الطفولة ليست وسيلة لصيد المشاهدات

بقلم: د. نزار گزالي – دكتوراه في علم النفس – أربيل

الطفولة ليست وسيلة لصيد المشاهدات

أثارت مقابلة تلفزيونية مع إحدى الأمهات على شاشة قناة عراقية ضجة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، واستفزت مشاعر كثيرين ممن شاهدوا المقطع. في المقابلة، ترفض الأم ظهور ابنتها أمام الكاميرا، وتبرر ذلك بعبارة صادمة تقول فيها: “ابنتي جلحة لا تشبهني!”، في تعبير يوحي بالتحقير لا بالوصف.

الأكثر غرابة أن المذيعة، بدلاً من التدخل المهني أو وقف هذا الانحدار اللفظي، تضيف تعليقًا عنصريًا حين تقول: “لا، هي تشبه الهنود!”، لتُكمل بذلك مشهدًا إعلاميًا مختلاً يجمع بين الإساءة الأبوية والانتهاك المهني، وبين التنمر العنصري والاستغلال النفسي.

ورغم أن كثيرًا من التعليقات التي تفاعلت مع الفيديو عبّرت عن تعاطفها مع الطفلة، وأكدت على جمال ملامحها وبراءتها، بل ذهبت إلى حد التنبؤ بأنها “قد تصبح ملكة جمال في المستقبل”، إلا أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في الألفاظ التي قيلت، بل في الأثر النفسي العميق الذي يمكن أن تتركه تلك اللحظة في تكوين شخصية هذه الطفلة.

التحقير العلني وأثره النفسي العميق

من منظور علم النفس التنموي، فإن تحقير الطفل من قِبل أحد والديه، خصوصًا أمام الآخرين أو في وسائل الإعلام، يُعد من أخطر أشكال الأذى النفسي. هذه الإهانة لا تمر مرور الكرام، بل تُخلّف ندبة داخلية تستمر في تشكيل صورة الطفل عن نفسه لسنوات طويلة. وقد تتجلى آثارها في سلوكيات مثل الخجل المفرط، ضعف الثقة بالنفس، الانطواء، أو اضطرابات في التعبير عن الذات والعواطف.

والفيديو الأخير مثال واضح على هذا الانتهاك؛ إذ تسبب في تشويه العلاقة بين الطفلة ووالدتها، حيث جرت شيطنة الأم بشكل واسع على منصات التواصل. ولكن الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك؛ فالأم، التي يبدو أنها على قدر محدود من الوعي، وقعت في فخ الإعلام مرتين: أولًا، حين مارست عنفًا لفظيًا تجاه ابنتها أمام الكاميرا، وثانيًا، عندما استعانت بها لاحقًا لتبرير سلوكها، ما عمّق الخلل في علاقة عاطفية يُفترض أن تكون قائمة على الأمان والدعم غير المشروط.

حين يسقط الإعلام في فخ الانتهاك المضاعف

ما حدث لا يُعد مجرد تجاوز إعلامي، بل خرقًا صريحًا لأخلاقيات المهنة الصحفية. فالمؤسسات الإعلامية الرصينة تدرك تمامًا أن إشراك الأطفال في التغطيات الإعلامية يتطلب موافقة واعية من أصحاب الشأن، وهو أمر لا ينطبق على القُصّر. بل حتى موافقة الوالدين – إن وُجدت – لا تبرر تعريض الطفل للإهانة أو الاستغلال.

إن تصوير الطفلة، ثم نشر المادة دون مراجعة كافية لمحتواها، ومن ثم إثارة الرأي العام حولها، لا يدخل ضمن إطار “نقل الحقيقة”، بل يُعدّ نوعًا من الوصم الاجتماعي، بل وقد يصل إلى حد وصمة العار، خصوصًا إذا أُعيد تداوله مستقبلاً حين تكبر الطفلة وتُدرك ما قيل عنها وما تم بثّه دون حماية.

من المسؤول؟

صحيح أن سلوك الأم كان جارحًا وصادمًا، لكنها ليست الوحيدة المسؤولة. فالجهة الإعلامية التي سجّلت وبثّت وروّجت لهذا الفيديو تتحمل قسطًا كبيرًا من المسؤولية، لأنها تخلّت عن دورها التوعوي، وساهمت في إيذاء نفسي لطفلة لم تكن تملك حتى القدرة على فهم ما يجري.

خاتمة

الطفولة ليست مشهدًا عابرًا في برامج الإثارة، ولا مادة أولية لإرضاء شهوة “الترند”. هي مرحلة تكوينية تحتاج إلى احترام، حماية، وتعزيز. وإن ما حدث في هذه الحالة المؤلمة يستدعي وقفة حقيقية من المؤسسات الإعلامية، والمجتمع، والجهات الرقابية، لحماية الأطفال من أن يصبحوا ضحايا في مسرح يُفترض أن يكون للوعي، لا للإهانة.

ويجب ألّا يُمرّ ما حدث مرور الكرام؛ بل ينبغي فتح تحقيق مهني ومجتمعي جاد، يُفضي إلى محاسبة القناة والمذيعة، وردع كل من يرى في الطفولة مادة جاهزة للاستهلاك الإعلامي، دون وازع إنساني أو مسؤولية أخلاقية

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

762 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع