د. اسعد الامارة
النفس .. لن تكون محايده أبدًا !!
نجزم بأن النفس البشرية لم ولن تكون محايدة مع رغباتها ، بالتعامل مع نفسها ، فهي إن عَرفَتْ، حَّرفت تلك المعرفة بقصد ربما يكون معلن ، وإن خجلت من الجانب الرمزي الذي شكلها ، أسسها .. وشيدها فسوف تلعب لعبة تأجيل الرغبة لحين تفجرها بلا سيطرة على ما ينبعث من داخلها في أفعال غير محددة ، أو من هفوات وزلات لسان وربما نكتة عميقة الابعاد.. لاذعة ومؤلمة تستهدف الشخص الذي حرمها من قول الحقيقة .. هل هو تفريغ لتلك الشحنات التي أعيقت من الخروج ، أم تحايل على الواقع وما لا تريد قوله ؟ وهو ربما تضليل عن الرغبة الحقيقية . فما يفعله الإنسان هو تعبير مقنع ليس نقي وواضح تمامًا ، بل يغلفه باللف والدوران ، وسريعًا ما يدخل في حوار مع الذات نفسها ، لكي يصبح ذاتيًا داخليًا ، فالنفس لم تعرف الموضوعية والحيادية في داخلها لأنها تنهل من الرغبات المكبوتة في عملية أصدار الحكم ، من مخزن الذكريات المكبوتة ، هو اللاشعور – اللاوعي، وإذا كان الأمر يتعلق بالموضوعية المطلقة ، وهي الحالة المثالية للنفس فكيف يكون الأمر؟
إن الموضوعية المطلقة لا وجود لها في نطاق المعرفة العلمية ، وإنما الأمر أمر موضعة لا موضوعية يسعى الباحث العلمي إلى تحقيق أكبر قدر متاح منها تدريجيًا بصقل أساليب بحثه النوعية، بحيث تزداد الموضعة بقدر نقصان العوامل الذاتية تدريجيًا كما ذكره كلود ليفي شتراوس ، ونقله " مصطفى زيور" . نقول لا توجد موضوعية!! حتى في اختيارنا لرغباتنا !! ولا يوجد وضوح فيما نريد ونرغب ، وخير دليل على ذلك أننا نحتمي بالأعصبة النفسية مقابل أمتناعنا عن قول الحقيقة والوصول للرغبة . والأمر أعمق حينما يذهب البعض منا إلى عالم الذهان ويغرق في عالمه الخاص حيث مسرحه الذي أسسه في عقله ، وشكل أبطاله ، ويتحاور معهم ويكون له مجتمع خاص به لوحده . يرفض الواقع الخارجي ويتحصن بعالمه الخاص، بعد ان هرب من أن يكون محايدًا مع رغبته النابعة من ذات ربما هربت من الدال ، لأنه يمثل الذات نحو دال آخر ، لا يريد البوح عنه .. هي النفس في أعمق ما لا ترغب القول عنه فتبتعد عن الحيادية بأي شكل من أشكال السلوك.. وإن منعتها في القول ذهبت إلى متاهات الحلم كمهرب ناجي من الضغط الخارجي .
إن الموضوعية المطلقة هي خرافة ، إنما الأمر أمر موضعة ، وقول " مصطفى زيور " أن أي علاقة بين فردين من الناس إنما هي أولًا وأخيرًا علاقة بين – ذاتية ومن ثم فإن الموضوعية الحقة هي التي تأخذ الاعتبار متغير الذاتية لذا فإن الحرية الحقة هي الفطنة إلى الحتمية النفسية ، فطنة تتيح لنا معالجتها ، فإن الموضوعية الحقة هي الفطنة إلى حتمية الذاتية على نحو يمكننا من أن نُقدر تأثيرها بوصفها متغيرًا طبيعيًا . أما إذا كان الأمر في داخل الإنسان نفسه ، يمكننا القول ليست بين - ذاتية ، وإنما بين ذاتيتين داخل النفس تضيع فيها أي الأولية لها الرغبة ؟ وأي الأفضلية هي الأولى في الرغبة ؟ ؟
وبعد كل ما تقدم وهو الأسهل لو رأينا أن النفس في صراعها مع آخر خارج عنها لم تكن موضوعية بحتة ، لوجدنا أنها لم .. ولن تكون محايدة مع نفسها أولًا ، أو محايدة مع رغباتها ثانيًا ، لأن الأمر ينحصر بين أولويات لا تجد لها منفذ للإنطلاق ، فتكون الأولوية هو صراع بين رغبات لا يعرف الإنسان من هي الرغبة الأولى ، ولا نجافي الحقيقة كثيرًا.. أنه يعرف ما يريد ، ولكنه يرغب من أعماق نفسه ولا يستطيع أن يصل إليها ونتفق مع " جاك لاكان" بقوله أن الرغبة لا يمكن قولها بالكامل لأن سبب الرغبة ليس كلمة ، بل موضوع غير قابل للتمثيل ، فإن اجبار الاعتراف بالرغبة هي ما قد يثير الفعل ، على عكس العرض الذي هو ليس دعوة للتأويل . يبدو الفعل الخارجي دعوة صامتة ، لم تفهم شيئًا الآن أمر طوال الوقت أمام الأدمغة الطازجة ، وهذا النص كان من محاضرة لـ " محمد درويش " في محاضرة في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس بتاريخ 15 / 4 / 2025 وكانت المحاضرة بعنوان البنية العيادية عن لاكان .
هل ينجح التحليل النفسي في اعادة تصحيح مسارات الذات ؟
ان التحليل النفسي هو في المقام الاولي ليس علم تفسير، ولكنه سبيل لخلق حالة أو طرف جديد يتم من خلالة إمكانية خبرة الحياة والتفكير فيها علي نحو عبر وساطة اللغة. كما يراه "السيد البدوي فتحي" ، مستندًا في ذلك على مقولة توماس اوجدن، لأنه يعد العملية التحليلية هي عملية أنطولوجية (تتعلق بالوجود)، وليست مجرد عملية إبستمولوجية ( تتعلق بالمعرفة).
إنها تهتم قليلا بكشف الحقائق الخفية، وكثيرًا تهتم بمساعدة الإنسان على أن يعيش حياته ويخبرها بطرق جديدة ومختلفة ، وذلك بتمكينه من التفكير والحلم ومعايشة ما كان سابقًا مستحيلًا، أو غير قابل للوصف، وعلى ذلك فإن " اوجدن " نقل التحليل النفسي من فكرة إيجاد المعنى إلى جعل المعني ممكنًا.. هذه الرؤية التي وضع أسسها " سيجموند فرويد" وطورها من بعده ممن أكملوا مسيرة التحليل النفسي برؤاهم العميقة في دراسة النفس وقول " سيجموند فرويد" ومع أننا لا نبلغ دائمًا النصر ، إلا أننا نستطيع عادة أن نعرف على الأقل السبب في هزيمتنا ، ومن المحتمل أن أولئك الذين لم يتتبعوا أبحاثنا إلا بدافع من الاهتمام بالناحية العلاجية هنا مقصور على علاقاتها بالمناهج السيكولوجية ، ولا تهمنا حاليًا من أي وجه آخر. وقد نتعلم في المستقبل كيف نؤثر تأثيرًا مباشرًا ، وربما أكتشفنا إمكانيات علاجية أخرى لم نحلم بها حتى الآن" الموجز في التحليل النفسي ، ص 55" ، وإن أتفق أو أختلف المشتغلين في التحليل النفسي في مختلف اتجاهاته عن فكرة العلاج بالتحليل النفسي وما يتعلق بحيادية النفس ، فإن "اوجدن" سعى متبعًا وينيكوت وبايون، ليعيد صياغة معنى التفسير في التحليل النفسي. وكان يري التفسير ليس هو جوهر التحليل النفسي. إنه مفيد فقط إذا ساعد في خلق خبرات جديدة. ويضيف " السيد البدوي فتحي " ان العمل التحليلي الحقيقي يحدث عندما تخلق العلاقة التحليلية ظروفًا للمريض للتفكير والشعور والخبرة بطرق جديدة. وإن العملية التحليلية تتم من خلال وساطة اللغة - ليس اللغة كأداة ثابتة، بل اللغة كشيء يُشكل الواقع. وينقل الباحث في التحليل النفسي " عبد العزيز الشريف" عن المحللة النفسية " ماري جو بيبلز " مهما ادَعى محتالو العافية، فلا توجد تقنية سحرية لتحرير الصدمة (مهما كان معنى ذلك).. لأن العلاج الحقيقي يسير على النحو الآتي: العلاج النفسي لا يستطيع أن يمحو الذكريات المؤلمة، لكن ما يستطيع فعلُه هو تنمية قدرة الشخص على الوعي باقتحامها، ومقاومة تأثيرها المضر، وتكوين ذكريات جيدة جديدة تُوازن أثرها. ونقول هل تستطيع النفس أن لا تتحايل على ما يؤلمها ؟ وهل تقبل في إعادة صياغة معنى تفسير منبع الألم ، ونؤكد قول " اوجدن" يري التفسير ليس هو جوهر التحليل النفسي. إنه مفيد فقط إذا ساعد في خلق خبرات جديدة، وإن تحقق ذلك فعلا ، فهل يستطيع التحليل النفسي تنمية قدرة الفرد على الوعي باقتحام ما كان يؤلمه ، ومقاومة تأثيرها المؤذي ؟ هي رحلة النفس في حمل الشيء ونقيضه في الآن معًا ، وجود النقيضين معًا ، فمن أستطاع أن يوفق بين هذين النقيضين في نفسه ربما يحدث تسوية متناغمة ولو لفترة وجيزة ، ولكن يعود القبول والرفض معًا مع التحايل من جديد ، بعد كل موضوع جديد والتفكير في مواجهته ، وهكذا تستمر دوامة النفس في مدورتها اللامنتهية في التحيز لما لا يعجبها ، وهي التي صنعت هذا الشيء الذي لا يعجبها من داخلها !! عجيبة هي النفس تخلق الموجود وتناقضه ، لا تراه بعين الحياد والموضوعية ، وإن استطاعت لن تكون محايدة .. ربما أبدًا .
أما في النظريات الأخرى فلها تأثير لا يقل عن تأثيرها الخفي ، وإن أعلنت على سطح تحيزاتها في مواقف الحياة ، ومن هذه التحيزات انحياز التأكيدي ، وتحيز الإدراك المتأخر ، وتحيز الحداثة ، وإنحياز التوافر ، وتحيز عقلية القطيع ، والتحيز للوضع الراهن ، فضلا عن تحيز تجنب الخسارة ، وهذه الأفكار ذات الأبعاد المعرفية فهي لا تخلو في جوانبها السلبية ، ونقول إن كانت بجوانبها الإيجابية لا تقل في الأهمية عن ما يدور في النفس وما يعتمل فيها من السلب والإيجاب ، فالنفس هي هي ، في سلبياتها وفي إيجابياتها ، تختزن وتطلق ما يناسبها في الوقت المناسب ، وتنفي الشيء الآخر وهو موجود في أعماقها .
681 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع