حسن العلوي
في بداية خمسينات القرن الماضي كان العراق يستقبل احتجاجات المنطقة الواردة اليه ، فتندمج بالاحتجاج الوطني المحلي ويصبح الاحتجاجان واحدا والمسعيان واحدا في الذهن الشعبي وفي تصورات الحركة الوطنية ، ويبدو قائد عسكري فيتنامي مثل /جياب/ الذي توفي هذا الاسبوع وكأنه قائد عراقي يزحف نحو قاعدتي الشعيبة والحبانية البريطانيتين ليحيلهما ترابا".
كان المتخيل الذي عشناه في يفاعتنا السياسية يحمل باعتزاز رؤية زعيم إيراني مثل الدكتور محمد مصدق رئيس الوزراء وصاحب أول قرارات تأميم النفط ، وكأنه زعيمنا في الحركة الوطنية العراقية واقفا وسط جموعنا ليعلن تأميم شركة نفط العراق آي بي سي ، فإذا ضُرب مصدق بانقلاب عسكري نفذه الجنرال زاهدي لصالح الشاه وانتهى بإسقاط حكومة مصدق وإعدم وزير خارجيته حسين فاطمي ، أعلنت مراكز الحركة الوطنية في بغداد الحداد حزناً على نكسة الحركة الوطنية الإيرانية ، ويمتد الحداد ليصل مقهى الطرف في محلتنا فيطفئ صاحبها الراديو الوحيد حزنا على إعدام نواب صفوي زعيم منظمة (فدائيان إسلام) المتخصصة بالاغتيال السياسي ، وتنشر صحف الحركة الوطنية أخبار زميلتها الإيرانية وكأنها وفيات حدثت في الزعامات الأولى للعراق ".
وتابع العلوي :" عشنا مرحلة تداخل الوعي المحلي العراقي بالإقليمي والدولي ، فنتابع انتصارات فيتنام على القوات الفرنسية وبعدها على الأمريكية التي ينقلها بحياد راديو لندن ، فيما كانت إذاعة بغداد تركز على انتصارات الفرنسيين والأمريكان في تلك الحرب ".
كان لابد لحوامل رأس المال وحاملات الطائرات وخزانة العقول الستراتيجية في المعسكر الغربي المتقدم ان تقدم اكثر من مشروع لمواجهة الحركات الوطنية في المنطقة ، كان واحدا منها مشروع لتشكيل جبهة دينية من المسلمين وفرقهم والمسيحيين وطوائفهم يشرف عليها مكتب الاستعلامات الأمريكي في بيروت ، والدعوة لعقد مؤتمر في مدينة بحمدون اللبنانية تحت مسوغ تشكيل منظومة جديدة لحماية المثل الإنسانية التي تصدعت ، واعتبار الاتحاد السوفيتي وعقيدته الماركسية والإحزاب الشيوعية في المنطقة مسؤولة عن هذا التردي في المنظومة الأخلاقية ، وسيكون على ممثلي الاديان والمذاهب في مؤتمر بحمدون العمل على مواجهة خطر الإلحاد القادم من المعسكر الشرقي ".
في هذا التاريخ بدأ الناشط الديني يتحرك صنواً للناشط الغربي ضد الحركة الوطنية ، وقد يكون هذا بسبب ان هذه الجماعات لم تشترك مرة في الجبهات الوطنية العراقية التي تشكلت خلال الخمسين عاماً الماضية ، وكان واضحا أن يد الشاه هي الطولى في الترتيب لمؤتمر بحمدون بعد مرحلة مصدق واستمرار الحركة الوطنية في ايران ، لكن عمامة بيضاء يعتمرها الفقيه محمد الحسين كاشف الغطاء تتحرك لتعلن للمجتمعين في ذلك المؤتمر أن المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون ، وتصبح هذه الجملة عنوانا لكراس وضعه كاشف الغطاء ، فتتسع رقعة الانشقاق بين عمامتين ، واحدة تعتقد ان الواجب الشرعي الأول يقتضي مطاردة الشيوعيين وحلفائهم ، واخرى تؤمن ان هذا النهج انما هو نتاج شاهنشاهي أمريكي لمواجهة حركة التحرر في المنطقة وضرب الوطنيين بأحزاب وجماعات دينية ".
ان سنوات الصراع بعد العدوان الثلاثي على مصر وقيام ثورة تموز 1958 التحررية كشفت عن الدور المبرمج لأحزاب وجماعات دينية يعود قرار تأسيسها الى مؤتمر بحمدون لتلعب دورا في تخريب الحياة السياسية ومطاردة الوطنيين وإشعال فتنة بين قوى الجبهة الوطنية وإصدار الفتاوى التي هيأت لسقوط الزعيم الوطني عبدالكريم قاسم وما تبعه من مذابح للوطنيين ".
أن جماعات هذا دورها لن تكون مع الشعب في يوم ما ، ولن تتبنى مطالب الجياع ، ولن تفكر بتطوير الحياة الاجتماعية والعلمية للناس ، لأنها لم تؤسس لهذا الغرض في منطق مؤتمر بحمدون ".
وسبحان ربك صورةً ، فما أن يختفي وطني كمصدق إلا ويظهر وطنيون ، وكأن أرحام الشعوب نجائب تلد الثوار وتوزعهم ما بين أندنوسية سوكارنو وهند نهرو ومصر عبدالناصر ويوغسلافية تيتو ، فبدا الأربعة وكأنهم قوائم المنصة التي يقف عليها الوطنيون في العالم الثالث معلنين انتصاراتهم من تأميم قناة السويس الى تأميم الشركات الهولندية في أندونيسيا الى اندحار الغرب في المنطقة وما تبعها من عدوان ثلاثي على مصر.
لقد عشنا عنفوان شبابنا قريبا من هذه المنصة وجها لوجه أمام منصة الشاه التي كرست جهدها للترويج لمقررات مؤتمر بحمدون ، وبغياب نهرو وإسقاط سوكارنو ورحيل عبدالناصر انفرد شاه إيران شرطيا في المنطقة وحليفا ستراتيجيا لإسرائيل التي أقامت قواعد لوجستية في إيران من شأنها أن تهدد الأمن القومي لدول المنطقة بأسرها ، وكان لابد من حملة وطنية يشترك فيها اليساران القومي والوطني لمواجهة التحالف الإيراني الإسرائيلي ، وكان لابد للشاه من جانبه أن يعزز نفوذه الإعلامي الموجه الى العراق خاصة بإذاعة الأهواز العربية الى جانب اذاعة اسرائيل ، وكانت كل منهما ذات نفوذ على بعض المسامع العربية.
كان بديهيا أن ينتمي كاتب هذه السطور لفريقه الوطني في حملة عربية لمواجهة مشروع الشاه الإسرائيلي في مطلع سبعينات القرن الماضي ، فخصصت إذاعة الأهواز في صيف عام 1971 اسبوعا كاملا للتشهير بكاتب هذه السطور تحت عنوان /حسن الأموي الذي يسمى زورا بالعلوي ودوره الطائفي/ ، ومن المصادفات ان قسم الانصات في وكالة الأنباء العراقية - وكنت معاونا لمديرها العام في تلك الفترة - قد سجل ما كانت تبثه إذاعات الأهواز ولندن وصوت أمريكا واسرائيل ومونت كارلو ، فاحتفظت بنصوص حرفية لما جاء في اسبوع محطة الأهواز من تعليقات موجهة ضدي بأصوات هؤلاء الذين مازالوا يرددون مصطلحات تلك الإذاعة حتى هذه اللحظة ، وقد سعت تلك الإذاعة أولا لتنزع عني لقب العلوي ، ولا أعرف بعد أربعين سنة ما العلاقة بين كتابات تدخل في الصراع العربي الاسرائيلي وموجهة ضد تحالف الشاه بمسألة الصراع العلوي الأموي؟ ، وكأن تلك الإذاعة أرادت أن تمنح الشاه لقب حامي الشيعة وراعيهم والمدافع عن سياسة وتراث أهل البيت عليهم السلام.
ان تلك كانت بداية السر الذي تختفي خلفه هذه الحملة القائمة من الكيد والضغينة التي دأب عليها من رضع مراضع بحمدون والشاه في التنكيل والتشهير وروح الانتقام الموجهة نحو شخصي دون غيري من الكتاب ، ولم تتوقف الحملة يوما سواء كنت متربعا على الأرض الى جانب صدام حسين المضطجع أمامي أم كنت داخل اذاعة سرية موجهة ضد صدام حسين ام محاضرا على منصة في إحدى العواصم ، ولا اختلف الأمر عندما كنت ناشرا في مجلة ألف باء أو ناشرا لكتاب (المنظمة السرية).
ولا أدعي ان دوري كان مؤذيا فكان ردهم معمرا اكثر من اربعين عاما ، وإنما كان السبب في التركيز على شخصي دون كتّاب الحركة الوطنية العراقية أنني لم اُقتل بعد كما قُتل بعض زملائي ، ولم أهرب من الميادين كما هرب بعض زملائي ، ولم أتقاعد وأنا في الثمانين كما تقاعد زملائي مبكرين ، فواصلت نشاطي وواصل فريق الشاه نشاطه ، واستمرت مجموعة الأهواز تطاردني رغم ان الثورة قد طردت الشاه ، وكان بعض من ساهم في حملة الأهواز يساهم في حملة اليوم ، فمازلت في نظر اذاعة الأهواز وفي نظر هؤلاء أموياً رغم كوني أصنف السيد الخميني زعيما للاهوت التحرير الذي قوض النظام الحليف لإسرائيل في طهران.
وكما كانت إذاعة الأهواز تروج لعلوية الشاه الذي تجرأ على إعدام زعماء دينيين بدرجة آية الله فهي تروج لإسقاط لقبي العائلي واستبداله بالأموي ، ومازال محتذو أخفاف الشاه يرددون على مسامع الناس ذات الكلام الذي كانوا يسمعونه في اذاعة الأهواز خلال حملتها ضد كاتب السطور عام 1971 ، ولاعجب فالصراع دائم وقائم بين اتباع الشاه وعمامة بحمدون من جهة وعمامة كاشف الغطاء والخميني من جهة اخرى ، وعندما عشت فترة في لندن لاحظت ان عمائم الشاه كانت تتزاحم على موعد مع ضابط سياسي في /السكوتلانديارد/ لتعرض نفسها كعمائم بديلة تحت الطلب في مواجهة الخميني حتى في اثناء الحرب العراقية الإيرانية ، فدخلت في سجال صحفي مع عمامة بديلة كانت تخاطب الشيعة بأنها حريصة على ثورتهم الإيرانية فيما تتلقى هذه العمامة الدعم اليومي من الضابط السياسي المخصص لها في لندن الى جانب عمائم اخرى عاشت هناك .
وفي أعقاب الإحتلال الأمريكي للعراق شاركتْ العمائم البديلة في دور فعال في مجلس الحكم الأمريكي برئاسة بول بريمر ، وقد أشرف أصحاب تلك العمائم على خارطة الإنقسام الاجتماعي في جعل المشاركة في مجلس الحكم خاضعة للهوية المذهبية ، فأنجزت عمائم بريمر ما رسمته عمائم بحمدون ومناهج الشاه في المنطقة ، ومنذ بريمر بدأت حكومات بحمدون تقود البلاد على تلك المناهج والبرامج ، وكان هؤلاء وهم تحت سطوة بريمر يتملقون له ويدعونه لتناول الفسنجون الإيراني قد أصدروا صحفا جعلت كاتب السطور هدفا لكيدها بما حملت صدورهم من احمال تعود في أصولها الى مراضع بحمدون وموجات الأهواز ولغتها ومصطلحاتها ، ففرضت علي مسؤوليتي الوطنية أن أرد بكتابي /شيعة السلطة وشيعة العراق/ بإجراء فرز بين أتباع الشاه وأتباع بريطانيا وأتباع بريمر من جهة ، وبين ائمة التحرير وقبائل العرب التي اتخذت التشيع طريقا لها حتى يكونوا في مواضع من اختارتهم المقادير الإلهية الى جانب مقادير الشعوب ، ولابأس فالحملة ستستمر ورواضع الشاه سيستمرون بالكيد لكاتب السطور حتى بعد رحيله ، لكن طقوسنا لاتسمح بدفن الكتب مع أصحابها ، وستبقى هذه الكتب تقارعهم بعد رحيلي ، ويظهر جيل يرجمهم لصوصا في أول تجربة لحكومة بحمدون الدينية واتباعا للأجنبي ومزورين للألقاب العلمية وسندات تمليك العقار.
*العباسية نيوز
1570 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع