلاه وصارا يتجولان بأروقته. يتطلعان بوقاحة يمين شمال على الفتيات اللواتي جئن الى المول لغرض التسوق. لكن احداهن لن تتحدث لا لعادل ولا لصاحبه. وبعد مرور اكثر من ساعتين من البحث الحثيث اصيب الشابان بخيبة امل وقررا العودة من حيث اتيا. غادرا البوابة الرئيسية للمجمع سيراً على الاقدام يحفهما الخذلان والاحباط ليعودا متجهين نحو شارع الربيعي. واثناء سيرهما في الشارع شاهدا الكثير من سيارات الشرطة تمر بهم بسرعة فائقة فتسائل رياض قائلاً،

رياض : يبدو ان حادث سير مروع قد وقع باحدى شوارع زيونة حتى بعثوا بهذا الكم الكبير من السيارات.

عادل : لا، لا اعتقد ذلك. فالسيارات التي مرت، تابعة لشرطة النجدة وليست لشرطة المرور. يا ترى الى اين يذهبون؟

رياض : لا اعلم. امر محير حقاً.

بقي الصديقان يمشيان حتى باتوا قاب قوسين او ادنى من بيت السيدة جيداء فشاهدوا الاضواء الزرقاء لسيارات الشرطة من جديد تتجمع امام منزلها. فتسائل رياض باستغراب،

رياض : يا ترى ماذا يجري هنا؟ هل انفجرت قنينة غاز لديها مثلاً؟

عادل : أو ربما امسكوا باحد الرجال وهو يتسلق جدار منزلها كي يضاجعها.

رياض : لا تتفوه بهذا الكلام يا رجل لان ما تقوله حرام. دعنا نستفسر من الناس المتجمهرين امام البيت.

اقترب عادل من فتاة شابة واقفة بين الناس وسألها،

عادل : عفواً يا حلوتي، ماذا وقع هنا؟

الفتاة : يقولون ان صاحبة المنزل وُجِدَتْ مقتولة.

عادل : ماذا؟ ايعقل ذلك؟ هل كان القاتل زوجها ام عشيقها؟

الفتاة : يا لك من وقح بدون اخلاق. تباً لك ولكلامك السخيف.

عادل : ماذا دهاكِ يا ساقطة؟ انا لم اقل شيئاً حتى اتبلى على المرأة. انها معروفة لدى الجميع.

سحبه صاحبه من ذراعه وقال له بحدة،

رياض : الم اطلب منك ان تمسك من لسانك السليط يا غبي؟ انظر ماذا حصدتَ الآن؟ انت تستحق كل ذلك التأنيب.

عادل : انا كنت اقول الحقيقة ولكن...

هنا قاطعهما احد رجال الشرطة عندما اقترب منهما وقال،

الشرطي : هيا ابتعدا من هنا يا اطفال والا ساعتقلكما على الفور.

نظر رياض لصاحبه وقال،

رياض : (خلي نفلت) دعنا نولي الادبار يا صديقي فقد نتورط بالجريمة دون اي ذنب.

عادل : انتظر لحظة يا رياض انتظر. اريد ان اعرف النتيجة.

رياض : تريد ان تعرف النتيجة؟ اي نتيجة هذه؟ هل تحسب نفسك جالساً بملعب الشعب تتابع مباراة لكرة القدم؟ تعال يا معتوه ودعنا نعود الى منازلنا فالوقت قد تأخر كثيراً.

وبتلك اللحظة نظر رياض حوله ليكتشف ان جميع الناس الذين كانوا متجمهرين خارج البيت قد تشتتوا وتلاشوا فعلاً ولم يبقى احد سواهما. فجأة رجع الشرطي اليهما وقال،

الشرطي : يبدو ان لكما يد في الجريمة. تعالا معي.

عادل : اي جريمة هذه؟ انتظر لحظة يا عمي. نحن فقط واقفان هنا كما هو الحال مع باقي الناس. الفضول هو من دفعنا للمجيئ.

الشرطي : قلت لكما تعالا معي دون ثرثرة.

رياض : أرأيت يا سخيف؟ ها قد ورطتنا بفضولك التافه.

اقتادهما الشرطي الى داخل حديقة بيت المجني عليها فرأوا الكثير من العناصر منتشرين بكل مكان. كان البعض يرتدي ملابس بيضاء شفافة تغلف اجسادهم بالكامل منهمكين برفع البصمات من كل شبر من ارجاء المنزل. فجأة اقترب منهما رجل يرتدي زياً مدنياً قال،

الرجل : انا المحقق ملازم اول فاروق العاني.

عادل : تشرفنا بك يا فاروق الفيشاوي هاهاها.

استاء المحقق من بادرة عادل الغبية فصرخ به قائلاً،

المحقق فاروق : هل انت اهبل شكلاً ام اهبل بالفطرة؟

رياض : انه فعلاً اهبل يا سيادة المحقق. يتفوه بكلام غبي وغير موزون دائماً الا انه مراهق حمار لا يعي ما يقول.

نهرهم المحقق بشدة وقال بصوت مرتفع،

المحقق فاروق : كـــــــــفى ثرثرة، اسمائكم واعماركم وموقع عملكم وسكنكم؟

رياض : انا اسمي رياض سلمان وهذا صديقي عادل صالح. كلانا نبلغ من العمر 14 سنة. ندرس بمدارس معارف بالصف الثالث المتوسط بيتنا بالفروع الخلفية لشارع الربيعي.

المحقق فاروق : يجب ان اسألكم سؤالاً مهماً جداً. ما علاقتكما بالمجني عليها؟

عادل : من هي المجني عليها؟

رياض : انه يسألنا عن المقتولة يا غبي.

المحقق فاروق : انت لا تتحدث من دون إذن يا رياض. انا الذي أسأل فقط مفهوم؟

رياض : مفـ...مفهوم سيدي.

عادل : نحن لا نعرف هذه السيدة وليس لدينا علاقة بها بتاتاً. فقط نسمع عنها من جيرانها لانها ترتدي... اقصد لا ترتدي... لا، لا، لاشيء بتاتاً.

المحقق فاروق : هل قلت ترتدي؟ تحدث هيا. ماذا عن ملابسها؟ هل رأيت دماً على ملابسها؟ ماذا رأيت تكلم؟

رياض : صديقي هذا مراهق يا سيادة المحقق واحمق. يبدو انه لمحها يوماً وهي تخرج لشرفة المنزل نصف عارية.

نظر المحقق بعين رياض ونهره باعلى صوته قائلاً،

المحقق فاروق : هـــــــــل سألتك انت يا حيوان؟ اخبرتك ان لا تتحدث الا عندما اوجه لك السؤال. والآن انت يا كازانوفا زمانك اخبرني عن ملابس تلك السيدة. ماذا رأيت؟

عادل : لا شيء صدقاً. مرة من المرات خيل إلي انني رأيتها بملابسها الداخلية تخرج الى الشرفة. اقسم بالله مرة واحدة فقط ولثوانٍ معدودات. اما باقي المرات فكانت محتشمة اي والله محتشمة وشريفة جداً.

المحقق فاروق : حسناً كفاكما حديثاً عن هذا الموضوع. والآن، اخبراني، هل سبق لكما التحدث اليها؟

عادل : لا ابداً.

رياض : لا، لم نتحدث اليها قط.

المحقق فاروق : كيف عرفتم اسمها إذاً؟

عادل : نسمع من الشباب بالمنطقة وحسب. فالاسم جيداء غير شائع كثيراً بين الناس. يكاد يشبه تسمية شارع.

المحقق فاروق : وكيف ذلك يا پروفيسور عادل؟

عادل : الناس يقولون (جادة) بمعنى شارع. اليس كذلك؟

تيقن المحقق ان عادل ولد اخرق وقد سئم الحديث معه لذلك نظر الى رياض وسأله،

المحقق فاروق : هل لديك اي معلومات اخرى عن المجني عليها؟

رياض : كلا سيدي.

المحقق فاروق : اتركا عناوينكم لدى العريف هناك وغادرا على الفور. تذكرا اننا نستطيع استدعائكما متى ما احتجنا الى ذلك.

عادل : اتقصد عناوين بيوتنا؟

المحقق فاروق : لا طبعاً. اقصد عنوان الفندق ذات الخمس نجوم الذي تقيمون فيه حالياً. طبعـــــــــــــاً عنوان بيوتكم يا مضطرب عقلياً.

رياض : سنفعل ذلك. آسفين سيدي.

خرج الشابان مسرعين وهما يرتعدان خوفاً. فتلك كانت المرة الاولى التي يُستَجْوَبون من قبل الشرطة ولسوء الحظ كانت بجريمة قتل. اما المحقق فاقترب من احد رجال الابحاث الجنائي وسأله،

المحقق فاروق : هل انتهى عملكم يا كريم؟

كريم : كلا سيدي. لدينا الكثير من البصمات هنا.

المحقق فاروق : هل عرفتم سبب الوفاة بعد؟

كريم : لا ليس باتحديد سيدي. الدم منتشر بكل مكان فهناك اثر لطعنات متعددة على جسد القتيلة.

المحقق فاروق : وما هو وقت الوفاة؟

كريم : استناداً لدرجة حرارة الجثة. ربما توفت بين الساعة 11 من مساء الامس والثامنة من صباح اليوم. سوف نحدد ذلك عندما تخضع الجثة للتشريح لاحقاً.

المحقق فاروق : من بلّغَ عن الحادث؟

كريم : امرأة من الجيران سيدي. رأت الباب الخارجي مفتوحاً على مصراعيه ولم يستجيب احد لندائاتها.

المحقق فاروق : واين هذه السيدة الآن؟ اريد التحدث اليها.

كريم : ساستدعيها فوراً سيدي. انها تسكن بالمنزل المجاور.

بعد قليل عاد كريم ومعه سيدة في منتصف العمر قال،

المحقق فاروق : أءنت التي بلغت عن الحادث؟

سيدة : اجل سيادة المحقق. كنت اليوم انتظر قدوم ابنتي لزيارتي وقد...

قاطعها فاروق وقال،

المحقق فاروق : ليس لدي الوقت لسماع قصة حياتكِ. ارجوك اجيبي على الاسئلة فقط. كيف عرفت بوقوع الجريمة؟

سيدة : قلت لك انني خرجت من منزلي كي انتظر قدوم ابنتي واولادها لزيارتي فرأيت باب بيت السيدة جيداء مفتوحاً من دون عادته. فدفعني الفضول وقررت ان ادخل لاحذرها من ان بابها قد ترك مفتوحاً. ناديتها وانا ادخل بيتها اربع مرات فلم ترد وفي المرة الخامسة رأيت اقدامها ضاهراً من خلف باب غرفة الاستقبال. وعندما دخلت غرفة الاستقبال شاهدت المنظر الفضيع. كانت مستلقية على ظهرها على الارض سابحة بدمها.

المحقق فاروق : وماذا فعلت وقتها؟ هل لمست اي شيء بالبيت؟

سيدة : كلا. انا اعرف جيداً انني يجب ان لا اترك بصماتي بمسرح الجريمة فانا اتابع المسلسلات البوليسية دائماً. خرجت من البيت مسرعة واتصلت بالشرطة عبر هاتفي النقال.

المحقق فاروق : هل تعرفين المجني عليها؟

سيدة : اجل نحن جيران منذ سنين طويلة. لكنها لا تحب الزيارات كثيراً لذلك لم نكن نزور بعضنا البعض. زرتها آخر مرة بمجلس عزاء زوجها السابق. إلا انها لم تستدعيني عندما تزوجت من زوجها الثاني. بالمناسبة، انها ليست من بغداد اصلاً. تقول نساء الجيران انها بصراوية.

المحقق فاروق : اتركي اسمك وعنوانك لدى الشرطي هناك.

سيدة : حسناً سيدي.

بدأ المحقق يتجول في بيت المجني عليها، فصعد الى غرفة النوم الوحيدة في البيت وصار يفتش فيها حتى وجد اوراق عليها اسم وعنوان رجل من الواضح انه زوجها الحالي فاعطى المعلومات لاحد مساعديه وطلب منه ان يجلب المزيد من المعلومات عنه.

عاد الى خبير البحث الجنائي وقال له،

المحقق فاروق : متى ستنتهون من عملكم هنا؟

كريم : سوف يتطلب الامر المزيد من الوقت، ربما 6 او 7 ساعات اخرى.

المحقق فاروق : حسناً، حاولوا الاسراع بالتقرير واجلبوه إلى مكتبي. فالنائب العام يريد الاطلاع عليه هو الآخر باسرع وقت ممكن.

كريم : بالتأكيد سيدي.

خرج المحقق من مسرح الجريمة، ركب سيارة مدنية وابتعد. بينما رجع الشابان رياض وعادل وهما في غاية الخوف لما وقع لهما اثناء الاستجواب. رجعا الى منزليهما المتجاورين اثناء سماعهما الإذان يأتي الى مسامعهم من الجامع المجاور معلناً صلاة العشاء.

وفي صباح اليوم التالي دخل المحقق فاروق مكتبه وجلس خلف منضدته يتفحص الاوراق الواردة امامه فلم يجد ما كان يبحث عنه. نادى مساعده وسأل،

المحقق فاروق : هل وصل تقرير البحث الجنائي يا كرار؟

كرار : كلا سيدي، لم يصل بعد.

المحقق فاروق : هل تأكدتم من اسم زوج المجني عليها ومكان سكنه الثاني في الورقة التي اعطيتكم اياه بالامس؟

كرار : اجل سيدي اسمه حسن مطلك الياسري انه عقيد متقاعد في الجيش. يسكن مع زوجته الاولى في زيونة بشارع رقم 2. لقد تم استدعائه من قبل السيد النائب للادلاء بشهادته. كذلك استدعينا زوجته الاولى لكنها رفضت المجيء معه وقالت بانها مريضة ولا يمكنها الخروج من البيت.

المحقق فاروق : ما هو مرضها؟

كرار : لا نعلم بعد سيدي لكن زوجها اكد صحة مرضها لذلك لن يصر العناصر على احضارها بالقوة الا بعد استشارتك.

المحقق فاروق : حسناً، امنحني بعض الوقت ودعني احتسي قدح الشاي الذي كاد ان يبرد الآن. اذا وصل التقرير ادخله الى عندي على الفور اريد الطلاع عليه اولاً ثم استدعي الزوج الى غرفة الاستجواب ليدلي باقواله.

كرار : حاضر سيدي.

بعد مرور ساعتين ترك المحقق مكتبه وتوجه الى غرفة التحقيق فرأى نائب المدعي العام طلال الكيلاني واقفاً خارج الغرفة ينظر الى المرآة ذات الاتجاه الواحد يراقب زوج المجني عليها فحياه وقال له،

المحقق فاروق : لقد وصل تقرير البحث الجنائي قبل قليل يا سيادة النائب. هل اطلعت عليه؟

النائب طلال : بالتأكيد قرأته بسرعة وبدون تركيز. لهذا السبب جئت الى هنا لاتابع استجوابك لزوج المجني عليها. ولكن هل استدعيت المزيد من الناس؟

المحقق فاروق : اجل، لدي قائمة طويلة من الذين لديهم صلة بالمجني عليها ما عدى الزوجة رقم (1). يبدو انها مريضة كما يدعي زوجها.

النائب طلال : حسناً سنقوم باستجوابها بكل الاحوال حتى لو اضطررنا فعل ذلك وهي على فراش الموت. لا تنسى ان المجني عليها تكون ضرتها. وانت تعلم ما يعني ذلك؟

المحقق فاروق : بالتأكيد حضرة النائب. دعني ادخل الآن وابدأ بالاستجواب.

دخل المحقق فاروق الغرفة ومعه مساعده كي يدون المحضر فرأى الرجل جالساً على الكرسي والحزن بادياً على وجهه سأله،

المحقق فاروق : الاسم والعمر والعنوان والوظيفة لغرض التسجيل.

كان الرجل غارقاً بالبكاء ووجهه مبتلاً بشكل واضح. مسح دموعه بمنديل ورقي اعطاه له المحقق ثم قال بصوت خافت اجش،

العقيد حسن : اسمي حسن مطلك الياسري العمر 52 سنة عقيد متقاعد بالجيش اسكن بشارع رقم 2 في زيونة.

المحقق فاروق : هل لديك بيت ثاني؟

العقيد حسن : البيت الثاني ليس باسمي وانما هو بيت زوجتي الثانية جيداء رحمة الله عليها.

قالها وأجهش بالبكاء والدموع بدأت تنهال من عينيه بغزارة من جديد.

المحقق فاروق : يا عقيد حسن، هل تعلم لماذا ماتت زوجتك جيداء؟ ومن له مصلحة بقتلها؟

العقيد حسن : كلا سيادة المحقق. علمت من رجالك انها توفت او ربما قُتِلَتْ بالامس. لا اعلم التفاصيل صدقاً. ولم يسمحوا لي دخول البيت كي اراها.

المحقق فاروق : اين كنت وقت وقوع الجريمة؟

العقيد حسن : كنت ابيت لدى بعض الاصدقاء لاننا كنا نلعب لعبة الكونكان.

المحقق فاروق : هل كان لدى زوجتك اعداء؟

العقيد حسن : لا، ليس بحسب علمي.

المحقق فاروق : كم هي اعمار زوجاتك الاثنتان؟

العقيد حسن : الأولى تبلغ من العمر 43 عاماً والثانية 32 عاماً.

المحقق فاروق : هل لديك شكوك بسبب وفاة زوجتك او من لديه الدافع كي يتسبب في قتلها؟

العقيد حسن : مطلقاً سيادة المحقق. زوجتي الجديدة جيداء تسكن ببيتها الذي ورثته عن زوجها المتوفي قبل 5 سنوات.

المحقق فاروق : هل لديها اولاد من زوجها الاول او انت لديك اولاد منها؟

العقيد حسن : كلا وكلا.

المحقق فاروق : متى تزوجتَ منها؟

العقيد حسن : قبل سنة من الآن. اجل، تزوجنا بالعام المنصرم نعم بالعام الماضي.

المحقق فاروق : ولماذا تزوجت من الزوجة الثانية؟

العقيد حسن : بصراحة انا عمري 52 سنة ولا زالت لدي القدرة على... اقصد لازلت استطيع ان... اعتقد انك تفهم ما اقصد؟

المحقق فاروق : اجل، اجل افهمك واصل حديثك.

العقيد حسن : كبرياء زوجتي الاولى انتهى فلمها.

المحقق فاروق : وما دخل كبرياء زوجتك بالامر؟

العقيد حسن : اعتقد انك أسأت فهمي سيادة المحقق. فإسم زوجتي الاولى هو (كبرياء). اسماها جدها العميد عبد الجبار قبل ان يموت بذلك الاسم اعتزازاً بشجاعة شعب فلسطين لانه قاتل بحرب 48 ضد اليهود في فلسطين. انه كان احد الضباط بأمرة اللواء عمر علي.

المحقق فاروق : اعتقد انك تقصد قاتل الصهاينة في فلسطين. اليس كذلك؟

العقيد حسن : اجل، اجل كلامك صحيح، قاتل الصهاينة في فلسطين.

المحقق فاروق : هل انجبت لك زوجتك الاولى اولاداً؟

العقيد حسن : انجبت كبرياء ولدنا الوحيد حقي الذي توفاه الله عندما كان طفلاً صغيراً بسن العاشرة اثر حادث سير مروع تسبب له بنزيف في الدماغ مما اضطر الاطباء الى وضعه تحت

الغيبوبة المفتعلة الكوما للحفاض على دماغه. لكنه لم يستيقظ عندما حاولوا ايقاظه. لذلك بقي فترة طويلة في غيبوبة تامة دامت 6 اشهر. بعدها توفاه الله. فاصيبت امه المسكينة بمرضها النفسي وانتهت كزوجة تماماً إذا كنت تفهم ما اقصد.

المحقق فاروق : اجل، أفهمك جيداً. والآن دعني اسألك. لماذا لم تأتي ام حقي معك الى هنا؟

العقيد حسن : انها مريضة سيادة المحقق كما اخبرتك من قبل.

المحقق فاروق : ما هو مرضها؟

العقيد حسن : انها تعاني من مرض يدعى رهاب الخلاء.

المحقق فاروق : وما طبيعة هذا المرض؟

العقيد حسن : اخبرني الاطباء انه مرض نفسي يصيب الانسان فيبدأ بالخوف من الخروج الى خارج المنزل. ثم يتحول الى رهاب شديد يجعل خروجه امراً مستحيلاً.

المحقق فاروق : لحظة، لو سمحت.

فتح المحقق جهاز حاسوبه النقال (اللابتوب) وبحث عنه من خلال الذكاء الصناعي بعد ان ترجم اسم المرض وطلب كلمة agoraphobia فظهر له التعريف الكامل للمرض : رهاب الخلاء هو اضطراب قلق يخشى فيه الشخص التواجد في الأماكن العامة أو الحشود أو المواقف التي قد يصعب عليه الهروب منها. في الحالات الشديدة، قد يؤدي ذلك إلى تجنب مغادرة المنزل تمامًا.

اغلق المحقق غطاء الحاسوب ونظر الى حسن ثم اطرق قائلاً،

المحقق فاروق : إذاً هذا هو مرضها الذي منعها من المجيء الى هنا للادلاء باقوالها اليس كذلك؟

العقيد حسن : هذا صحيح. فانا لا اتذكر متى خرجت زوجتي من البيت آخر مرة. تصور حتى انها لا تذهب الى خارج البيت كي ترمي النفايات بالحاوية في الشارع لذلك تطلب ممن معها فعل ذلك.

المحقق فاروق : وماذا لو انك كتفتها وارغمتها بالقوة على الخروج خارج البيت؟

العقيد حسن : في بداية مرضها كنت اصر عليها كثيراً كي تخرج لكنها كانت تمتنع وترفض بشكل قطعي. وعندما اردت الامساك بيدها واخراجها بالقوة صارت تصرخ بصوت مرتفع. قاومتني بعنف شديد ثم اغمي عليها وسقطت على الارض. خفت كثيراً على سلامتها وعدلت عن ارغامها على الخروج. لم اكن اعرف طبيعة مرضها في ذلك الحين لذلك لجأت لاحد الاصدقاء الذي كان طبيباً في الجيش اسمه الدكتور العقيد زيد وسألته عن حالتها فنصحني ان اعرضها على طبيب نفساني اسمه الدكتور مازن. وعندما جاء الدكتور مازن الى بيتنا وجلس معها لاكثر من ساعتين. طلع باستنتاج لا يقبل الشك بانها تعاني من رهاب الخلاء. شرح لي وقال ان هناك درجات لهذا المرض واكد لي بان زوجتي ام حقي تعاني من النوع الشديد لهذا المرض وانك لو ارغمتها بالقوة على الخروج فقد تصاب بسكتة قلبية وتموت. لذلك فهي لا تخرج من البيت نهائياً.

المحقق فاروق : ماذا لو مرضت او تطلب الامر نقلها للمستشفى؟

العقيد حسن : في الحالات المرضية البسيطة كنت استدعي طبيب العائلة للمجيء الى بيتنا لانه صديقي المقرب. فيكشف عليها ويكتب لها العلاجات.

المحقق فاروق : طيب، لو فرضنا انها احتاجت للذهاب الى المستشفى؟ ماذا تعمل وقتها؟

العقيد حسن : دعني اقص عليك هذه الحادثة: قبل 3 سنوات انفجر عندها المصران الاعور واردت نقلها للمستشفى لكنها رفضت رفضاً قاطعاً. قالت بانها تفضل الموت على الخروج من البيت. لذا طلبت من صديقي د. زيد كي يقنعها بإجراء العملية بالبيت. لكنه عندما حقنها بابرة البنج ووضعها تحت التخدير. نقلناها الى مستشفى اهلي خاص حيث أُجريت لها العملية هناك. بعدها اعدناها بالاسعاف الى منزلها عند انتهاء العملية وهي لا تزال تحت تأثير البنج ثم احضرنا لها ممرضة خاصة لتبقى معها في البيت كي تعتني بها.

المحقق فاروق : هل لك ان تعطيني اسم ورقم هواتف الاطباء زيد ومازن؟

العقيد حسن : بالتأكيد ساسجله لك على ورقة الآن.

المحقق فاروق : حسناً والآن اخبرني هل لدى زوجتك الثانية جيداء اي اعداء؟

العقيد حسن : ابداً. كانت جيداء انسانة صالحة وذات خلق رفيع. كانت تحسن للجميع وكانت متدينة ورعة لا تترك فرضاً الا وادته.

المحقق فاروق : أهي من ولادة بغداد؟

العقيد حسن : كلا انها مولودة بالصويرة. والدها متوفي ووالدتها لا تزال حية تدعى فضيلة، الجميع يناديها ام جيداء. انها لا تزال تعيش بالصويرة. وللمرحومة ابن عم واحد فقط اسمه محمد جاسم حسين.

المحقق فاروق : واللقب؟

العقيد حسن : لقبه الملة وكان ذلك هو نفس لقب المرحومة زوجتي ايضاً. جيداء حسن حسين الملة .

المحقق فاروق : هل كانت والدتها تقوم بزيارتها؟

العقيد حسن : كلا، انها لم تكن على وفاق مع جميع افراد عائلتها لذلك لم يعتادوا على زيارتها منذ ان تزوجت بي.

المحقق فاروق : إذاً فهم لا يعرفون بموت ابنتهم بعد، اليس كذلك؟

العقيد حسن : اجل، هذا صحيح لا يعرفون بموتها.

المحقق فاروق : حسناً عقيد حسن. شكراً جزيلاً لك. ساطلبك إن حتجت الى المزيد من المعلومات. بامكانك الذهاب الآن.

خرج العقيد حسن وهو في غاية الدهشة لان استجوابه لم يستغرق وقتاً طويلاً ليستنتج بعدها بان ذلك المحقق غير ملم بعمله بشكل جيد والا لكان بامكانه ان يمطره بالاسئلة الدقيقة كي يصطاد القاتل. اما المحقق فرجع الى مكتبه ورفع سماعة هاتفه واتصل باحدى الارقام التي اخذها من العقيد حسن ليتصل بالدكتور زيد والدكتور مازن وطلب منهما الحضور الى مركز الشرطة في اليوم الموالي. وفي تمام الساعة الواحدة من اليوم التالي دخل الطبيبان المركز فطرق الدكتور زيد باب المحقق فاروق في مركز الشرطة فأذن له. في بادئ الامر تحدث مع الدكتور زيد وسأله كثيراً عن حالة الزوجة الاولى السيدة كبرياء فاخبره بالتفصيل عن حالتها الصحية وقص عليه كيف اجْرَوا لها عملية الزائدة الدودلة وذلك بعد تخديرها بالـ (بنج) ثم نقلها الى المستشفى. وبعد شفائها من العملية تم تحويلها لجلسات علاج نفسي مع الدكتور مازن كي يحاورها لغرض معالجتها نفسياً باساليب سايكولوجية حديثة. استمع المحقق لكل ما قاله الدكتور زيد ثم ودعه وادخل بعده الطبيب النفساني د. مازن قال،

المحقق فاروق : اريدك يا دكتور مازن ان تخبرني بالتفصيل عن حالة مريضتك النفسية كبرياء لان امراً جلل قد وقع.

د. مازن : انا اعتذر منك حضرة المحقق فما يدور بين الطبيب المعالج ومريضه لا يجوز ان يباح به حتى لو كان ذلك الشخص زوجها او اقرب الناس اليها. انها اسرار المهنة.

المحقق فاروق : الحالة تختلف هنا تماماً يا دكتور لان جريمة بشعة قد وقعت والسيدة كبرياء تعتبر المشتبه به الوحيد. فهي تملك الدافع للقتل بحكم صلتها بالمجني عليها كونها ضرتها. وتعاونك معنا قد يلقي الضوء على الكثير من الشكوك للوصول الى القاتل الحقيقي. لذلك اطلب منك ان تخبرني باي معلومة عن هذه السيدة.

د. مازن : ليس هناك سلطة تستطيع اجباري على ان ابوح بمعلومات شخصية لأي من مرضاي لانه سر المهنة كما اخبرتك. لكنني استطيع ان امنحك بعض الخطوط العريضة عن طبيعة المرض بحد ذاته. فذلك المرض شائع بين فئة قليلة من الناس وبدرجات متفاوتة. اما السيدة كبرياء فتعتبر في قمة ذلك الهرم اي انها قد تصاب بسكتة قلبية إذا ما اخرجتها عنوة من البيت لترغمها على فعل شيء خارج عن ارادتها. ولو قمت بذلك رغماً عن كل ما تقدم فانا سوف لن اكون مسؤولاً عما ستفعله تلك المريضة في الامتناع عن الخروج.

المحقق فاروق : أتقصد انها من الممكن ان تهاجمني او تقتلني؟

د. مازن : لا بل بامكانها ان تقتل نفسها لان هذا المرض يعتبر من فصيلة امراض الـ (سايكو نيوروسز) وهو مرض قابل للشفاء بالجلسات وعقاقير ال CBT. لكن الشفاء يتطلب وقتاً طويلاً جداً وهي لا تزال تتلقى العلاج. لذا انصحك بعدم الشروع او المحاولة باخراجها وهي بهذه الحالة.

المحقق فاروق : حسناً بناءاً على ما تقدم. ساقوم باستجوابها في بيتها بالوقت الحالي.

د. مازن : هذا عين العقل سيادة المحقق.

المحقق فاروق : شكراً لك يا دكتور. ساخذ نصائحك بعين الاعتبار. بامكانك الذهاب الآن. حياك الله.

خرج الدكتور مازن من مكتب المحقق فاروق فقام المحقق باستدعاء احد معاونيه كي يصطحبه ليدون محضراً خارج مركز الشرطة وتحديداً في بيت السيدة كبرياء كذلك طلب من احد اعضاء البحث الجنائي ان يذهب معهم حتى يأخذ عينة من الحمض النووي الـ DNA للسيدة كبرياء وزوجها. ولما وصلوا البيت وضغطوا على زر الجرس فتحت لهم الخادمة الباب واجلستهم بصالة الاستقبال. فجأة دخل عليهم العقيد المتقاعد حسن وزوجته كبرياء فرحبوا بهم وقدموا لهم الشاي. لم يكن المحقق يرغب باطالة الحديث معهم فدخل بالموضوع على الفور حين قال،

المحقق فاروق : بالنظر للظروف الصحية للسيدة كبرياء فقد قررنا إجراء التحقيق هنا في منزلكم.

العقيد حسن : هذا كرم منك سيادة المحققق، ستكون تحت تصرفكم. بامكانك ان تستجوبها الآن.

المحقق فاروق : لا يا سيادة العقيد. يجب ان أستجوب السيدة كبرياء بمفردها. اذهب انت الى الغرفة المجاورة واعطي عينة من حمضك النووي للعريف لو سمحت.

العقيد حسن : اجل، اجل، بالتأكيد. ساترك كي تقوم بعملك وساعطي العينة الآن.

خرج العقيد حسن من صالة الاستقبال واغلق الباب وراءه. سحب المحقق كرسياً ليقترب من السيدة كبرياء وفتح الحديث معها بالسؤال،

المحقق فاروق : هل اناديك كبرياء او أُم حقي؟

كبرياء : لا فرق عندي. نادني أم حقي لو سمحت.

المحقق فاروق : حسناً أم حقي. هل كنتِ تعلمين بأن زوجك لديه زوجة ثانية؟

كبرياء : اجل بالتأكيد كنت اعرف بجيداء رحمها الله. وكانت تزورني بين الفينة والفينة. لم يكن هناك عداء بيننا.

المحقق فاروق : كيف حصل ذلك؟ فعلى علمي بان جميع النساء لا يرغبن بان يكون لهن شريكة تشاركها بزوجها.

كبرياء : هذا إذا كان لها زوج. اما انا فلا املك زوجاً.

المحقق فاروق : ماذا تقصدين؟ ألستِ متزوجة من العقيد حسن؟

كبرياء : هذا صحيح ولكن على الورق فقط. زوجي لم يعد يقوم بواجباته الزوجية. لذا فإن وجوده وعدم وجوده سواء. طالما اني اظل سيدة منزلي ولا يشاركني به احد. لقد اكدت ذلك لزوجي منذ اكثر من سنة. واستناداً الى ذلك تزوج للمرة الثانية من جيداء.

المحقق فاروق : هل كان زوجك يعدل بينكما؟

كبرياء : كان يبيت لدى جيداء اغلب الاحيان. لكنه بالليلة التي توفت او قتلت كان بائتاً في بيت اصدقائه.

المحقق فاروق : والآن دعينا ننتقل الى موضوع آخر. السؤال هو، متى خرجتِ من داركِ آخر مرة يا ام حقي؟

كبرياء : بالحقيقة لا اذكر. اقسم باني لا اذكر متى خرجت من داري آخر مرة، فقد كان ذلك منذ امد بعيد جداً. لماذا تسأل؟ هل تشك بي كقاتلة؟

المحقق فاروق : لا ابداً، انا لا اوجه الاتهام لاي شخص بهذه المرحلة. انا اجمع المعلومات وحسب.

كبرياء : هل لديك اسئلة اخرى؟

المحقق فاروق : ليست لدي المزيد من الاسئلة بالوقت الحالي لكنني قد احتاج لزيارتك وسؤالك من جديد.

كبرياء : ساقدم لك كل المعلومات التي بحوزتي فانا لا اخفي شيئاً عن احد.

المحقق فاروق : شكراً لك يا ام حقي. لا تنسي ان تعطي عينة من حمضك النووي فور خروجك من هنا. وداعاً.

خرج المحقق فاروق وتوجه مباشرة الى مكتبه كي يدون وينسق المعلومات التي تحصل عليها من زوجة العقيد المتقاعد. لكنه فور دخوله مكتبه نظر الى الظرف الذي يحتوي على تقرير الطبيب الشرعي. فطلب لنفسه قدحاً من الشاي وجلس خلف منضدته لكي يراجعه بتأني ويقرأ تفاصيل المعلومات التي بداخله. وقتها اصيب بالذهول. التقرير يقول بان الضحية تعرضت للطعن والتسمم بينما كان يعتقد ان شخصاً ما قد قام بالاعتداء عليها جنسياً وطعنها بغياب زوجها. لذلك وبعد ان اكمل قراءة التقرير بالكامل، قرر الذهاب في الغد الى الدكتور خالد اليازوري الطبيب الذي شرح الجثة بالطب العدلي ويتحدث اليه وجهاً لوجه.

باليوم التالي ركب سيارته وانطلق الى الباب المعظم طرق الباب على قاعة التشريح رقم 3 ودخل الى قلبها فوجد الدكتور خالد ممسكاً بمشرطه يفتح صدر جثة هامدة امامه. فسمعه يقول،

د. خالد : جئت بأوانك يا فاروق، اردت التحدث اليك.

المحقق فاروق : وانا كذلك. أخبرني عزيزي خالد ماذا وجدت بعد تشريح الجثة؟

د. خالد : كما دونت بالتقرير الذي ارسلته اليك، وجدت طعنة بالظهر وطعنة اخرى بالفخذ الايمن وطعنة ثالثة بالكتف الايمن.

المحقق فاروق : إذاً سبب الوفاة هو ثلاث طعنات؟ اهذا ما تقوله؟

د. خالد : كلا، الطعنات كانت باستخدام آلة حادة قد تكون سكين جيب سويسري صغير او ما شابه لكنها جميعاً تسببت بجروح سطحية طفيفة لم تكن لتسبب الوفاة.

المحقق فاروق : وماذا كان سبب الوفاة إذاً؟

د. خالد : السم يا فاروق. شخص ما قام بحقنها بالسم في رقبتها. لان اثر الحقنة واضح للعيان انظر يا صديقي.

المحقق فاروق : ولماذا لونه ازرق غامق؟

د. خالد : انه مكان دخول السم الى الجسد واللون الازرق هو ردة فعل الجلد المباشر على السم.

المحقق فاروق : وما نوع هذا السم؟ هل هو السايونيد او السارين او الزرنيخ مثلاً؟

د. خالد : كلا عزيزي. انه اكثر من السموم الكيمياوية ضراوة. اتضح انه سمّ أفعى.

المحقق فاروق : ما نوع تلك الافعى؟

د. خالد : لا اكذب عليك يا فاروق فانا لا افهم كثيراً عن سموم الافاعي. لكن جميع الدلائل تشير الى سم افعى نادر جداً يدعى (التايبان).

المحقق فاروق : هل قلت التايبان؟ اسم غريب جداً. ما طبيعة هذه الافاعي؟ ومن اين حصل المجرم عليه؟

د. خالد : لا اعلم بكل صراحة. الاجدر بك ان تستشير شخصاً مختصاً بهذا الامر.

المحقق فاروق : شكراً لك دكتور. ساتصل بك إذا احتجت الى المزيد من المعلومات.

خرج المحقق فاروق من القاعة رقم 3 وركب سيارته ليعود بها الى مكتبه وبعد ان جلس وراء منضدته وهو يفكر بذلك السم العجيب دخل عليه مساعده العريف كرار قال،

كرار : هل توصل طبيب التشريح الى سبب الوفاة النهائي سيدي؟

المحقق فاروق : اجل، انه السم.

كرار : عذراً يبدو انك لم تفهمني سيدي. انا اتحدث عن جريمة شارع الربيعي بزيونة. لقد وجدنا ثلاث طعنات على الجثة. اليس كذلك؟

المحقق فاروق : اجل كرار، الطعنات لم تكن سبب الوفاة. السبب الحقيقي للوفاة هو السم. سم الافاعي يا كرار.

كرار : هل تقصد ان افعى دخلت بيتها ولسعتها بعد ان طُعِنَتْ؟

المحقق فاروق : لا، يبدو ان قاتلها قد حقنها بسم الافعى في رقبتها.

كرار : اعتقد اننا الآن قد توصلنا الى جريمة قتل بسبب الشرف.

المحقق فاروق : هذا الاستنتاج سابق لاوانه يا كرار. لازلنا في بداية التحقيق. يجب ان نبحث اكثر. ناولني ملف القضية من ورائك لو سمحت.

امسك كرار بالملف واخرجه من الرف الذي اكتظ بملفات القضايا السابقة. سحبه واعطاه للمحقق فسمعه يقول،

المحقق فاروق : احضر لي شاياً غامقاً واغلق الباب ورائك يا كرار. اريد ان اعيد قراءة جميع المعطيات بالملف حرفاً حرفاً.

كرار : وهو كذلك سيدي.

بقي يقرأ ويقارن ويحلل حتى قرر بالآخر ان يقوم بزيارة شخص مختص باليوم التالي.

وفي اليوم التالي ركب السيارة وتوجه بها الى مدينة اليرموك. اوقف سيارته امام احدى المنازل ذات النموذج الموحد وضغط على جرس الباب فخرج له طفل صغير سأله،

الطفل : من انت يا عمو؟

المحقق فاروق : انا المحقق فاروق. وانت، ما اسمك؟

الطفل : انا اسمي زكريا. الجميع يناديني زاك لولو.

المحقق فاروق : تشرفنا بك سيد زاك لولو. اين ابوك؟

زكريا : انه في غرفته يصلي. هل انت صديق ابي؟

المحقق فاروق : اجل نحن اصدقاء منذ امد بعيد.

زكريا : إذاً تفضل يا عمو انتظره في صالة الاستقبال حتى يفرغ من صلاته.

سار المحقق خلف زكريا وجلس على اريكة وثيرة بصالة الاستقبال. وبعد قليل عاد الطفل حاملاً صينية وعليها عصير برتقال قال،

زكريا : احضرت لك عصيراً بارداً دون ان اسألك لان الجو ساخن يا عمي.

المحقق فاروق : شكراً لك حبيبي. هل انتهى والدك من الصلاة؟

زكريا : اجل، اخبرته بقدومك وانه يستعد للمجيء الى هنا.

خرج الطفل زكريا وبعد قليل دخل الدكتور يحيى ليبدأ حديثه بالاعتذار وهو يحتضن صديقه ويقبله،

د. يحي : سامحني لأنني تأخرت عليك لأنني كنت اصلي. كم مضى من الزمن يا ترى؟

المحقق فاروق : هل يعقل ذلك؟ انا لا اصدق، يحيى يصلي؟ هل صرت تؤمن بوجود الله الآن يا حياوي؟ الم تكن ملحداً في السابق؟

د. يحي : أتذكر يا فاروق عندما كنا بالثانوية؟ كانت افكار معينة تتملكني وكنت ابحث بالمعلومات في الاماكن الخاطئة. لكنني بعد ان درست علم الاحياء وتعمقت فيه لاصل الى درجة الدكتوراه ثم اصبحت أُدَرّسُهُ بالجامعة. تكونت لدي وقتها قناعة كاملة على ان من خلق هذا الكون هو مهندس مقتدر فكر بكل شاردة وواردة فيه كما قال (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا). وإذا كان لديه القدرة على خلق ادق التفاصيل العلمية في المخلوقات فلا يمكن ان يكون اي احد غير الله.

المحقق فاروق : ذلك امر يثلج الصدور يا ابو (زاك لولو). هل هو ابنك الوحيد؟

د. يحي : كلا، زكريا لديه اخت كبرى اسمها سلينا. انها ريحانة قلبي وحبيبة عمري فانا احبها اكثر من روحي. انها تكبر اخاها بست سنوات.

المحقق فاروق : حفظهم الله عزيزي حياوي. طبعاً امهما سارة اليس كذلك؟

د. يحي : اجل سارة هي الفتاة التي احببتها عندما كنت شاباً وتزوجنا قبل ان احصل على الماجستير. ولكن قل لي عزيزي، كيف تذكرت ان لك صديق بعد كل هذه السنين؟ وما سبب زيارتك هذه؟ فانا لم اسمع منك لاكثر من 20 سنة ونيف. هل تذكرت فجأة ان لديك صديق يحبك اسمه يحيى؟

المحقق فاروق : انت دائماً قريب الى قلبي. فتشت عن رقم هاتف لك فلم اجده لكنني تذكرت عنوانك فقررت ان ازورك

من دون اتصال مسبق. بالحقيقة انا جئتك اليوم باستشارة لها علاقة بتخصصك لانني في حاجة ماسة اليك.

د. يحي : إذاً انت لم تأتي لانك اشتقت اليّ. حسناً لا بأس يا عزيزي، تفضل بيّنْ لي ما تريد.

المحقق فاروق : اخبرني طبيب التشريح ان سبب الوفاة باحدى القضايا التي احقق بها الآن هو ان احدى السيدات قد حقنت وماتت بسم افعى التايپان. لذا اريدك ان تحدثني المزيد عن ذلك السم وعن تلك الافعى لو سمحت.

د. يحي : يُعدّ سمّ أفعى التايپان الشرقية Eastern Taipan snake الأكثر فتكًا في العالم، وهي تعرف أيضًا باسم "الأفعى الشرسة" نظرًا لسلوكها العدواني عند الشعور بالتهديد. يحتوي سمّها على عصائر عصبية قوية قد تُسبب الشلل وفشل الجهاز التنفسي والسكتة القلبية خلال ثوانٍ معدودات. تبلغ الجرعة المميتة لسمّ أفعى التايپان الشرقية حوالي 0.025 ملغم/كغم، مما يجعلها من أكثر المواد سُمّيةً المعروفة لدى الانسان. تخيل فاروق ان كمية السم التي تحقنها الافعى بلسعة واحدة بامكانها ان تقتل 100 رجل.

المحقق فاروق : يا ساتر يا ربي. وأين توجد هذه الافعى؟ بالاهوار في الجنوب مثلاً؟

د. يحيى : كلا، انها تعيش في قارة استراليا فقط. اكتشفت بالسبعينات من القرن المنصرم. اكتشفتها العالمة البايلوجية البروفيسورة نيكول انديرسون من جامعة دارون.

المحقق فاروق : في تقديرك حياوي، من يملك مثل هذا النوع من السم؟

هز يحيى رأسه وقال،

د. يحيى : هنا بالعراق؟ لا اعتقد ان احداً يملك هذا السم لانه نادر جداً. الا إذا كان هناك مختبر للابحاث البايولوجية. وهذا احتمال ضئيل جداً.

المحقق فاروق : اي مختبر يملك ذلك النوع الفتاك من السم يا ترى؟

د. يحيى : لا اعلم صدقاً. هذه مهمتك انت يا بطل. ابحث وسوف تجد لانك انت المحقق وهذه لعبتك.

المحقق فاروق : على العموم، اشكرك حبيبي حياوي. يجب ان ارحل الآن.

د. يحيى : الا تتغدى معنا؟ فسارة بدأت فعلاً باعداد الطعام.

المحقق فاروق : في مرة ثانية حياوي.

د. يحيى : يثيرني الفضول، عن الشخص المشتبه به؟

المحقق فاروق : ليس لدينا الكثير من المشتبه بهم بالوقت الحالي، ولكن هناك سيدة واحدة فقط تدعى كبرياء تحوم حولها الشبهات والشكوك.

قفز دكتور يحيى من مكانه وضاقت مقلة عيناه وصرخ باعلى صوته،

د. يحي : مســــــــــــــتحيل! هل قلت كبرياء؟ ربما هي حفيدة العميد عبد الجبار.

المحقق فاروق : هذا صحيح، هي بعينها. هل تعرفها يا يحيى؟

د. يحي : كيف لا وانا كنت متيم بحبها قبل ان التقي بزوجتي سارة. كانت كبرياء الحائزة على المرتبة الاولى على دفعتنا في جامعة الموصل لكنها رفضت الزواج مني عندما تقدمت اليها.

المحقق فاروق : يا سلام، يا سلام، يا سلام... بدأت الامور تنكشف وتصبح اكثر وضوحاً يا صديقي. كم كنتُ مغفلاً بتحليلاتي الأولية!

د. يحي : لماذا؟ هل هي متورطة بالجريمة؟

المحقق فاروق : لا نعلم بعد لكننا سوف نجمع الادلة ونرى.

خرج المحقق من بيت صديقه في اليرموك وتوجه مباشرة الى بيت العقيد المتقاعد حسن في زيونة. دق الجرس ليُدْخِلوه صالة الاستقبال فجلس امامه العقيد حسن على الاريكة وسأله،

العقيد حسن : اهلاً وسهلاً بك سيادة المحقق. هل عثرتم على من قتل زوجتي؟

المحقق فاروق : لا ليس بعد، لان الابحاث ما زالت جارية لكنني اود ان استفسر منك عن بعض الامور.

العقيد حسن : وانا رهن اشارتك حضرة المحقق. تفضل إسأل.

المحقق فاروق : اردت ان اسألك عن زوجتك جيداء، هل كانت متعلمة؟ وما هو مستوى تعليمها؟

العقيد حسن : ماذا تقول يا حضرة المحقق؟ زوجتي تخرجت من كلية العلوم فرع الاحياء في جامعة الموصل. انها حائزة على المرتبة الاولى على جامعتها.

المحقق فاروق : وهل مارست العمل في تخصصها؟

العقيد حسن : لا لم تعمل، تزوجنا مباشرة بعد تخرجها من الجامعة حينما اتت من الموصل بعد تخرجها لزيارة والدها في راغبة خاتون بسبب اصابته بمرض عضال. كانت قد وصلت للتو من الموصل حين صدمتني بجمالها لمّا رأيتها وجهاً لوجه لأول مرة.

المحقق فاروق : ومتى اصيبت بمرضها؟ اقصد الجلوس بالبيت، ماذا كان اسمه؟

العقيد حسن : تقصد (رهاب الخلاء). كان ذلك مباشرة بعد وفاة ولدنا حقي. حزنت عليه حزناً شديداً وبقيت في البيت فترة طويلة. بعدها رفضت الخروج من الدار الا للحالات الاضطرارية. ثم تحول الامر الى توقف كامل عن الخروج من الدار.

المحقق فاروق : ولماذا لم تخبرني بتحصيلها العلمي؟

العقيد حسن : لانك لم تسألني عن ذلك. انت جئت الى هنا لتحقق بجريمة قتل زوجتي الثانية جيداء ولم يخطر ببالي ان اقدم لك السيرة الذاتية لزوجتي كبرياء.

المحقق فاروق : حسناً اريد التحدث اليها مباشرة الآن. الا ناديتها لو سمحت؟

العقيد حسن : بالتأكيد حضرة المحقق، انتظر لحظة واحدة.

خرج من الغرفة قليلاً ثم عاد ومعه زوجته قال،

العقيد حسن : هل يمكنني ان استمع لحديثكما؟

المحقق فاروق : كلا سيادة العقيد، استسمحك عذراً.

خرج العقيد من صالة الضيوف وترك زوجته مع المحقق. ذهب للمطبخ ليعد ابريقاً من الشاي. وبعد اقل من خمس دقائق سمع المحقق يناديه قائلاً،

المحقق فاروق : سيادة العقيد، لقد انتهى الاستجواب مع ام حقي.

العقيد حسن : وانا احضرت الشاي سيد فاروق.

المحقق فاروق : استسمحك عذراً من جديد لكنني يجب ان اعود الى عملي الآن.

العقيد حسن : حسناً يا ولدي، رافقتك السلامة.

ركب المحقق سيارته وعاد الى مكتبه والكثير الكثير من الافكار صارت تتشابك وتتضارب في ذهنه وصار يخلط الامور المتشابكة كي يفك طلاسم القضية وكأنها سحر معقد لكبار السحرة.

هل ستثبت التهمة على السيدة كبرياء يا ترى؟ فهي بآخر المطاف متخصصة في علم الاحياء وهي الوحيدة القادرة على الحصول على سم الافعى النادر بحكم تخصصها. بعد كل ما تقدم فهي المستفيد الاول والاخير من موت ضرتها التي اخذت منها زوجها.

ستكتشف ذلك بنفسك في الجزء الثاني والأخير من هذه الجريمة المعقدة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

975 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع