
بقلم : اللواء الملاح الركن المتقاعد فيصل حمادي غضبان
٢٤ تشرين الاول ٢٠٢٥
النصر المؤجل حين تنافرت الاستراتيجيات( وتعثرالقائد في فخ العظمة )
توطئة : أنا اللواء الملاح الركن فيصل حمادي العمري، ورفاق السلاح المحمّلين بعطر المعركة ورائحة البارود. لقد استفزّتنا تصريحات ترامب حول غزة حين قال إن على حماس أن ترضخ لإنشاء اتفاق سلام، ووعد بالضغط على إسرائيل بعدم ضم غزة كأن القضية الفلسطينية سلعة رخيصة تُعرض في سوق النخاسة، متناسٍ أن هذه القضية ليست قطرة ندى تُمحى بنبرةٍ سياسية، بل بذرةٍ نَبَتَتْ ونَمَتْ وارتَوَتْ بدماء الشهداء وعرق الأحرار. لذلك كتبت هذا المنشور أدناه: لأسجّل شهادة الضمير، دفاعا عن حقٍ لا يُقاس بمزاج القوى،مذكراً بأن الحرية لا تُمنح من منابر الانتهازية بل تكتسب بتضحيات وصمود الشعوب .
١. حين تُطوى صفحةٌ من صفحات التاريخ، لا يعني ذلك أن الحكاية انتهت؛ بل قد تكون البداية لقراءةٍ أعمق. قيل إن صفحة غزة انطوت، لكنّها تذكير صارخ بأن النصر ليس له آذانٌ تسمع فوراً، بل له عيونٌ ترى وإحساسٌ يستشرف عبق الإصرار. النصر لا يموت عند صمت المدافع؛ بل يصمد في الصدور، يختبئ في ذاكرة الشعوب، وينتظر اللحظة التي تستعيد فيها الأمة شهيقها.
٢. الانتصار المؤجل هو حالة زمنية ونفسية معاً: زمنٌ يبدو فيه الظفر بعيداً، ونفوسٌ لا تساوم على كرامتها. في هذه المسافة بين الحلم والواقع، يولد الفعل الحقيقي ليس فقط ردة فعلٍ عسكرية، بل وعيٌ جماعي يُعِدّ نفسه للقيام. نحن، الذين عشنا الميادين وتشمّمنا رائحة الانتصارات والهزائم، نعلم أن الخطاب القومي لا يَصنعه بيانٌ واحد، ولا يُستعاد بمهرجانٍ عابر؛ إنما يُبنى بصبرٍ مؤسساتي و بتربيةٍ وطنية تُحرّر الذاكرة من الأوهام وتبنيها على الحقائق.
٣. ابناء أمتنا العربيه تذكّروا: ان القوة التي لا تُستثمر بحكمة تُصبح عبئاً، والاستراتيجية التي تُفتقد للمرونة تُؤخّر الحسم. لكنّ الضمير القومي الذي جُرِّح لا يموت قد يخرس لفترة، قد يكتئب، لكنه لا يستسلم. ومن رحم الانكسار يولد عهدٌ جديد: عهدٌ يتعلم من الأخطاء، يراكم الخبرة، ويصوغ أدوات النهوض. صواريخ الحسين والعباس لم تكن فقط صخباً عسكرياً؛ كانت رسالة وجود، إيقاظاً لضميرٍ نام.
٤. الحلم المؤجل : هو وعد لم يُوفَّ بعد، لكنه وعدٌ لا يتلاشى. جيلنا قد لا يرى ثماره كاملة، لكن دوره أزلي: أن يوقظ السرد الوطني، أن يسلّم الشعلة، وأن يبقى شاهداً ومرشداً. على الذين يأتون بعدنا أن يَقرأوا التاريخ بلا رهبة، وأن يُعيدوا بناء الدولة بمؤسساتٍ قويةٍ لا تُختزل في شخصٍ واحد. فالقومية ليست استرجاع صدى بل مشروع حياة، يحتاج إلى حكمة تُضبط بالقوة، وإرادة تُمدّها الخبرة.
٥. فلنختم كل ماورد اعلاه :بنداءٍ هادئ لا نحتفل بانتصارٍ وهمي، ولا نستسلم لليأس. لنعمل على تهيئة الأرض لمن سيكمل المسيرة: تعليم، مؤسسات، قيادة رشيدة، وضميرٍ يقظ. حين يحين الوقت، سيعرف التاريخ كيف يميِّز بين من ساهم في البناء ومن أعاقه. وحتى ذلك الحين، تبقى الذكرى سراجاً يضيء لقلوب الأحرار، والحلم المؤجل وعداً لا يَخون.
بإخلاص ومودة،
اللواء الملاح الركن المتقاعد
فيصل حمادي العمري
تمهيد:
١. في ذاكرة المحاربين القدامى، يبقى التاسع من نيسان 2003 جرحاً لا يلتئم، ليس لأنه يوم سقوط نظام، بل لأنه لحظة انكسار وطنٍ كانت له اليد العليا يوماً في ميادين القتال. جيلٌ من الرجال سُمّي بجيش صدام، بينما الحقيقة أنه جيش العراق جيش الأمة الذي ذاد عن حدودها وصان كبرياءها.
٢. مع اعتذاري العميق لقادة الجيش العراقي العظيم، أولئك الذين علّمونا أن الشجاعة ليست في البندقية فحسب، بل في الصدق عند القول والوفاء عند العهد. لقد تجرأت أن أكتب على ظلهم، أن أستعيد شيئاً من وهج أيامهم المجيدة، وعذراً إن أخطأت فالحمد لله إن أصبت.وعليه، أُقدّم التحليل المتواضع أدناه، لا ادّعاءً للمعرفة ولا تجرّؤاً على التاريخ، بل وفاءً لتجربةٍ عشتها بقلبي وعقلي، ورغبةً في أن تبقى ذاكرة البطولة العراقية حيةً في الوجدان، تذكّرنا أن المجد لا يُكتب بالحبر، بل بالدم والعزم والإخلاص للوطن.أسمحوا لي ان استعرض باختصار بعض من الحقائق كما في ادناه:
أ. العراق بعد نهاية الحرب مع إيران ٨ أب ١٩٨٨ :من ذروة القوة إلى بداية التناقضات بعد حربٍ استنزفت الطاقات، خرج العراق بجيشٍ هو الأقوى عربياً، بعقيدة قتالية صلبة وتجربة ميدانية فريدة.لكن النصر العسكري لم يترافق مع إصلاحٍ سياسي أو اقتصادي. فبينما امتلك العراق استراتيجية قوةٍ تعتمد على السلاح والعقيدة، غابت قوة الاستراتيجية التي تُوازن بين القرار والنتيجة، بين الحلم والواقع. فقد تنافر المفهومين من الفكر إلى الميدان.
( استراتيجية القوة: مشروعٌ بُني على الإرادة، على الإيمان بأن السلاح يحسم المصير.أما قوة الاستراتيجية: الفعل الواعي الذي يُحسن توظيف القوة في الزمن والمكان المناسبين ).
ب. حين تنافر الاثنان، تحول النصر إلى عبء، وتحوّل القائد من مُلهم إلى مركز القرار الوحيد، فاختنقت المؤسسة، وانغلقت الدائرة على ذاتها.
ج . القائد الأوحد وتأثيره في تآكل المنظومة
حين تحوّل الولاء إلى شخص لا إلى وطن، ذابت موازين النقد الذاتي، وغابت المراجعة.العظمة حين لا تُقيَّد بالعقل تتحوّل إلى عزلة.كان العراق بحاجة إلى دولة مؤسسات، لا إلى مؤسسات تُختزل في شخص .من هنا بدأ الخلل، حين أصبح القرار السياسي فوق القرار العسكري، وحين طغت الهيبة على الحكمة.
٣. من القادسية إلى العاصفة: تحوّل الجيوش إلى رموز معلّقة النصر على إيران منح العراق ثقة هائلة، لكنه أدخله أيضاً في دوامة الغرور الاستراتيجي.مع حرب الكويت، بدأ الانهيار المعنوي والاقتصادي، فاختنقت القوة بالحصار، وذابت الإرادة في مواجهة آلة سياسية وإعلامية ضخمة.
٤.الاحتلال والجرح المفتوح: 9 نيسان 2003 لم يسقط جيش، بل أُسقطت دولة الإرادة.تآمرت قوى الهيمنة الغربية، وتواطأ الخونة من العرب، ووجدت واشنطن لحظتها التاريخية لتصفية الحساب.لكن النار لم تمت، لأنها في جوهرها ضميرٌ قومي يئنّ تحت الركام.
٥. إشارة الضمير : صواريخ الحسين والعباس
حين أمطر العراق تل أبيب بـ39 صاروخاً، لم يكن هدفها عسكرياً فحسب، بل كانت صرخة وجود، إعلاناً أن الأمة ليست ميتة، بل غارقة في غيبوبة تحتاج الى انعاش.
كانت تلك الصواريخ رسائل من قلب بغداد إلى وجدان الأمة:
“النصر لا يموت، بل ينتظر أن يستيقظ الجميع من سباته.”
٦. الحلم المؤجل وضمير الأمة: جيلنا قد لا يدرك النصر، لكنه سلّم الشعلة إلى جيلٍ قادم سيحمل عبء الإحياء.
فالقومية والوطنية ليست شعاراً، بل خوارزمية الشعوب الحرة التي لا تُظلَم، وإن خُدّرت أو أُسقطت. النصر، وإن تأخر، سيأتي يوم تُبعث فيه الأمة من رمادها كما يُبعث المارد من بين الركام.
٧.الخاتمة: بين استراتيجية القوة وقوة الاستراتيجية ضاعت المسافة التي تفصل الحلم عن السقوط.لكن الضمير العراقي والعربي الحر ما زال يتنفس، والقلب القومي لم يمت.
قد تتبدل الرايات، لكن الأرض التي أنجبت الأبطال تعرف طريقها إلى الشمس.
عاش العراق وطناً حراً عربياً قوميا ركيزة تتكئ عليه الامه عند الوهن وعاشت فلسطين حره عربيه تضيئها شعلة ٧ اكتوبر ..حتى وان خفتت لعاصفة الريح لكن شعلتها باقيه وتضئ بعد كل نداء …
إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياةَ فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ لليلِ أن ينجلي ولا بُدَّ للقيدِ أن ينكسرْ
٨.تلك الكلمات الخالدة لأبي القاسم الشابي لم تكن قصيدة فحسب، بل ميثاق وعيٍ بين الشعوب وأقدارها. فهي تقول إن إرادة الحياة لا تُمنح، بل تُنتزع، وإن القدر لا يلين إلا لمن يطرق بابه بقبضة العزيمة.وإن انكسر السيف، فستبقى اليدُ تمسك بالعهد. وإن غابت الراية عن السارية، فسيبقى اللون في القلوب.فالشعوب التي أرادت الحياة، لا يُميتُها احتلال ولا يُخدرها يأس. وإذا الشعب يوماً أراد الحياة، فإن العراق أول من يوقظ القدر من نومه.

841 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع