مسيرة العرب في ثلاثة أرباع القرن

نزار السامرائي

مسيرة العرب في ثلاثة أرباع القرن

دعا الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة العرب وإسرائيل في عام 1965، العودة إلى قرار الأمم المتحدة المرقم 181 بتاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947، والقاضي بتقسيم فلسطين، فاعتبرناه خائناً كبيراً لقضية العرب المركزية، وتمت مقاطعته من قبل النظام الرسمي العربي.
ثم وقع عدوان حزيران 1967، على مصر وسوريا والأردن، فتم احتلال سيناء بأكملها ووصلت القوات الإسرائيلية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، واحتلت الجولان السوري بأكمله، كما احتلت الضفة الغربية لنهر الأردن، وعُقِدَ مؤتمرُ اللاءات الثلاث للقمة العربية في الخرطوم والتي أقرت بالإجماع العربي، لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف، وأصدر مجلس الأمن الدولي قراره المرقم 242 في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، وبدأت الدعوات الرسمية العربية بإزالة آثار العدوان فقط، ونشطت الأمم المتحدة في التوسط لتنفيذ القرار المذكور، ولكن الوساطة راوحت بين تفسيرين اثنين لنص يتعلق بالانسحاب من الأراضي المحتلة، فالنص الإنكليزي لا يشير إلى الأراضي المحتلة بألف لام التعريف، في حين أن النص الفرنسي يثبتهما، وهكذا ضيّع العرب زمنا طويلا بين الألف واللام.
واستبشر العرب خيرا بعد حرب تشرين 1973، التي حقق فيها المصريون مباغتة كاملة ونجحوا في عبور قناة السويس ودمروا خط بارليف الحصين، أما في الجولان فقد حققت القوات السورية نصرا مؤقتاً سرعان ما انتزعته القوات الإسرائيلية في وقت لاحق.
وقلنا ها هو ميزان القوى قد اعتدل لصالح العرب، لكن هنري كيسنجر دخل على ميدان اللعبة، فاعتمد سياسة الخطوة خطوة، فاستقرت قوائم مائدة الحوار في الجبهات على مبدأ لا غالب ولا مغلوب، وخرجنا من الساحة منكسرين منكوسي الرؤوس، لأننا رأينا النصر بأعيننا لم نتمكن من الاحتفاظ به، على الرغم من أن دمشق كانت على وشك السقوط ووصلت طلائع قوات العدو على بعد 32 كيلومتر منها فقط، ولكن جحافل الجيش العراقي التي كانت تتحرك على سرفها من معسكراتها الخلفية الثابتة، إلى جبهة الشام، كانت طلائعها قد وصلت جبهات القتال لتوها وكان آخرها ما تزال تحزم امتعتها، وتتحرك على عجل لتنقذ عاصمة الأمويين من السقوط بيد العدو، وإن كانت قد سقطت لاحقا فعلا بيد من هو أسوأ منه. ولأن حرب تشرين 1973 قد أوقعت إسرائيل في مأزق كبير، فقد كان هنري كيسنجر في صالة الانتظار لبدء مشروع تطويع المنطقة لخطة بعيدة الأمد، بدأت بكامب ديفيد وما رافقها من تطبيع رسمي مصري مع إسرائيل، ولكن هذا التطبيع بقي محصورا خلفا جدران عالية من العزلة الشعبية، وهنا استذكر واقعة معبرة جدا، ففي يوم من الأيام ذهب السفير الإسرائيلي "أليسار" في القاهرة إلي طبيب أسنان مصري لمعالجة أسنانه، فاختار عن قصد نقيب أطباء الأسنان المصريين، الذي ظن أنه أحد مفاتيح المجتمع المصري للتطبيع، وبعد أن أجرى له الطبيب العلاج اللازم، وضع السفير المبلغ على صك "شيك" مصرفي وسأل الطبيب باسم من أضع الشيك، فقال له نقيب أطباء الأسنان المصريين، ضع عليه اسم "منظمة التحرير الفلسطينية" صعق السفير الإسرائيلي من جواب الطبيب، وغادر العيادة مسرعا لا يلوي على شيء، وواقع الأمر أن التطبيع المصري لم يخرج من مبني السفارة الإسرائيلية في القاهرة ومبنى وزارة الخارجية المصرية، بل تم حصره بقرار سيادي شعبي أو رسمي وهذا انعكاس لمستوى الوعي الشعبي المصري لطبيعة الصراع العربي الصهيوني، ولكن التطبيعات اللاحقة التي جرت في ساحات عربية وفي غرف مغلقة، كانت أخطر من كل ما شهدته الساحة العربية من تحركات مضرة بالحق العربي، فالزيارات على أعلى المستويات كانت تتم من دون تغطية صحفية من الدول المعنية، لأن الإعلام الفضائي لم يكن قد غزا المنطقة العربية بعد، وحتى لو كانت "الجزيرة وبناتها" أو "العربية وأخواتها" قد بدأتا البث، ربما ما كان بإمكان المواطن العربي أن يعرف شيئا مما يحصل من وراء ظهره.
ثم دار الزمان دورة كاملة، وشهد الثلث الأخير من القرن العشرين أحداثا زلزلت الشرق الأوسط برمته فكانت أقوى تسونامي تعرضت له الكرة الأرضية منذ طوفان نوح عليه السلام، إذ وصل خميني إلى الحكم في إيران، بطائرة فرنسية وبخطة أمريكية محكمة، وبدأ برفع شعار الموت لأمريكا أكثر من الموت لبقية الذين يريد لهم الموت، كي تكون أكثر اقناعا للأتباع والمؤيدين، فكان الخميني وكما قال محمد حسنين هيكل "اطلاقة مدفع أُطلقت من مجاهل القرون الوسطى لتستقر في القرن العشرين"، فوقع أول انقسام عمودي في المنطقة العربية وما جاورها، لأن النظام الإيراني الجديد رفع شعارات تداعب المخيلة العربية عن تحرير فلسطين والمسجد الأقصى الذي لا رصيد له في الثقافة الحوزوية الإيرانية، ومن استكمال فصول المسرحية، أغلق السلطات الإيرانية الجديدة، السفارة الإسرائيلية في طهران وسلمتها لمنظمة التحرير الفلسطينية في خطوة سيتم استثمارها زمنا طويلا، والمطلوب من العرب تسديد قروض هذا الدين الربوي الباهض التكاليف.
لكن النظام الجديد في طهران كان في واقع الحال، أكثر خطرا على العرب من المشروع الصهيوني الإجلائي الاستيطاني، هذا ما ينظر إليه كثير من المراقبين العرب وأنا أحدهم، بل لعلي أكثرهم إيمانا بهذا التشخيص، فنفض الغبار عن أحداث أراد الجميع طي صفحتها، فبدأ بحديث السقيفة وانتقل إلى فدك ثم الجمل وصفين، إذ وجدها أكثر الملفات قابلية للتوظيف، ومن هنا بدأت اصطفافات جديدة، فنجح في تجنيد مريدين وأدوات تعمل لصالحه، بحرص يفوق حرص الإيراني نفسه على تنفيذ ما يريد، ومع هذه الأجواء كانت شعارات العرب تتراجع وتنكفئ إلى داخل حدود الوطن العربي.
فبعد أن خرج العراق من معادلة الأمن القومي العربي بالاحتلال الأمريكي، وتم تسليمه نحلة كاملة ولقمة سائغة لإيران، بجلسات سمر مع وجبات عشاء أو غداء في البيت الأبيض، أو في القواعد الأمريكية في العراق، أو في صلوات خاشعة أمام مقابر الجنود الأمريكيين داخل الأراضي الأمريكية، من الذين "ضحوا من أجل تحرير العراق"!!!! أو من أجل فرض الديمقراطية المحمولة على أجنحة الطائرات القاذفة للقنابل أو صواريخ توما هوك، أو في قصور الحاكم الأمريكي المطلق للعراق بول بريمر، دخل الزمن العربي رحلة التيه التي قد تزيد على أربعين سنة بكثير وها هو ربع قرن يمضي على التجربة الديمقراطية التي جلبها الأمريكيون ولم نتبين لها لونا أو طعما أو رائحة. عندما كنا شبابا متحمسين، لعنّا بورقيبة ثم بدأنا بعد عقود عدة نسأل أنفسنا، هل كان بورقيبة أبعد منّا نظرا من؟ ثم لعنّا السادات الذي استرد سيناء بصفقة أقل خطرا من الصفقات السرية التي عقد في الخفاء ووراء جدران عالية، فتحولت دبلوماسية الصفقات إلى موضة الموسم والمواسم القادمة، والتي لا نعرف من أسرارها شيئا.
لا يهم من خطط لعملية 7 اكتوبر 2023، وفيما إذا جاءت بحماسة غير مدروسة أو في نطاقِ خطةٍ قال عنها خالد مشعل "نقاتل دفاعا عن الأمن القومي الإيراني"، نعم لا يهم ذلك، فما يعنينا هو النتائج، فالخطة جاءت بنتائجها الكارثية، وكأنها استجابة لخطة إزاحة القضية الفلسطينية من الوجدان العربي قبل ميادين السياسة والحرب، فمن خطط للعملية يعرف جيدا أن نتنياهو يعاني من أزمات داخلية ويبحث عن أية قضية ساخنة يصدّر فيها أزمته إلى الخارج، بعد أن يُلبس مشروعه طابعا يتعلق بمصير اسرائيل المهدد بأفدح الأخطار، وليس مستقبلها فقط، وهذا ما كان. نعم فرحت حماس بنتائج اليوم الأول، وظنت أن من تبنى شعار وحدة الساحات سيُلهُبُ الأرض تحت أقدام اليهود في كل مكان، فسقط قادة حماس واحدهم تلو الآخر شهداء، دفاعا عن قضية آمنوا بها ولكنهم لم يحسنوا إدارة دفتها، من أول يوم تمردت فيه حماس على القضية ففصلوا قطاع غزة عن الضفة فقدموا للعدو هدية ثمينة. ودخل ما يُسمى بحزب الله اللبناني على الخط فقاد معركة الإسناد في اليوم الثاني لطوفان الأقصى، فماذا كانت النتيجة، لقد سطا الحزب المذكور على سلطة الدولة اللبنانية وحل محلها في قرار الحرب والسلام، ونسي حسن نصر الله ما كان قد أعلنه بعد تجربة تموز 2006، من أنه لو كان يعرف أن هذا ما سيحصل، ما اختار مواجهة إسرائيل، فالغبي من يكرر أخطاء غيره، والأغبى من يكرر أخطاء نفسه، وتبخرت الصواريخ الـ100 ألف أو يزيد، وسط موجات القصف الإسرائيلي على مواقع الحزب الذي عجز عن حماية نفسه، فتحول إلى أن هدفه هو حماية السلاح، فأطلق بضع عشرات منها ولكنه لم يعرف أين سقطت إن كانت قد أطلقت أصلا أم أنها كانت تهديدات جوفاء أراد بها إخافة إسرائيل التي اخترقت جهازه الداخلي في أضيق حلقاته المقربة من أمينه العام، فاختارت في لحظة واحدة تحييد خمسة آلاف محارب منه بين قتيل وفاقد للبصر أو الذراع أو مشوه الوجه ليخرج من الساحة رافعا شعار الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين. من الذي أغرق غزة بالدم والدمار والأشلاء والركام، حتى أزيلت قرية آمنة كان يأتيها رزقها ر غدا من كل مكان، حتى احترفت مهنة العيش في الشوارع والطرقات انتظارا للحظة تهجير جديد، غزة التي يعاني شعبها من تهجير دائري بلا توقف، إخراج ونزوح من مكان ثم إجبار على العودة إليه ومغادرته مرة أخرى إلى المجهول، فخسر فلسطينيو غزة أكثر من ستين ألف شهيد وفقا لأرقام غير مؤكدة تحاول تخفيف حجم المصاب، أما غزة المدينة أو القطاع فحتى لو قلنا إنها مدينة أشباح، فإننا نرفق بمشاعر سكان يصرون على البقاء مع ركام تخاف منه الأشباح نفسها، بعد أن امتدت يد إسرائيل الطويلة، لتصل إلى إيران نفسها، وتضرب بقوة وكأن إيران أصيبت بدوار أنساها كل ما رفعته من شعارات في الماضي، فصارت القضية الفلسطينية نسيا منسيا، لأن إيران أمام خيارين أما أن تحافظ على نظامها الحالي بكل مؤسساته أو أن تكف عن رفع إعلانات تجارية ظنت أنها مصدر كسب لا تقدم خسارة فيها وإذا بها خسارات متعاقبة لا تريدها ولا تقوى عليها، وها هي غزة تصبح شعارا لمن يريد النجاة بجلده ويكرر القول "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون" وعادت غزة مجرد اسم يتردد في المحافل الإيرانية، أو مهرجانات الشعر الشعبي في العراق، أو الشعر العربي في المدن العربية من أقاصي المغرب العربي، إلى الخليج العربي، وكفى الله المؤمنين القتال.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

686 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك