الانتخابات في جمهورية الفساد الديمقراطية جدًا

بدري نوئيل يوسف

الانتخابات في جمهورية الفساد الديمقراطية جدًا

بقلم مواطن يبحث عن صندوق الاقتراع

تعريف : برلمان دولة الفساد وصناديق بلا أسرار.
في دولةٍ ما، حيث تلبس الحقيقة ثوب المجاملة، وتُحجب الشمس بستائر الشعارات، تبدأ فصول المسرحية الكبرى التي يسمونها انتخابات البرلمان هناك، لا تُقرع الطبول احتفالًا بالوطن، بل بالوعد القديم الذي يتجدد كل أربع سنوات.
تقام الانتخابات في دولة الفساد كما تُقام حفلات التتويج في الممالك الوراثية، النتيجة معروفة مسبقًا، وما يُسمّى بـالعملية الديمقراطية ليس سوى مشهدٍ استعراضي لتجميل وجهٍ شاحب. فكل دورة انتخابية تبدأ بتأكيدٍ رسمي أن البلاد تسير نحو الإصلاح، بينما المواطن يسير نحو صندوق الاقتراع وهو يعلم أن صوته سيُدفن فيه إلى الأبد.
المرشحون يحضرون إلى الساحة السياسية كمناضلين للفوز لا للخدمة، يتبارون في توزيع الصور والابتسامات والوعود، وكأن المواطن لا يحتاج إلا إلى منشور جميل ليغفر لهم ما سرقوه من أعوامه السابقة. وخلف الكواليس، تُدار اللعبة بدقة أوركسترالية: تحالفات بالمقاس، تمويل مجهول المصدر، وبرامج انتخابية تُصاغ بعبارات عامة تصلح لأي زمنٍ وأي فشل.
في دولة الفساد، موسم الانتخابات يشبه موسم التخفيضات: الضحك مجاني، والوعود بلا انتهاء تاريخ. الشوارع تعجّ بصور المرشحين الذين يبتسمون كمن ربحوا جائزة نوبل في الصبر، بينما المواطن ينظر إلى الملصقات متسائلًا: أين كنتُم عندما كانت الكهرباء في إجازة مفتوحة؟
موسم الحصاد الجديد
ها قد حلّ الموسم المنتظر، موسم الوعود الوردية والابتسامات البلاستيكية، حيث يخرج المواطن من صمته الأبدي ليشارك في العرس الديمقراطي العظيم، المعروف محليًا باسم انتخابات نواب برلمان دولة الفساد، لا تُقاس الوطنية بصدق النائب، بل بمهارته في إقناع الناس أن السرقة نوع من الذكاء السياسي.
منذ الصباح، تعلن اللجنة العليا (التي لا يعرف أحد من عيّنها) عن جاهزيتها التامة: الصناديق وصلت، الحبر السري وُزّع، وحتى الكهرباء تلك المخلوقة الأسطورية عادت إلى بعض المناطق احتفالًا بالمناسبة.
في الشوارع، تُعلَّق الصور العملاقة للمرشحين، وكلهم يرتدون ذات البزة، ذات الابتسامة، وذات العبارة السحرية:(منكم وإليكم.)لكن الحقيقة أن منكم يقصد بها أموالكم، وإليكم يقصد بها الوعود بعد أربع سنوات.
في المناظرات وإن وجدت، يتنافس السادة المرشحون في عرض خططهم الجبارة لمكافحة الفساد. والأجمل أن بعضهم من نفس الذين صنعوه! أحدهم يعد بإصلاح الطرق التي خرّبها عندما كان وزيرًا، وآخر يتحدث عن دعم التعليم بعدما أغلق نصف المدارس لفتح مول تجاري مكانها.
أما الشعب المسكين، فمقسم إلى ثلاثة أنواع:
المتفائل الأبدي: يظن أن هذه المرة ستكون مختلفة، لأن المرشح قال والله العظيم ثلاث مرات.
الساخر الهادئ: يشارك فقط ليستمتع بالكوميديا السياسية.
الناخب الواقعي: يذهب لأن المرشح وعده بكيس طحين وزيت.
بداية العرض المسرحي:
إنها ديمقراطية بلا روح، تشبه مسرحية تُعرض للمرة الألف أمام جمهورٍ يعرف النهاية لكنّه يصفّق لأن الإضاءة جميلة والموسيقى مؤثرة.
الفصل الأول من المسرحية يبدأ بجولات المرشحين، الذين يظهرون فجأة وكأنهم اكتشفوا أن الشعب لا يزال على قيد الحياة. يوزعون القبل والوعود، ويعدون بجعل السماء تمطر وظائف، والماء يجري في الأنابيب بلا رائحة صدأ. يزورون الأسواق، يأكلون مع الناس كأنهم لم يروا رغيف خبز من قبل، يلقون الخطب بحماس تجعل المارة يصدقون أن الفجر قريب ثم يركبون سياراتهم المظللة عائدين إلى الحقيقة لا شيء سيتغير سوى اللافتات.
في الفصل الثاني، تبدأ الدعاية المكثفة، فالشاشات تفيض بالابتسامات والنغمات الحماسية. كل مرشح يدّعي أنه ابن الشعب، ورغم أن الشعب لا يعرف والده من هو، لكنه يهز رأسه احترامًا للعادة. والناس يتناقشون في المقاهي وكأن نتائج الانتخابات ستُغير طعم الشاي، بينما يعرف الجميع أن النتيجة محفوظة في درجٍ قديم بجانب ملفات الفساد الأخرى.
ويأتي الفصل الثالث: يوم التصويت. يُفتح الصندوق الانتخابي كأنه صندوق سحر، تُلقى فيه الأصوات وتخرج منه النتائج بقدرة قادر. المواطن يخرج من المركز وهو يشعر أنه أدى واجبه الوطني العظيم، في حين يؤدي الآخرون واجبهم الحزبي الأكبر في غرف مغلقة ومكيفة جيدًا.
أما الفصل الرابع والأخير، فهو الأكثر إبداعًا، حين يعلن النائب الفائز أنه سيخدم الشعب بكل إخلاص. بعدها بأيام، يخدم نفسه بوظيفة إضافية في شركة حكومية، ويبدأ بنشاط حيوي في افتتاح المشاريع الوهمية التي لا تُرى إلا في الأخبار، كل شيء في تلك الدولة يسير بترتيب دقيق، اللافتات تبتسم، الصور تُزيَّن ببرامج فضفاضة، والمرشحون يتنافسون في من سيقنع الجمهور بأنه لم يكن جزءًا من الخراب، بل كان ينتقده من الداخل.
وفي يوم التصويت، يُحتفى بالديمقراطية على الطريقة المحلية: الميكروفونات تصدح بالأغاني الوطنية، السيارات تجوب الأحياء توزع الوعود، يخرج الإعلام الرسمي ليعلن أن الشعب قال كلمته، بينما الحقيقة أن الشعب لم يقل سوى تنهيدةٍ مكتومة. المفارقة أن كل نائبٍ فائز يصف فوزه بأنه انتصار للديمقراطية، وكأن سرقة صندوقٍ بصوتٍ مرتفع تُعتبر بطولة وطنية ، والنتائج تُعلن قبل أن تُفرز الصناديق، فقط لتوفير الوقت والجهد.
سنخدم الشعب... بعد قليل.
أما المواطن، فقد صار خبيرًا في قراءة لغة العيون السياسية. يعرف من النظرة من سيبيع صوته، ومن سيشتريه، ومن سيكتفي بالصمت الحكيم. فقد علّمه الزمن أن الديمقراطية هناك ليست حقًّا بل طقسًا، وأن الصندوق لا يحوي أصواتًا بقدر ما يحوي موافقاتٍ ضمنية على استمرار المسرحية.
في الخطابات، يكثر استخدام الكلمات العظيمة: الشفافية، النزاهة، التنمية، المستقبل المشرق.لكن في الواقع، لا يلمع شيء سوى الأحذية الجديدة التي داس بها المرشحون شوارع الأحياء الفقيرة أثناء زياراتهم الانتخابية، تلك الزيارات التي تنتهي حالما تُغلق الصناديق ويبدأ الفرز المُقدّس.
وحين تُعلن النتائج، يُدهش الناس من المفاجأة القديمة ذاتها: فاز من كان يجب أن يفوز، وخسر من كان يظن أن للصوت وزنًا. تُوزّع الابتسامات الرسمية، ويُرفع شعار الشعب اختار، بينما الشعب ذاته لا يعرف هل اختار فعلاً، أم اختير باسمه.
وفي اليوم التالي، تُزال اللافتات، وتختفي الابتسامات من الوجوه كما تختفي الكهرباء عند أول مطر، ويعود المواطن إلى همّه اليومي، يُقلّب جيبه الفارغ ويبتسم ابتسامة الفلاسفة قائلاً: إنهم يمارسون السياسة، ونحن نمارس الصبر.
ثم تعود الحياة لطبيعتها: الشعب ينتظر الفرج من نائب لا يرد على الهاتف، والمرشح المهزوم يبدأ بالتحضير لانتخابات للموسم القادم، مؤمنًا أن المرة الجاية أكيد الفوز مضمون، لأن الشعب طيّب جداً لدرجة النسيان.
وفي النهاية، يفوز من يجب أن يفوز. ويخرج رئيس اللجنة ليشكر الشعب على نضجه السياسي، ثم يذهب النواب الجدد إلى البرلمان ليبدأوا فورًا أولى جلساتهم التاريخية: تعديل رواتبهم وزيادة مخصصاتهم.
أما المواطن، فيعود إلى بيته ليكتشف أن الكهرباء انقطعت مجددًا، فيضيء شمعة ويبتسم قائلاً:
على الأقل شاركت في صنع المستقبل مستقبلهم هم.
هكذا تدور عجلة الزمن في دولة الفساد: انتخابات بلا خيار، ووعود بلا ذاكرة، وبرلمان يجتمع لا ليسنّ القوانين، بل ليُسنن الكلام.
وكل دورةٍ انتخابية تُثبت أن أعظم إنجاز في تلك البلاد هو قدرة الناس على الضحك دون سبب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

882 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع