أغنية (القلب يعشق كل جميل) وحكايتها - الجزء الأول


الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

أغنية (القلب يعشق كل جميل) وحكايتها- الجزء الأول

أغنية (القلب يعشق كل جميل) أغنية دينية ذات طابع خاص ومميز يختلف عن باقي أغاني أم كلثوم، وكان في هذه الأغنية آخر ظهور لأم كلثوم على الإطلاق على خشبة المسرح عام 1971.

ففي شهر تشرين الثاني من ذلك العام الحاسم كانت كوكب الشرق السيّدة أمّ كلثوم ضيفة على إمارة أبوظبي، لمناسبة احتفالات عيد جلوس الشيخ زايد، وقدّمت حفلتين خصصت عائداتهما للمجهود الحربي المصري، وقد غنّت فيهما أعمالها الشهيرة: (أغداً ألقاك) و(ودارت الأيام) و(القلب يعشق كلّ جميل). وحسب الصحافة الإماراتية فقد قام الجمهور بمقاطعة أمّ كلثوم مرّات عديدة بالتصفيق الحارّ.

لقد استقبل الشيخ زايد أمّ كلثوم في قصر المنهل لمدّة ساعتين، وأقامت (الشيخة فاطمة بنت مبارك) مأدبة عشاء تكريماً لكوكب الشرق. وحسب الأرشيف الصحافي الإماراتي، حضرت الحفل مجموعة كبيرة من سيّدات أبوظبي والدول الشقيقة.

لقد كانت أول أغنية جمعت محمود بيرم التونسي وأم كلثوم أغنية (يا سلام على عيدنا) وذلك سنة 1941، أعقبتها ثلاثة وثلاثون أغنية ضمّت العديد من الروائع الخالدة منها: أنا في انتظارك، حبيبي يسعد أوقاته، الأوله في الغرام، غنيلي شوي شوي، الأمل، ظلموني الناس، حلم، الورد جميل، يا صباح الخير ياللي معانا، شمس الأصيل، الحب كده، هو صحيح الهوى غلاب. وكانت آخر أغنية جمعت محمود بيرم التونسي وأم كلثوم أغنية (القلب يعشق كل جميل) سنة 1971، وذلك بعد وفاة محمود بيرم التونسي بعشر سنين.

 

محمود بيرم التونسي (1893-1961):
محمود بيرم التونسي، المُلقب (شاعر الشعب) و (هرم الزجل)، شاعر مصري ذو أصول تونسية، وهو من أشهر شعراء العامية المصرية وأكثرهم إثارة. وقد تم تكريمه في سنة 1960 بجائزة الدولة التقديرية التي منحه إياها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقد توفي بمرض الربو سنة 1961.

ولد محمود بيرم التونسي لعائلة تونسية كانت تعيش في مدينة الإسكندرية. هجر التعليم في سن مبكر وانكب على القراءة، وخاصة الشِّعر، الذي شرع في كتابته بالعامية.

في بداية حياته اشتهر بيرم التونسي بقصيدته (بائع الفجل) أو (المجلس البلدي)، وفي سنة 1919 أصدر مجلة (المسلّة) التي تمت مصادرتها، فأصدر مجلة (الخازوق).

أسس الموسيقار زكريا أحمد شلة "أهل الهوى"، وانضم لها سيد درويش وبيرم التونسي، وكان شرط الانضمام لها أن يكون الفنان عاشقا لوطنه وفنه، لينطلق بيرم بعدها في مسيرة حافلة بشعر العامية، بأشعاره البسيطة التي تصل لرجل الشارع وإلى الحاكم على السواء.

لقد كانت قصيدة (المجلس البلدي) أو (بائع الفجل) أولى القصائد التي ذاع من خلالها صيت بيرم التونسي، وفيها وجه انتقادات حادة للمجلس البلدي لفرضه ضرائب كبيرة على السكان، ومما قاله فيها:

قد أوقع القلب في الأشجان والكمدِ ... هوى حبيبٍ يُسمّى المجلس البلدي
ما شردّ النوم عن جفني القريح سوى ... طيف الخيال خيال المجلس البلدي
إذا الرغيف أتى فالنصف آكله ... والنصف أتركه للمجلس البلدي
وما سكوت عيالي في الشتاء ولا ... في الصيف إِلَّا سكوت المجلس البلدي
ولَم أذق طعم قِدْرٍ كنت طابخها ... إِلَّا إذا ذاق قبلي المجلس البلدي
أمشي وأحبس أنفاسي مخافة أن ... يعدّها عامل للمجلس البلدي
يا بائع الفجل بالملِّيم واحدة ... كم للعيال وكم للمجلس البلدي
كأنَّ أمِّي بَلَّ الله تربتها ... أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواج فإن يوم الزفاف أتى ... يبغي عروسي صديقي المجلس البلدي
أو ربَّما وهب الرحمن لي ولداً ... في بطنها يدعِّيه المجلس البلدي

لقد عشق بيرم التونسي الصحافة، فأصدر صحيفة (المسلة)، وكان يملأ صفحاتها المتنوعة بنفسه، يطبعها ويوزعها على حسابه الشخصي، واصطدم مع الرقابة التي حاولت أن توقف صحيفته، وكانت حيلته أن يكتب على رأس الصفحة الأولى "المسلة.. لا صحيفة ولا مجلة"، وطلب ساخرا من الحكمدار أن يأذن له بالإتجار في الحشيش، لأنهم يمنعون حرية الصحافة وقد يسمحون بالحشيش!!

وكتب بيرم لسيد درويش عددا من الأغاني ذات الطابع السياسي التي حوت انتقادات للأسرة المالكة.

بيرم التونسي والعائلة المالكة في مصر:
تعددت أوجه الصدام بين بيرم التونسي والملك فؤاد ومن بعده الملك فاروق؛ مما أدى إلى نفيه وتشريده خارج مصر لمدة ١٨ عامًا. فحين جلس فؤاد على العرش بعد وفاة السلطان حسين كامل ظل محملًا لقب السلطان حتى صدر تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ الذى أعلن تحويل مصر إلى ملكية، فأصبح اسمه (الملك فؤاد)، وذلك بعد قيام ثورة ١٩١٩، واعترف التصريح بإلغاء الأحكام العرفية.

لكن هذا التصريح لم ينه التدخلات البريطانية في مصر؛ حتى أن سعد زغلول وصف تصريح فبراير بأنه نكبة وطنية كبرى.

هنا نظم بيرم التونسي مجموعة قصائد في مدح سعد زغلول ونقد الامتيازات الأجنبية، منها قصيدة (مجرم ودون) كتبها بيرم ضد السلطان فؤاد لتسلميه مصر بالتوقيع على تصريح ٢٨ فبراير، ومما قاله فيها:

ولما عدمنا بمصر الملوك ... جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك
تمثل على العرش دور الملوك ... وفين يلقوا مجرم زيك ودون
ما نابك إلا عرش يا تيس التيوس ... لا مصر استقلت ولا يحزنون

ثم انتشرت أقاويل طالت ابنه الملك فؤاد من زوجة الأولى شويكار؛ واستهتارها في علاقاتها وتعيين عشيقها محافظًا للقاهرة، فنظم بيرم قصيدة (البنت ماشية)، ومما قاله فيها:

البنت ماشية من زمان تتمخطر ... والعقلة زارعة في الديوان قرع أخضر
تشوف حبيبها في الجاكتة الكاكن ... والستة خيل والقمشجى الملاكي
يا راكب الفيتون وقلبك جامي ... حود على القبة وسوق قدامي
تلقى العروسة مثل محمل شامي ... وأبوها يشبه في الشوارب عنتر
ولما جه الأمر الكريم بالدخلة ... قلنا اسكتوا خلوا البنات تتستر
نهاية يمكن ربنا يوفقكم ... مادام حفيظة الماشطة بتزوقكم

ومع اندلاع ثورة عام 1919 كان بيرم من أشد المؤيدين لها، ولم يلبث بيرم التونسي أن يكتب زجلاً آخر أكثر جرأة بعد أن أُعلن عن مولد فاروق في 11 فبراير سنة 1920، ولم يكن قد مضى على زواج والده الملك فؤاد الأول (1868-1936) بزوجته الثانية الملكة نازلي بعد طلاقه لزوجته الأولى الأميرة شويكار. وقد أشيع أن الحمل في فاروق حدث قبل عقد القران، فكان الزجل الذي كتبه بيرم بعنوان (الباميا الملوكي والقرع السلطاني):

الباميا في البستان تهز القرون ... وجنبها القرع الملوكي اللطيف
والديدبان داير يلم الزبون ... صهين وقدم وامتثل يا خفيف
نزل يلعلط تحت برج القمر ... ربك يبارك لك في عمر الغلام
يا خسارة بس الشهر كان مش تمام
والناس قرون كنا نقول مأمأ ... ونأكل البرسيم بالقفة
سلطان بلدنا مرته جابت ... ولد وقال سموه فاروق
فاروق فارقنا بلا نيلة ... دي مصر مش عايز الها رذيلة

تسببت قصيدة (البامية الملوكي والقرع السلطاني) في غضب الملك فؤاد عليه، وأصدر قرارا بإبعاده من مصر، ونفيه إلى تونس بتوصية من زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد حيث هاجمه في مقال تحت عنوان (لعنة الله على المحافظ) حيث كان آنذاك محافظًا للقاهرة.

وعندما وصل بيرم إلى تونس بحث عن أهل أبيه، ولكنهم طردوه ولم يساعدوه، وكانت الإدارة التونسية تضعه تحت المراقبة منذ وصوله، باعتباره مشاغبًا وباعث ثورات، فقرر الرحيل من تونس وسافر بيرم إلى فرنسا.

عانى بيرم الكثير في فرنسا من جوع وحرمان وعمل في أحد مصانع الحديد والصلب لقاء أجور لا تسد رمقه، ولم ينقذه من الموت جوعًا سوى عثوره على وظيفة في شركة المنتجات الكيماوية العالمية.

لم يستطيع بيرم مواصلة تلك الحياة القاسية، ولم يتصور الابتعاد عن زوجته وأولاده لأكثر من عام ونصف؛ وشعر بحنين إلى مصر، وإلى أولاد البلد الذين أعطوه الإلهام، وبدأ في البحث عن طريقة تساعده في العودة إلى مصر، فلجأ إلى اختصار اسمه في جواز السفر الجديد الذي كان يحمل ختم القنصلية البريطانية، واستطاع بهذا الجواز أن يصعد إلى السفينة، وينزل في ميناء بورسعيد، وذلك في يوم 27 مارس عام 1922، واتجه إلى الإسكندرية، وتحديدا حي الأنفوشي، متخيلًا اللحظة التي سيلتقي فيها بزوجته، ويأخذ بين يديه مولودهما الذي لم يتعرف على ملامحه بعد، فقد ترك زوجته وهي حامل، وما إن وصل إلى حي الأنفوشي حتى علم أن زوجته وضعت طفلة اسمها (عايدة)، وأنها طلبت الطلاق في فترة غيابه، وحصلت عليه بعد أن أثبتت أن زوجها مغضوب عليه، وليس هناك أي أمل في عودته للبلاد.

استمر وجود بيرم في مصر لمدة 14 شهرًا، وتم اكتشاف أمر دخوله مصر متسللًا، وتم القبض عليه ونفيه إلى فرنسا، فكتب معبرا عن معاناته:

الأوله آه والثانية آه والثالثة آه
الأوله مصر قالوا تونسي ونفوني جزاة الخير وإحساني
والثانية تونس وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صفاني
والثالثة فرنسا وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زماني

في العام 1938، تسلل بيرم إلى مصر عبر ميناء بورسعيد، واختبأ عن الأنظار حتى توسط له مدير دار الأوبرا الملكية الفنان سليمان بك نجيب، وخاطب الملك فاروق ليطلب العفو عنه، فوافق الملك.

وبعد أن جاء العفو، انفتحت أبواب الفنانين على أشعار بيرم، والتقى بالسيدة أم كلثوم، وقدما معا أجمل أغانيها في الأربعينيات والخمسينيات، وشكّل اللقاء الفني بينهما أحد مراحل الازدهار لكليهما وأثمر عن 33 أغنية من أشهر الأغنيات التي شدت بها أم كلثوم وحققت نجاحاً ساحقاً، وكانت خاتمتها "القلب يعشق كل جميل" عام 1971 والتي وصف فيها محمود بيرم التونسي رحلته لزيارة مكة المكرمة وأداء شعائر الحج، وقد أنشدها أم كلثوم بعد وفاته بعشر سنين.


https://www.youtube.com/watch?v=DJ1RYHX074U&t=6s

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.. وكل عام وأنتم بخير.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1158 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع