جابر رسول الجابري
الحقيقة و الوهم مقالة فلسفية
المقدمة:
لم تدرك البشرية لحد الآن تاريخ ولادة أول إنسان على كوكب الأرض و إين كان ذلك الحدث ،
كما وأنها لحد الآن لم تتوصل أيضاً لمعرفة العصر الزمني الذي استغرقه الإنسان القديم في مراحل تطوره وذلك بسبب ضياع إرث التاريخ البشري في أتون ظلام الزمن ،
ولكن منذ ولادة التدوين سواء كان التدوين لغوياً (القصص) أو التدوين برسم الأشكال والحروف (الكتابة) إنطلق العقل البشري ليخوض مضمار التفكير من أجل إكتساب المعرفة والوصول إلى تأويل حقيقة الأحداث ،
فبدأ العقل البشري أولاً بمطاردة الظواهر الفلكية والأحداث من أجل اقتناص حقيقتها ،
تلك المطاردة الفكرية هي ما أطلق عليه لاحقاً تسمية الفلسفة والتي تعني إستخدام التفكير وصولاً للاستنتاج الذي يمكن الإنسان من ادراك حقيقة حدث ما ،
لقد مهدت بعض صفات العقل البشري الطريق أمام الفلسفة لرسم حياة جديدة للإنسان وحياة الكرة الأرضية ،وأهم تلك
الصفات هي :
قابلية الإستنتاج ،
قابلية المقارنة ،
قابلية اجترار المعلومات من الذاكرة ،
قابلية العقل البشري على خزن و نقل المعلومات وتحويلها الى لغة صوتية أو لرسم حروف كتابية ( في عصرنا الحالي استطاع الإنسان أن يحول المعلومة إلى طاقة ليتم خزنها خارج العقل بل وراح لإبتكار عقلا بديلا عن عقله سماه الذكاء الاصطناعي ) ،
وبالرغم من كل ذلك ظل العقل البشري يتأرجح بين ما يراه حقيقة أو ما يدركه بحواسه وبين الحقيقة التي يكتشفها بالاستنتاج الفكري الذي مكنه من اجراء المقارنة العقلية ، وقد ينجح المُفكر في اصطياد الحقيقة أو يفشل أو قد يكتشف جزءا من الحقيقة ويظن بانها الحقيقة ليكتشف لاحقاً أنها كانت وهماً ،
أن الوهم هو مجرد رؤية فلسفية خاطئة لا تنطبق مع حقيقة الحدث بعد المقارنة مع الحقيقة التي يدركها الانسان بالحواس أو الإستنتاج فمثلا ان الإنسان ظن باديء الأمر أنه ادراك حقيقة الذرة كأصغر جزئية مادية لكنه اكتشف لاحقا ان ظنه ليس بالحقيقة بل هناك مكونات أصغر مثل النواة ،البروتون، إليكترون ثم تعمق الإنسان في البحث فوجد ان هناك الأصغر ( الرُكين او الكوارك)
إذاً ليس هناك وجود لحقيقة مطلقة بمجرد استنتاجها إلا إذا إقترنت بالثوابت العلمية والوجود المادي والتي تمكّن الإنسان من عمل المقارنة العقلية معها ،
كما وليس هناك وهم مطلق إلا بعد إجراء مقارنة عقلية مع المدرك علمياً أو حسياً فإن وجدناه لا يتطابق فيصبح مجرد وهم وظن فكري .
الموضوع :
الحقيقة : وهي تصغير لكلمة الحق كقولنا خميرة من خمر أو عجيبة من العجب ، وتعريف الحق هو كل شيء ثابت لا يجوز انكاره أو لا جدال فيه ،
وتُصنف الحقيقة إلى ثلاث أنواع
١-الحقيقة الوجودية التي ندركها بالحواس سواء كان ذلك الحس رؤية بصرية أو إستشعار باللمس أو التحسس ومثال ذلك ( رؤية الضوء و التغيرات التي تطرأ عليه ، و الاستشعار بالتحسس أو باللمس لدرجة الحرارة وتغيرها ، سماع الأصوات والتفريق بين طبقاتها ) ، فهذا النوع من الحقيقة لا جدال فيه لكنها أيضاً هي ليست مطلقة حتى يتم إدراك كنهها وتأويلها (مثل رؤيتنا لشكل أو حجم تمثال أو شجرة من بعيد وعند اقترابنا منها نكتشف أن قياساتنا ورؤيتنا للشكل كانت خاطئة أو غير دقيقة .
٢- الحقيقة المُستنتجة والتي نستنتجها علمياً نتيجة البحث و التفكير في تأويل حقيقتها وما ينتج عنها كالظواهر الفلكية والعلمية مثلاً (سبب نزول المطر ، سبب الجاذبية ، الإشعاعات الضوئية المرئية وغير المرئية )،
وبالرغم من توصل العقل البشري علمياً لإستنتاج هذه الحقائق لكنها تبقى ليست حقيقة مطلقة…أي نعم هي حقيقة علمية ثابتة نسبياً لكنها تبقى مُعرضة للتغيير ، فقد تتحول إلى وهم أو ظن خاطيء جزئياً أو قد يتغير مفهومها وفق تطور منهج ووسائل المعرفة العلمية التي يستخدمها الإنسان، ومثال على ذلك رؤيتنا للهالة الضوئية وتطور استنتاج حقيقتها فكان الاستنتاج بسبب وجود سحب ذرية مشعة في الغلاف المحيط بالكوكب ثم تحول إلى مجرد انكسارات ضوئية في الغلاف الجوي .
٣- الحقيقة المنطقية الناتجة عن المقارنة الفكرية وهي التي أكد عليها الله في الرسالات الدينية المقدسة لكي يهدي البشرية للحقيقة المنطقية الغيبية ،
فمثلا في القرآن الكريم دائما نجد أن الله يدفعنا لإيجاد الحقيقة المنطقية باستخدام المقارنة الفكرية ( أفلا تبصرون ، تنظرون ، تدركون ، تدبرون ، تعقلون ..الخ ) أو كما في الكتاب المقدس في حثه للبشرية على ادراك كنه الغيب من خلال تنزيل الآيات عليهم بهدف زرع الثقة والإيمان في قلوبهم كي يدركوا الحقيقة المنطقية التي لا يمكن ان يدركوها ،
** الوهم :
وهو رؤية فلسفية خاطئة يتم بها استنتاج فكري مشوه لإدراك أو تأويل أو تفسير حدث معين ،
ويستمد أي ظن أو أي رؤية فكرية من بيئة تساعد العقل البشري على إنشاء ذلك الظن بأنواعه (ظن الوهم ، ظن الشك ) ثم ليتحول بعد ذلك في ذاكرة الإنسان على شكل حقيقة يستخدمها الإنسان كدليل لمنهجه و سلوكه ،
بيئة الوهم هي :
١- وجود قاعدة معلومات خاطئة :
أي استنتاج يعتمد على توفر كم من المعلومات في ذاكرة الإنسان ، فإذا إنعدم وجودها فيعني عدم قدرة العقل على الاستنتاج أو ما يطلق عليه بالبصيرة العقلية ،
لذلك يلجأ عقل الجاهل أو العقل المؤدلج ليكون مسلوب البصيرة الى الاعتماد على مصدر خارجي يثق فيه ويتعاطف معه من أجل أن يغذيه ويرفده بالمعلومات لكي يتمكن من اجراء الاستنتاج اعتمادا على تلك المعلومات التي حصل عليها والتي تؤدي في كثير من الأحيان لنشوء الوهم بسبب عدم دقة المعلومات ، لذلك سيعمد الجاهل والمؤدلج إلى تقليد المرجع الديني أو المذهبي أو السياسي أو العلمي باعتبار أن رأي ذلك المرجع هو الحقيقة المطلقة والثابتة بينما هو لا يدرك أنه قد يتبنى الوهم أو الظن الفكري والذي يتحول بمرور الزمن إلى الوهم الموروث على انه حقيقة ) ،
طبعاً اي حقيقة تعتمد على دقة و علميّة و صحة المعلومة التي يستقبلها المتلقي لكن الفرق بين الجاهل أو المؤدلج أنه لا يستخدم بصيرته بل يتبع مرجعه كالأعمى ، فالمعلومات الخرافية أو غير الواقعية أو المنطقية حتى لو كانت موروث ديني وتم التأكد من صحة نقلها فإنها تبقى بؤرة لنشوء الأوهام أو الظنون الفكرية مثال على ذلك نجد أن القرآن الكريم قد وصف حالة الوهم الموروث الذي غش الإنسان و أوهمه فاستخدمه الإنسان كدليل وحقيقة دامغة في رسم نهج حياته من دون استخدام عقله لأجل الاستنتاج والمقارنة العقليه ولانه يعتقد بثقة الموروث فلذلك هو سيتحمل نتيجة العمل بالوهم الموروث ومسؤولية الايمان به وحده دون مرجعه { سورة الأعراف -٣٨ } ( ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون )
٢- وسائل قياس أو مراجع معلوماتية مشوشة سواء كانت كتب لتفسير مراجع دينية أو كتب آراء فلسفية أو كتب سرد الحديث أو مرجعية التواصل الاجتماعي حيث قد تقدم للمستخدم مقارنة فكرية وهمية يمكن بسهولة أن ينتج عنها زراعة ورعاية الوهم والرؤية الخاطئة عند المتلقي بسبب أن المتلقي لم يستخدم التمحيص العقلي للمعلومة وعمل المقارنة الفكرية مع المعلومات المتوفرة في الكتب العلمية المعتمدة أو الكتب السماوية المقدسة كمرجع للمقارنة ولذلك أوصى الرسول ص بضرورة مقارنة ما ينسب له من الحديث مع القران فإن كان لا يتطابق فهو عبارة وهم وتمويه للحقيقة ،
كل تلك الوسائل والآراء البشرية تؤدي لنشوء الوهم بل والكارثة أنها تورث على مر الزمن ليصبح حقيقة وثقة عند الأجيال ،
قد يزول الوهم عند اللجوء لوسائل علمية أو مراجع معتمدة وإكتشاف الحقيقة او بالعكس قد يبقى الوهم وهماً ليتحول إلى عرف اجتماعي ثقافي ترثه الاجيال اللاحقة كما يحدث في الإختلافات والخلافات المذهبية والطائفية بل وبالرغم من ان بعض الطقوس جاءت بعد اكثر من مائة عام على وفاة الرسول ص لكنها اصبحت حقيقة معتمدة .
*الخاتمة :
على مر التاريخ سواء على المستوى الفلسفي ام الديني تم التراجع عن الكثير من القناعات العقلية بحقيقة ما ثم تم لاحقا التراجع عنها واعتبارها وهم من نفس الشخص المفكر الذي اعتمدها حقيقة كما حدث لتراجع الامام ابو حامد الغزالي الذي انتقد وأنكر أفكاره القديمة في كتاب تهافت الفلاسفة وطلب حرق كتبه القديمة ،
كذلك فعل الفيلسوف الأمريكي ويلارد أورمان أو النمساوي هانز كيلسون بالتراجع عن ما اعتقدوه ، أو كما لمسناه في حاضرنا من فتاوى بعض رجال الدين مثل العرعور أو يوسف القرضاوى اتجاه الربيع العربي وفتوى الدعوة للجهاد ثم تراجعوا نادمين على ما أفتوه لانهم اكتشفوا ان ارائهم كانت عبارة عن وهم وظن خاطيء وروجوا بأن المخطيء لا ذنب له بل له حسنة واحدة على ما أخطأ فلا يتحمل تبعات فتواه وهذا مخالف لآيات لما ورد في القران الحكيم ، كذلك ما لمسناه من فتاوى عمائم الشيعة في احداث الفتنة في العراق وسوريا لقتل اخوانهم السنة من أجل الاستيلاء على الحكم والحفاظ على المكتسبات فأفتوا بتكفير الطرف الاخر و ضرورة اللجوء إلى استخدام الرذيلة والفساد و جواز إستخدام أراذل الشيعة ( ماعش ) للدفاع عن كرسي الحكم ومكتسباتهم فقتلوا وهجروا وسجنوا كل من يختلف مع توجهاتهم ،
وبالمقابل راح الطرف الآخر (داعش )مستغلاً فتوى عمائم الشيعة فإنطلقوا للهجوم والقتل العشوائي بحجة إرجاع الحكم فكفروا و قتلوا وهجروا وسبوا النساء ودمروا وأحرقوا كل من لا يؤمن بتوجهاتهم ،
أو مثلا آخر في موضوع فتاوي عمائم الشيعة بنهب المال العام بحجة ظهور الامام المهدي ثم حللوا ممارسة الجنس مع الأطفال الرضع وأيضا فتوى اعتبار المرأة سبية عند الرجل يحق له طردها متى يشاء ومن حق الرجل أن يسلبها حقوقها حتى التي نص عليها القران بوضوح ،
والمضحك أنهم راحوا يرفعون شعار المدونة الشيعية التي تطالب بحرمان المرأة أو البنت من إرث الأرض ولكنهم في نفس الوقت يتباكون ويلطمون على مظلومية فاطمة الزهراء عليها السلام في حرمانها من ارث ارض أبوها (فدك)، او فتواهم وسعيهم في الاعلام والحث على استمرار الفساد والتخريب والنهب والدعوة لدعم الانتخابات بوجود ومشاركة حيتان واحزاب الفساد الشيعية ضمانة لمكتسبات وسلطة تلك العمائم ،
وباختصار ان كل حقيقة لا ترتبط بمقارنة علمية او كتاب سماوي أو ترتبط بتفسير شخصي تبقى تلك الحقيقة واهية إن هي إلا مجرد رأي معرض لان يكون وهم خاطئ ومُعرض إلى التغيير ومن يتبع ذلك الوهم يتحمل المسؤولية وكشريك للخطأ .
***المصادر :
كل محتوى المقال هو نتاج من فكر ورؤية الكاتب ومستمداً بالدرجة الأساس إلى استنتاجاته العقلية عن طريق المقارنة الفكرية المستندة إلى قرائته والى المعلومات المتوفرة في بعض المصادر الموثوقة ومن تلك المصادر :
*الكتب السماوية المقدسة ( القران الكريم، الكتاب المقدس،
السفر الناصورائي ( الكنز العظيم(كنزا ربا )
*كتب مختلفة ومتعددة فقهية ( مثل فقه السُنة للسيد سابق ، الفقه على المذاهب الخمسة / محمد جواد مغنية ، محاضرات السيد الحيدري ) و كتب صحاح الحديث ورسائل فتاوى مراجع الشيعة (الأصولية والإخبارية ،فكر وفتاوي ولاية الفقيه )
*كتب البحث العلمي ( كتاب النسبية ، العالم كما أراه / ألبرت أنشتاين )
*الكتب الفلسفية مثل
مقال عن المنهج ، و الميتافيزيقا ، البداهة والتوضيح/ الفيلسوف رينيه ديكارت) ( نقد العقل المحض / إيمانويل كانط ) ( تحقيق في الفاهمة البشرية / دافيد هيوم …وآخرون)
***********^^^******
كُتب في الثلاثين من أيلول عام 2025 المملكة المتحدة
570 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع