حوار الرئيس عبد الرحمن عارف مع المطرب حاتم العراقي: سفالة النكتة حين يُشوَّه التاريخ بنكتة

ذو النورين ناصري زاده

حوار الرئيس عبد الرحمن عارف مع المطرب حاتم العراقي:سفالة النكتة حين يُشوَّه التاريخ بنكتة

في زمن صارت تتداخل فيه الاخبار وتضيع ميزة التحكم بالمعلومات، بتفكك المعايير المهنية في الفضاء الرقمي، بات من السهل جداً أن تتحول الكذبة إلى حقيقة تُروى وتُصدق او أن تتحوّل النكتة إلى خبر، والسخرية إلى وثيقة، والخيال الساخر إلى رواية واقعة يتم تعاطيها وتناقلها وكأنها جزء من التاريخ. ويزداد هذا الخطر حين يتعلّق الأمر بوقائع وطنية، أو شخصيات سياسية لعبت أدواراً مركزية في تشكيل مسارات المجتمع والدولة.
ومن الامثلة اللافتة، ما يُتداول على وسائل التواصل من قصة مزيفة ساخرة، تدّعي أن الفنان العراقي حاتم العراقي جلس إلى جانب الرئيس الأسبق عبد الرحمن محمد عارف خلال حفل استفتاء رئاسي كبير جرى عام 1995، حيث عبئت هذه القصة بحوار ساخر مختلق بين الطرفين، يُروى بروح من التهكم على المشهد السياسي.
القصة منتشرة كالنار في الهشيم، من دون تمحيص أو تحقق، وتلقّفها بعض الكتّاب وكأنها شهادة موثقة، أو على الأقل "نكتة بريئة".
ولكن الحقيقة، كما يرويها أحد الحضور في ذلك الحفل، الذي أقيم في قاعة كبرى في القصر الجمهوري، تختلف تماماً عن هذه الرواية الملفّقة.
فوفق شهادة منطقية لأحد كبار موظفي الدولة آنذاك، تم ترتيب الجلوس في الحفل وفق البروتوكول الرسمي الصارم؛ إذ جلس الضيف الرئيس الأسبق عبد الرحمن عارف في الصف الأول، إلى جانب نائبي رئيس الجمهورية حينها: ومن حولهم وخلفهم أعضاء القيادة القومية والقيادة القطرية للحزب الحاكم، ومجلس قيادة الثورة (القيادة السياسية العليا للدولة)، أما الصفوف الثانية والثالثة والرابعة، فكانت للوزراء والمستشارين وكبار القادة العسكريين والمدنيين وأعضاء السلك الدبلوماسي. ولم يكن هناك وجود لأي شخصية إعلامية أو فنية، ناهيك عن الجلوس بجوار كبار مسؤولي الدولة.
الشاهد ذاته، الذي رافق الحفل من بدايته حتى نهايته، أكّد أنه لم يُشاهد الفنان المذكور في أي زاوية من القاعة، فضلًا عن أن يكون قد جلس إلى جانب الرئيس الأسبق أو شاركه حواراً.
بعيداً عن محاولة تمرير القصة كنكتة أو "فكاهة سياسية"، فإن ما حدث يعكس ظاهرة أخطر: التطبيع مع التزييف، وتقديمه كمادة ترفيهية قابلة للتداول، من دون وعي بتبعات ذلك على الذاكرة الوطنية، والصورة التاريخية، واحترام الرموز.
إن تداول قصة مختلقة من هذا النوع لا يُعدّ فقط تجاوزاً على الحقيقة، بل إساءة مكعبة: الأولى للرئيس الأسبق عبد الرحمن عارف، وهو شخصية لها مكانتها التاريخية مهما اختلفت التقييمات بشأنه، والثانية للفنان حاتم العراقي نفسه، الذي زُجّ باسمه في مشهد لا علاقة له به، واستُخدم كأداة للتهكم السياسي. والثالثة لعقلية المتلقي حيث يتم تسطيحها حد اعتبارها لا تدرك.
الخطير في هذه الممارسات أنها تحدث في بيئة رقمية مفتوحة، يتشكّل فيها وعي الأجيال الجديدة، التي قد تتلقّى هذه الروايات الزائفة بوصفها جزءاً من التاريخ. وبالتالي، فإن التعامل مع الذاكرة الوطنية بلا تدقيق، وبلا احترام لأبسط قواعد التوثيق، يُعدّ خطراً جسيماً على فهمنا لهويتنا ومساراتنا السياسية.
إن الذاكرة الوطنية ليست مسرحاً للتهريج، ولا حقلاً لتجارب السخرية الرخيصة. إنها مسؤولية ثقافية وأخلاقية تتطلب حسّاً عالياً بالصدق والدقّة.
وما نحتاجه اليوم ليس فقط تفنيد هكذا اشاعات، بل بناء ثقافة عامة تقوم على الصدق في الاستذكار، والمسؤولية قبل السخرية. فالسخرية السياسية الحقيقية، حين تكون نابعة من وعي نقدي، قادرة على كشف الزيف ومساءلة السلطة. أما السخرية التي تُوجَّه نحو التزييف وتحقير الوقائع، فلا تخدم سوى الدونية والسطحية.
ختاما، قد تبدو القصة بظاهرها مجرد طرفة بريئة، ولكنها في جوهرها مرآة تعكس عمق الأزمة الثقافية التي نعيشها في علاقتنا مع التاريخ، ومع الحقيقة، ومع أنفسنا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

662 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع