د.سعد العبيدي
شظايا وطن: امرأة في حضرة الظل
خلال استراحة قصيرة في كافتيريا الإذاعة والتلفزيون، تجلس سهى مع زملائها، فناجين الشاي على الطاولة، والحديث يتشعب بين الأغاني والفنانين. فجأة يتعالى من التلفزيون المعلّق على الجدار صوت فرقة اتحاد النساء: بأغنيتها الجديدة: غالي ريسنا غالي.
تضحك سهى بعفوية، تقول باللهجة البغدادية: "خلي يسعروه!"
تظنها نكتة عابرة. ضحكة تمرّ ثم تموت. لكنها لا تموت. ولا أحد يضحك معها.
في اليوم التالي، وبعد إكمالها العمل عند الساعة الثالثة عصرًا، تغادر الأستوديو إلى بيتها في حي الأمين، يترصّدها رجلان عند الباب. وجوههما جامدة كأنها خرجت من صخرة:
- تفضلي معنا الى المقر.
تتوسل بصوت مخنوق أن تودع طفليها عند جارتها حتى عودة أبيهما. تسير بهما إلى هناك، تغطي خوفها بابتسامة مرتجفة. في اللحظة التي ينغلق فيها الباب خلفهما، تشعر أن كل حياتها تُترك هناك، معلّقة عند عتبة بيت الجارة. ثم تُقاد إلى السيارة السوداء، وتنطلق بها صوب الكرخ.
يمرّ أسبوع في زنزانة انفرادية، أسبوع يكاد يفتك بها القلق. الجدران رمادية، الليل فيها نسخة عن النهار، ولا شيء سوى وقع أنفاسها الممتدة في الفراغ. ثم يدخل رجل بقميص متدلٍ فوق بنطلونه، يرمقها بعينين جامدتين، ويبدأ سلسلة أسئلته بسؤالٍ بارد: لماذا سخرتِ؟
تنكر، تحاول التبرير، لكن التسجيل يحسم أمرها: صوتها قاطع مثل السكين. تنهار. تبكي، ترتد كلماتها كصدى في بئر مظلم.
أحد عشر شهرًا تنقضي. الزمن يتعفن. تتحدث مع الحيطان، مع نفسها، مع الصمت، تتخيل الجدران كهوفًا تطبق عليها شيئًا فشيئًا، وفي يوم موعود، يفتح الزنزانة ذاك الشخص:
- الرئيس يريد رؤيتك بعد ساعتين.
يقدّم لها فستانها الذي كانت ترتديه ساعة القبض. تلمسه كأنها تلمس حياتها الضائعة. ساعتان تصيران دهراً من قلق الانتظار.
يُفتح الباب. تدخل بخطوات مرتجفة، قلبها يقرع صدرها كطبول حرب. للحظة تظنه صدام جالسًا في المقعد، فتبتلع ريقها وتجمع ما تبقى من قواها لتستحضر كلمات الاعتذار وطلب الغفران. وعندما يرفع رأسه إلى الضوء تدرك أنه برزان؛ الصدمة تربكها، تختلط صورة الأخ بالأخ والظل بالظل. عيناها لا تثبتان عليه: تراه مرةً ملاكًا يمد الغفران، ومرةً ذئبًا يتهيأ للانقضاض، فيرتطم قلبها كطائر يائس داخل قفص. يتحدث عن الولاء والخطوط الحمراء، وعفو الرئيس، ثم يمد إليها كأس عصير، فتمسكه بلهفة وتشرب كمن يعانق الحياة بعد عطش طويل. تشرب باندفاع، كأنها تبتلع حرمان أحد عشر شهرًا دفعة واحدة. يغمرها وهم قصير بالسلام. تخرج من بناية الجهاز. الهواء يصفعها كأنها وُلدت من جديد. تكرر لنفسها: نجوت… نجوت…
بعد ثلاثة أيام، ينهار جسدها فجأة. تُنقل إلى المستشفى. شعرها يبدأ بالتساقط، جسدها يتآكل من الداخل. الأطباء يعجزون عن التدخل، فالسم ماضٍ في عمله صامتا.
في سكرات الموت، تطلب رؤية ولديها. يدخلان مذعورَين. تمد ذراعيها الهزيلتين نحوهما، فتراهما بنصف بصرها، في ضوء غريب كأنه يخرج من عمق الزمن. وجه الصغيرين يتداخل مع صورتهما في طفولتهما الأولى، تسمع أصوات بكائهما، وضحكاتهما في حضنها، تختلط الأصوات بالصفير في أذنها. تشعر أنها تطفو بين عالمين: يداها تحتضنهما، لكنهما يبتعدان في ضباب أبيض. تنادي بصوت متهدج:
- لا تغادروني، ابقوا معي.
ينهمر الدمع من عينيها، وتضع قبلة مرتجفة على جبين كلٍّ منهما، ثم يتلاشى صوتها الأخير: سامحوني… أحبكم. ومن بعدها تسقط في صمت الموت، تاركة خلفها وجعًا بلا صوت، كأنها لم تكن.
***
908 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع