علي غالب البصام
حدث في مثل هذا اليوم
اليوم الأول من شهر آب ١٩٩٠ استقللت آخر حافلة متوجهة من مدينة تورونتو الى مدينة مونتريال مستهدفاً الوصول في الصباح الباكر الى مونتريال لغرض شراء سيارة.
كان هناك لغط في البرلمان الكندي حول تمرير واعتماد قانون فرض ضريبة إضافية مقدارها ٧٪ على جميع المشتريات من سلع وخدمات ومقاطعة اونتاريو مررت القانون بينما مقاطعة كوبيك لم توافق عليه في ذلك التاريخ ووافقت عليه لاحقاً.
لأول مرة اشاهد على التلفاز مناقشات البرلمان الحامية بين نواب حزب المحافظين الحاكم وقتها ومعارضيه من الحزب الليبرالي وبقية الاحزاب حول تمرير هذا القانون اذ اني لم اعش في أجواء حكم تسودها المناقشات والمناكفات بين نواب الشعب من الأحزاب المختلفة تحت قبة البرلمان وسابقاً كنا نشاهد ذلك على شاشات التلفاز في عرض نشرات الاخبار ولم نولها أي اهتمام سابقاً لأنها لا تعنينا او بالأحرى لا نفهم كنهها لأننا نشأنا بعيداً عن هذه الأجواء الديمقراطية في بلداننا وأقول بلداننا واعني بها العراق بعده دولة الامارات التي كانت محطتي الأولى في رحلة الهجرة ليستقر بي المقام في كندا في شهر تموز من العام ١٩٩٠ وكانت حاجتي للسيارة من أولويات الأمور الضرورية في بلد مثل كندا لترامي الأطراف وقسوة الجو لتصبح السيارة من الضروريات لكن تشريع قانون الضريبة الجديدة جعلني افكر مرتين لتوفير بعض المال قبل الاقدام على خطوة الشراء وترتيب اموري كمهاجر جديد وكل شيء عليّ جديد ومنها الضريبة الجديدة المفروضة والتي لم اكن راضياً عن تقبلها في بداية الامر مما دفعني للذهاب الى مونتريال تلافياً لدفع تلك الضريبة وتوفيرها.
كان وصولي الى مونتريال مع سويعات الصباح الأولى لليوم الثاني من شهر آب ١٩٩٠ وما شد انتباهي كثرة صور الرئيس العراقي على جميع الصحف والمجلات والملاحق لكنها باللغة الفرنسية وكوبيك من المقاطعات الناطقة باللغة الفرنسية مما استعصى عليّ فهمها في البداية لكنني اوّلت معناها للأخبار المتواترة عن الاختلاف الحاد بين وجهات النظر في المفاوضات العراقية الكويتية بشأن الديون الكويتية للعراق وتعنت الجانب الكويتي وربطت تلك الخلافات الى اتخاذ موقف صلب من قبل الحكومة العراقية مما تصدر الاخبار على الصفحات الأولى للصحف الكندية ولم يخطر على بالي ما قام به بطل العالم (وهذا مصطلح كنا نتداوله بيننا لخشيتنا من ذكر الاسم الصريح لرئيس الجمهورية لما يترتب عليه لاحقاً من أمور لا تحمد عقباها) من اجتياح الكويت واحتلالها وضمها للعراق. لكن هذا ما حدث بعد لقاؤنا مع بعض الاخوة العراقيين الذين بينوا لنا ما حدث وتأسفت على هذا الوضع المأساوي الذي وضعنا به بطل العالم من دون ادراك لما قد يحدث بعد تلك الخطوة الهوجاء وقد حدث ما لم يحدث مثيلاً له في التاريخ والتفكير بمثل هذه الافكار أودى بحياة المغفور له الملك غازي ونوري باشا السعيد وعبد الكريم قاسم من قبله لانهم فكروا فقط في ضم الكويت للعراق ولم ينفذوا أفكارهم كما فعل بطل العالم لكن لا مناص من الإذعان للأفعال الصبيانية التي يمارسها من هو على سدة الحكم دون الالتفات لمطالب واحتياجات الشعب العراقي الذي كان خارجاً للتو من محرقة الحرب العراقية الإيرانية والتي انتهت بعد ثمان سنين أتت على الأخضر واليابس ليأتي دور هذه الخطوة الهوجاء وتخرج العراق من معادلة الدول ليصبح ومع شديد الأسف يصنف باللادولة.
كان قرار الهجرة الى كندا قد اتخذ اثناء الحرب العراقية الإيرانية والتي صنفت بحرب الخليج الأولى وتمت الموافقة على الهجرة من قبل الحكومة الكندية عام ١٩٨٨ وفي تلك السنة انتهت الحرب وبدأ العراق يستعيد عافيته بعض الشيء لكن افرازات ما بعد الحرب اخذت تطفو على السطح وبالدرجة الأولى تفكك المجتمع العراقي ولم يعد كسابق عهده وانتشار ظواهر لم تكن مألوفة في المجتمع مثل الرشوة التي شجعتها الحكومة بشكل مبطن واتباع سياسة غض الطرف لمجابهة مطالب الحياة حيال تدهور قيمة الدينار الى غير ذلك من الأسباب وكان العراقيون في دولة الامارات يحلمون الاحلام ويمنون النفس بالأماني العريضة بعودتهم للعراق وتأسيس الحياة المثالية كل حسب هواه وانا منهم. ذهبت لزيارة العراق في مناسبة عيد الأضحى عام ١٩٩٠ مستصحباً اطفالي وتبعتني زوجتي بعدها بأسبوع بعد حل إشكالات الكفالة الجامعية التي كانت تكبلها وعشنا أيام في غاية السعادة بين أهلنا واصدقائنا وزيارة الأماكن السياحية والدينية بصحبة الأطفال الذين لا يعرفون شيئاً عن العراق لكن كانت هناك غصة في النفس بدأت استشعارها من خلال تعاملي مع الناس وبعض الأصدقاء من تجار وموظفين توحي بعدم الاطمئنان لما يحمله المستقبل وخلصت الى نتيجة ان مشكلة التفاوض مع الكويت ستودي الى حرب ضروس لا يعلم ابعادها الا الله. كنت ابث هذا الحدس لأهلي وخلاني لدرجة انهم كانوا ينعتوني بالمبالغة في استصدار التنبؤات الخيالية وغير الواقعية وسبق لهم ان اطلقوا عليّ مثل هذه الاوصاف عندما قررت الاستقالة من عملي في الامارات حيث كنت وزوجتي في مواقع عمل جيدة ونحسد عليها وتواجدنا في بغداد في الخطوة التي تلت الاستقالة كان لوزن الأمور بالميزان الحكيم للبقاء في العراق او الهجرة الى كندا ذلك البلد البارد والمجهول لنا ولغيرنا بكل المقاييس وادراج المزايا والمثالب لعمل مقارنة للعيش في العراق وكندا وفازت كندا بعدد النقاط الكثيرة على العراق وكان تفضيل قرار الهجرة الى كندا النقطة الحاسمة التي رسمت مستقبلنا بكافة صعوباتها المرحلية.
كان يوم الثاني من آب ١٩٩٠ يوماً مشهوداً في حياتنا وحياة جميع العراقيين شئنا هذا ام ابينا بعده تلته حرب الخليج الثانية بقيادة بوش الاب وسنوات الحصار الجائر وحرب الخليج الثالثة بقيادة بوش الابن عام ٢٠٠٣ ليتم احتلال العراق وادخاله في دوامات ومتاهات وصراعات طائفية وإقليمية وتنازلات لدولة الكويت وتعويضات واهدار للمال العام واستباحة الأرض والمياه والسماء وبالمختصر لم تبق للعراق كرامة ولا قائمة فالكويت استولت على المنفذ المائي الوحيد للعراق مضافاً اليه آباراً للنفط ومساحة أراضي كتعويضات لليوم المشهود كذلك ايران استولت على شط العرب والشمال العراقي اصبح شبه منفصل عن العراق وذو سيادة منفصلة فله حكومته واعترافات الدول لتقيم علاقات دبلوماسية بمعزل عن الحكومة العراقية وتصدير نفطه الى غير ذلك من اشكال شبه الانفصال عن المركز إضافة الى انتهاك السيادة العراقية لتدخل تركيا جيشها في سهل نينوى بحجة محاربة المعارضين لها والمنطلقين من الأراضي العراقية واختراق السماء العراقية من قبل الطائرات الإسرائيلية وفي الأفق هناك مشاريع للشرق الأوسط الجديد وللعراق حصة لا يستهان بها وكل ذلك من المرويات والمسموعات ولم تتضح الرؤية بعد وأكرر بان ما وصلنا اليه اليوم من كوارث كان نتيجة حتمية لانقلاب ١٩٥٨ وما آلت اليه الأمور من سيئ الى أسوء والله يستر من الجايات.
حمى الله العراق وشعب العراق وكفانا ما لا طاقة لنا فيه.
731 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع