اليوم العالمي للصحة النفسية: شعارات عالمية وأزمات محلية تهدد استقرارنا النفسي

د. نزار گزالي – دكتوراه في علم النفس
مدير مركز الاستشارات النفسية والاجتماعية في جامعة EPU

اليوم العالمي للصحة النفسية: شعارات عالمية وأزمات محلية تهدد استقرارنا النفسي

اعتمدت منظمة الصحة العالمية في عام 1992 اليوم العاشر من تشرين الأول من كل عام ليكون اليوم العالمي للصحة النفسية، بهدف رفع الوعي بأهمية الصحة النفسية وتعزيز الجهود الدولية لتحسين نوعية حياة الأفراد والمجتمعات. ويُعدّ هذا اليوم فرصة لتسليط الضوء على التحديات النفسية المتزايدة في العالم المعاصر، والدعوة إلى دمج الرعاية النفسية ضمن السياسات العامة وخدمات الصحة المجتمعية.

بين الشعارات العالمية والواقع المحلي

في كل عام، تُطلق منظمة الصحة العالمية حملات توعوية تحمل عناوين مختلفة، كان آخرها في سنة 2024 تحت شعار “الصحة النفسية في مكان العمل”، وقبلها في سنة 2023 كان الشعار “الصحة النفسية حق من حقوق الإنسان”، فضلاً عن حملات سابقة ركزت على الوقاية من الانتحار وغيرها من الموضوعات الحيوية.
كل هذه الحملات والأنشطة التوعوية باتت ضرورية في زمن تتكاثر فيه الضغوط وتتعقد فيه متطلبات الحياة مع محدودية الدخل، وازدياد التوتر الاجتماعي، وسوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وصعوبة السيطرة على آثارها النفسية والسلوكية. وفي بعض الأحيان، تُستهدف مجتمعات معينة بطرق خفية أو مباشرة، في محاولة للنيل من أمنها الفكري واستقرارها الاجتماعي.

وفي العراق وإقليم كوردستان، ومع حلول يوم الصحة النفسية العالمي لعام 2025، نجد أنفسنا أمام ثلاثة تحديات آنية تمسّ بشكل مباشر استقرار الفرد والمجتمع:
1. التحدي الاقتصادي:
ما زالت أزمة الرواتب تلقي بظلالها الثقيلة على الحياة اليومية؛ فحتى العاشر من تشرين الأول، لم يتسلم موظفو الإقليم رواتب شهري آب وأيلول، مما يهدد الأمن النفسي للأسرة والمجتمع والمؤسسات الحكومية. هذا الواقع يتناقض مع شعار منظمة الصحة العالمية للسنة الماضية “الصحة النفسية في مكان العمل”، إذ كيف يمكن الحديث عن صحة نفسية في عملٍ مهدد أصلاً في وجوده واستقراره؟ لذلك نحتاج إلى رفع شعار واقعي جديد: “ضرورة حماية الصحة النفسية للموظفين من خلال ضمان استقرارهم المادي والمعيشي”.
2. التحدي السياسي:
في ظل الأجواء الانتخابية في العراق، تتزايد الضوضاء الإعلامية والوعود غير الواقعية، مما يؤدي إلى إنهاك نفسي واستياء سياسي عام. هذه الفوضى الخطابية تولد ما يمكن تسميته بـ النفور المدني، وهو شكل من أشكال الإرهاق النفسي الذي يدفع المواطنين إلى العزوف عن المشاركة السياسية والشعور بالعجز واليأس من الإصلاح.
3. التحدي البيئي:
يشهد العراق والإقليم تراجعًا بيئيًا خطيرًا يتمثل في زيادة عدد السيارات والبناء العشوائي وتراجع المساحات الخضراء، إلى جانب شحّ الأمطار وجفاف الأنهار بسبب السدود المقامة في دول الجوار. هذا الواقع لا يهدد الزراعة فقط، بل يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للمجتمع. فاختفاء الطبيعة وتلوث الهواء يحرمان الإنسان من أحد أهم مصادر التوازن النفسي. وقد أكدت دراسات عديدة أن البيئة الخضراء تخفف من القلق والاكتئاب، بينما يؤدي التلوث والجفاف إلى شعور جماعي بالخوف من المستقبل وتهديد الأمن الغذائي، وهو من أقسى أنواع الضغوط النفسية.

هذه التحديات الثلاثة لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل تتشابك لتكوّن ما يمكن تسميته بـ “العاصفة النفسية المثالية”، التي تهدد النسيج الاجتماعي وتؤثر في الأمن العاطفي والعقلي والمهني للأفراد.

خاتمة: نحو وعي نفسي يحمي استقرارنا المجتمعي

في اليوم العالمي للصحة النفسية، يجب أن نتذكر أن:
• كل إنسان، مهما كان وضعه الاجتماعي أو الثقافي أو الديني، معرض للإصابة باضطراب نفسي.
• المرض النفسي لا يعني ضعف الشخصية، بل هو حالة تحتاج إلى دعم وفهم وعلاج.
• ضعف الوعي النفسي المجتمعي ما يزال يمثل عائقًا أمام طلب المساعدة، إذ يخشى كثيرون من نظرة الآخرين أو يجهلون طرق الوصول إلى الدعم المهني.
• وسائل الإعلام الكوردية والعراقية لم تلعب بعد دورها الحقيقي في تعزيز الثقافة النفسية، وتبقى الحاجة ماسة إلى خطاب إعلامي مسؤول يساهم في نشر الوعي وتشجيع الناس على الاعتناء بصحتهم النفسية كما يعتنون بصحتهم الجسدية.
• كما أن العوامل البيئية تشكل جزءًا لا يتجزأ من الصحة النفسية، فالحفاظ على البيئة وتحسين جودة الحياة يمثلان استثمارًا مباشرًا في سلامة العقل والوجدان.

إننا أمام مرحلة تتطلب إعادة نظر شاملة في طريقة تعامل المجتمع مع النفس والضغوط اليومية. فالتوعية النفسية ليست مجرد شعارات، بل ضرورة لحماية الإنسان من التآكل الداخلي، وبناء مجتمعٍ قادر على التوازن في وجه الأزمات الاقتصادية والسياسية والبيئية التي تحيط بنا من كل جانب.
إن الاعتراف بمعاناتنا النفسية ليس ضعفًا، بل هو أول خطوة في طريق القوة والتعافي، وأهم رسالة يمكن أن نوجّهها في هذا اليوم العالمي للصحة النفسية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1097 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع