هيفاء زنكنة
من بين عشرات التفجيرات الارهابية في العراق، وهي يومية، يبقى اشدها قسوة وبشاعة تلك التي تستهدف الاطفال. صباح يوم الاحد الماضي (5 اكتوبر)، أدى تفجير سيارة في مدرسة ابتدائية، تقع في قرية قبك، بمدينة تلعفر، شمال غرب العراق، الى قتل 20 طفلا وعدد من الكادر الدراسي والارقام النهائية غير مثبتة.
فمن هم القتلة؟ لمصلحة من يقتل الاطفال؟ هل هم كما يقال لنا ضحايا الاقتتال الطائفي بين العراقيين انفسهم، كما يقال لنا منذ ايام الاحتلال الاولى، أثر كل جريمة يرتكبها الغزاة الامريكيون ويحاولون التستر عليها بدعوى التقاتل السني الشيعي؟ من الذي يسلب العراقيين ارواحهم، حياتهم، ومستقبلهم؟ من المسؤول عن مقتل حوالي 6 آلاف شخص منذ كانون الثاني/ يناير الماضي؟
وتتواصل الاسئلة: هل هناك تحقيق مستقل في جرائم الارهاب هذه؟ هل هي الطائفية حقا ام ان جهات اخرى، بضمنها ‘شركاء العملية السياسية’، تستخدم دماء النساء والاطفال لتجذير وجودهم الذي بلا جذور؟
لنتفحص هنا تغطية الجهات الرسمية واجهزة الاعلام العربية والغربية، فضلا عن المنظمات الدولية، لما يحدث. نحن مضطرون للجوء الى هذه الطريقة، بحثا عن الحقيقة، لعدة اسباب: اولا في غياب قيام النظام باي تحقيق رسمي في التفجيرات الارهابية وما ينتج عنها من سقوط ضحايا. ثانيا: عدم وجود اي تحقيق مستقل من اية جهة كانت. ثالثا: من يظهره النظام على شاشات التلفاز معترفا بكل الجرائم الارهابية على وجه الارض، لايصدقه احد، لان الكل يعرفون ان الاعترافات مستخلصة تحت التعذيب والتهديد والابتزاز. رابعا: عدم وجود جهة تعلن عن مسؤوليتها عن التفجيرات. خامسا: كيف يعيش العراق معدل عشرات التفجيرات الكبيرة، يوميا، وثلث الميزانية تقريبا تصرف على اجهزة الامن والشرطة والجيش ونقاط التفتيش المنتشرة على وجوه المدن كالبثور على وجه مراهق؟
يتبين من رصد كل ما نشر في اجهزة الاعلام، بانواعها، انها تستند الى مصدر واحد، أوحد، وهو المتحدث الأمني الرسمي . ولنأخذ كيفية نقل خبر تفجير المدرسة الابتدائية نموذجا. اذ نقلت قناة البي بي سي العربية الخبر استناد الى ‘أفادت السلطات المحلية’ ثم ولنقل التفاصيل اليسيرة، وهي ذاتها التي توردها كافة اجهزة الاعلام الاخرى، تقول: ‘وأوضح قائمقام قضاء تلعفر لوكالة فرانس برس للأنباء أن انتحاريين يقودان سيارتين مفخختين فجرا نفسيهما بفارق زمني ضئيل ضد مركز للشرطة ومدرسة ابتدائية بجواره في قرية قبت’. مع العلم ان القرية تدعى ‘قبك’ وليس قبت.
قامت وكالة الانباء الكويتية (كونا) بنشر الخبر نقلا عن ‘مصدر امني’ أيضا. أما صحيفة ‘القبس′، الكويتية، فقد كان مصدرها ‘قائمقام قضاء تلعفر’. وقامت صحيفة ‘السفير’، اللبنانية، بتركيب الخبر من عدة وكالات هي (أ ف ب، رويترز، أ ب، أ ش أ) لتذكره نقلا عن ‘ قائمقام تلعفر عبد العال عباس′، ذاته . ولم تقدم صحيفة ‘الزمان’، العراقية، اي معلومات مختلفة على الرغم من ان تقريرها، خلافا لبقية الصحف والوكالات، يحمل اسم احد الصحافيين الذي قام بتجميع اخبار الوكالات وتقديمها نقلا عن ‘قائمقام تلعفر’ لاغير.
خلاصة ما أود قوله، هو ان اجهزة الاعلام كلها تعتمد، فيما يخص التفجيرات الارهابية المستمرة، والامثلة أكثر مما يتسع لها الحيز، على مصدر واحد هو أحد المسؤولين في جهاز أمن النظام العراقي، بلا تحقيق او تمحيص. اذ لا يوجد لدينا، في كل البلاد العربية، مايسمى بالصحافة الاستقصائية او التحقيقات الصحفية القائمة على البحث. ما نراه ونقرأه هو التكرار الببغائي من وكالة الى اخرى، وغالبا عبر ترجمة الاخبار من مصادر اجنبية. ولنتذكر كيف نشرت صحيفة ‘ المدى’، العراقية المعروفة، مقالات مترجمة، كتبها خبراء في جهاز العمليات النفسية العسكرية، لقاء 30 دولارا لكل مقالة، حول تحسن الاوضاع الامنية وتوجيه الاتهام عن ‘الارهاب’ لمن تريد اتهامه.
من ضمن المغالطات او التضليل المستور، الذي اصبحنا محاطين به، هو تعريف المناطق المستهدفة بالتفجيرات وفق خارطة طائفية وعرقية (شيعة، سنة، اكراد، تركمان .. ). وهو انجاز اجتهد النظام، بتخطيط المحتل الانجلو امريكي، على تكريسه. فوكالة كونا تصف قضاء تلعفر بانه ‘ذو الغالبية التركمانية’. وتتفضل صحيفة القبس بتوصيف قرية قبك بانها ‘للتركمان الشيعة’، وقالت الزمان بانها ذات ‘غالبية من التركمان الشيعة’. مما يعني ضمنيا، وفق الصورة النمطية، ان من قام بالهجوم هو سني بالضرورة، على الرغم من ان المنطقة مأهولة عبر تاريخها، مثل بقية المدن العراقية، بكل التنوع الديني والقومي الذي نفتخر به ونحمله عميقا في نفوسنا عبر تكويننا العائلي والمجتمعي.
وتتكرس الصورة اكثر حين تقول ‘القبس′ ان التفجيرات ‘تحمل طابعا طائفيا بين السنة والشيعة، في بلاد عاشت نزاعا داميا بين الجانبين قتل فيه الالاف بين عامي 2006 و2008′. وبينما لا تورط ‘السفير’ نفسها بالاشارة الصريحة الى السنة والشيعة، ترى ان التفجيرات طائفية حتما، قائلة: ‘في اتجاه إعادة العنف الطائفي إلى نقطة الصفر. وفي حلقة جديدة من مسلسل العنف الطائفي المتنقل’. ولايجد مراسل ‘الزمان’ غضاضة في نقل ماجاء في ‘القبس′ نقلا عن وكالات، مكررا: ‘تشكل هذه الهجمات امتدادا لمسلسل العنف الطائفي المتصاعد في بلاد عاشت بين عامي 2006 و2008 نزاعا طائفيا داميا بين الجانبين قتل فيه الالاف’ . اما كان الاجدر به، وهو الصحافي، ابن البلد، ان يبذل بعض الجهد في تفكيك الصورة النمطية؟ ألا توثق المنظمات الدولية ومراكز الابحاث لمسؤولية قوات الاحتلال والقصف الجوي وعمليات المرتزقة والفرق القذرة في سقوط الضحايا من المدنيين؟
خلاصة ما يمكن فهمه من اجهزة الاعلام، اذن، هو صورة مختزلة، مفادها ان هناك عودة الى الاقتتال الطائفي بين السنة والشيعة وكما كان عليه الحال بين عامي 2006 و2008 . متعامية في نقلها للاخبار وتحليلاتها عن حقائق تكاد تفقأ العيون او حتى عن طرح بعض التساؤلات التي تدفع المتلقي الى التفكير الايجابي.
ولننظر الى توجيه المسؤولية، عن التفجيرات الارهابية، من زوايا اخرى. يقول جو ستورك، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في منظمة هيومان رايتس ووتش الدولية، اثر اصدار المنظمة آخر تقريرها الاخير عن التفجيرات، في 11 آب/ اغسطس، 2013، بعنوان ‘العراق – هجمات ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية’: ‘في ظل الأجواء الحالية، يرتكب جميع الأطراف جماعات التمرد السنية والميليشيات الشيعية وقوات الأمن الحكومية – اعتداءات ويستخدم كل منهم عنف الآخرين مبررا لانخراطه في العنف. وبدلا من الرد بمزيد من الوحشية واللجوء إلى التعذيب الاعترافات القسرية والاعتقالات الجماعية والمحاكمات الجائرة، تحتاج الحكومة إلى أن تأخذ زمام المبادرة لإنهاء تلك الدوامة الوحشية’.
يحمل التقرير قوات الامن الحكومية جزءا من مسؤولية ارتكاب التفجيرات كما يحمل النظام مسؤولية الفشل في حماية المواطنين واحترام حقوقهم، بالاضافة الى ‘جماعات التمرد السنية’ و’جماعات مسلحة أخرى، بما في ذلك الميليشيات الشيعية… ولم تعلن لا عصائب أهل الحق ولا حزب الله العراقية ولا أي ميليشيا شيعية أخرى، مسؤوليتها عن الهجمات، ولكن المنشورات التهديدية التي طالعتها هيومن رايتس ووتش، تحمل بوضوح شعار عصائب أهل الحق، وأعلنت ميليشيا شيعية ثالثة، تدعى جيش المختارمسؤوليتها عن العديد من الهجمات الأخيرة’.
غير ان ما يتجاهله التقرير هو الدور الامريكي، الى جانب الايراني، في زعزعة الامن من خلال قوات المرتزقة وجهاز الاستخبارات ومستخدمي الشركات الأمنية فضلا عن الفرقة القذرة المسؤولة عن الاغتيالات كما حدث في السلفادور في فترة الثمانينات. وهذا ما يؤكده الشيخ جواد الخالصي، من المدرسة الخالصية، ببغداد، في مقابلة تلفزيونية مع استديو التاسعة، بقناة البغدادية، قائلا: اان الذي يقوم بالتفجيرات هم أناس داخل الدولة وداخل العملية السياسية، ولأكون أكثر وضوحاً اقول ان حمايات بعض الشخصيات هم الذين يأتون بالمفخخات الى العراق وهذه الشخصيات منها عربية ومنها كردية، كما أن هناك في الفرق العسكرية اناس يرتبطون بالمشروع الصهيوني وبشركات الامن الخاصب. ويستطرد الخالصي قائلا: اان بعض الايرانيين تعاونوا مع أناس في المؤسسة السياسية العراقية في ظل قرار التعامل الطائفي الغبي المتخذ هناك، فهؤلاء يعينون على التفجيرات ولا يبالون ان يكون المقتول سنياً ام شيعياً … ان المسؤولية تقع على عاتق كل من شارك في العملية السياسية وظن ان الاحتلال الاميركي جاء محرراً للعراق ومنقذاً له، وكذلك هنالك مسؤولية على عاتق رئيس الوزراء وعلى عاتق البرلمانب.
ان انتقائية النظر الى التفجيرات الارهابية وتقديمها بشكل نمطي جاهز استهانة بحياة الناس وقتل منهجي متعمد للعقول. وهو الذي يجعل الظلام الحالك مهيمنا. وهو ما يقتل اطفالنا ان لم نسرع بتغيير نظام يتغذى على الدماء باسم الطائفية. فمن أعلى مئذنة في قرية قبك، وكل قرى والمدن، لم يعد يسمع صوت التكبير والأذان بل صوت الاطفال وهم يحتضرون، لتختلط اصواتهم باصوات الامهات النائحات في عزاء سيمتد بقية حياتهن.
1495 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع