بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريح قديم
الأسماك والتنبؤ بالمستقبل في التاريخ القديم
بقايا معبد الإله أبولو في مدينة سورا غرب الأكروبوليس (Acropolis)، وتشير الدرجات المنحوتة في الصخر بان الوصول للمعبد يتم عبر سلالم من الأكروبوليس، ويقع المعبد التنبؤات على الجانب الأيمن، حيث منطقة نبوءة الكاهن، ووفقا للمؤرخين اليونانين، كان بإمكان الكهنة إلقاء النبوءات إذا ابتلعت السمكة اللحم من أسياخ يقدمها السائل برفقة الكاهن في المنطقة المقدسة، ولأن النبوءات كانت تُجرى بالنظر إلى السمك، فقد بُني المعبد على منطقة مستنقعية على حافة الماء على الرغم من وجود أماكن أكثر ملاءمة في الأكروبوليس، وخلف المعبد توجد أطلال الكنيسة البيزنطية، وهي متداعية للغاية.
سعى الإنسان منذ القدم لمعرفة ما يخبئه المستقبل من احداث، فعندما تكثر الهموم يتجه الفرد للعرافة ليجد ما يريح قلبه، لأن الانسان ضعيف ومشاكله وهمومة لا تنتهي من الفقر، والأمراض، والمشاكل الطبيعية من ندرة سقوط الامطار، أو الفيضان، أو مشاكل اسرية، وحسد وغيرة من الاخرين...الخ، والإنسان بحد ذاته ضعيف فهو لا شيء بدون الآلهة، فلابد من الاستعانة بالآلهة العظام لتقدم له افكار وحلول للمستقبل، حتى يتجنب ما يستطيع، ويسعى إلى تحقيق ما يقدر عليه وحسب إيحاء الآلهة له عن طريق العراف، ولذا تنوعت اساليب العرافة في العالم القديم ومنها على سبيل المثال: معرفة الابراج، وملاحظة الأشكال التي تظهر عند سكب الزيت فوق سطح الماء، والتنبؤ عن طريق كبد القرابين الحيوانية، وتحليق الطيور واتجاهاتها، وقراءة خطوط الكف، والتنبؤ من خلال تعابير الوجه والتصرقات، ورمي الحصى على الأرض، ولهيب النار ...الخ، وحاليا تم اضافة: قراءة فنجان القهوة، وفتح القران الكريم وتفسير اسطر من آياته كريمة، وفتح القاموس عربي- انجليزي، واوراق اللعب بمختلف اشكالها ....الخ.
وهناك عرافة اخرى قديمة وصلتنا عن طريق اليونانيين في بلاد الاناضول، وهي ملاحظة سلوك الأسماك، وهذا النوع من العرافة اشتهرت به سورا (Sura) وهي مدينة صغيرة تعود إلى الالف الأول ق.م، وتقع في منطقة ليسيا أو ليقيا (Lycia) في انطاليا (Antalya) (جنوب غرب تركيا الحالية)، واثار موقع سورا يضم عدد من المنازل والمقابر المنحوتة في الصخر على الطراز الليسي (Lycia)، كما عثر في الموقع على نقشين باللغة الليسية الأصلية يعود تاريخهما إلى أواخر القرن السادس ق.م، أحدهما نقش جنائزي عثر عليه في مقبرة المدينة، والآخر نقش طويل ولكنه مجزأ للغاية على قاعدة تمثا ل، وكان سكان المدينة يعبدون الإله زيوس (Zeus) كإله رئيسي، كما تشتهر مدينة سورا بوجود معبد كوسيط للتنبؤات مخصص للإله أبولو (Apollo)، ولهذا فان معبد سورا يديره كهنة يفسرون سلوك الأسماك في بركة مقدسة، وهو تقليد يُضاهي تقليد معبد دلفي (Delphi) في اليونان، ويعتبر هذا النوع من معرفة المستقبل مخصص لزوار المدينة، ولم تكن طريقة الفال بالأسماك حكرا على مدينة سورا فهناك تنبؤات مماثلة في مدينة ميرا (Myra) القديمة والقريبة من مدينة سورا.
تظهرحاليا في موقع سورا بقايا آثار المعبد الصغير الذي اختص بالعرافة وهو بحالة من التدمير، فقد بُني المعبد على منطقة مستنقعية على حافة الماء بالقرب من نبع ماء عذب مخصص لوحي الأسماك، ويصف الكاتب اليوناني أثينايوس (Athenaios) سير العرافة في سورا: (في سورا وعلى شاطئ البحر، توجد منطقة مقدسة لوحي الإله ابولو)، كما ذكر المؤرخ أرتيميدور (Artemidor) وهو من مدينة افسوس (Ephesos) وجود نبع مياه عذبة على الشاطئ مدينة سورا بالقرب من المعبد، وعندما يختلط ماء البحر المالح مع الماء العذب تحدث دوامة مياه (بالعراقي سويرة) فتجذب الكثير من الأسماك إلى بركة المياه، ويحضر عند دوامة الماء على الشاطئ طالب العرافة أو السائل عن الأحداث المستقبلية حاملا سيخين خشبيين، كل منهما يحمل عشر قطع من اللحم المقلي، ويرميهما في الحوض حسب توجيهات العراف، وعندما تمتلئ البركة بالماء المالح والعذب، تتدفق الأسماك من مختلف الأنواع إلى البركة، ويصف المؤرخ بليني الأكبر(Pliny the Elder) شرحا مختلفا بعض الشيء في كتابه (التاريخ الطبيعي)، ووفقا له، تنجذب الأسماك إلى صوت آلة المزمار (pipe) ولثلاث مرات من قبل كاهن مختص يجيد العزف، ويرافقها ادعية كاهن العرافة يصوت فيه خشوع وهو يرفع بصره إلى السماء حيث مقر الآلهة مع حركات يديه التي تدل على الإيمان وهو ينظر إلى حركات الأسماك، فإذا أخذت الاسماك تقضم اللحم المُلقى اليها بشراهة يعتبره الكاهن العراف فال جيد، خاصة إذا كان عددها كثير وانواعها مختلفة، وفي مثل هذه الحالة يُعطي الكاهن جواب الوحي الإلهي للشخص السائل، وليس عدد الاسماك وحده يعطي الإيحاء، بل أيضا حجم الأسماك وكثرتها وانواعها، عندها يطلب الكاهن العراف النصيحة من الإله نيابة عن السائل، وعيونه تحدق في سلوك الأسماك وأنواعها التي تظهر عند إلقاء اللحم المقلي في دوامة مياه البركة، ويبدو ان الأسماك تسمع صوت الناي فتأتي إلى بركة المياه، فإذا مزّقت الأسماك اللحم الملقى إليها، كان ذلك فألا حسنا، أما إذا ألقت اللحم جانبا بذيولها، كان ذلك فألا سيئا، وإذا كانت الأسماك كبيرة في البركة فهو فال جيد، وإذا كانت صغيرة الحجم فهو فال سيء (ربما توحي الأسماك الصغيرة وكانها احاديث ناعمة بلا معنى)، وإذا كانت الأسماك متنوعة الأشكال فهو فال جيد، وأذا كانت نوع واحد من الأسماك فهو فال سيء، وقد وصف الكُتاب اليونانيون والرومان الفال عن طريق الأسماك بكثرة.
عندما انتشرت المسيحية في مدينة سورا (Sura) دمر المعبد ولم تُحفظ آثار موقع العرافة، ولم يتبق منها سوى منحوتات صخرية، يُفترض أنها مساكن للكهنة أو مساكن باحثي العرافة، بالإضافة إلى عدة توابيت متناثرة في أنحاء المدينة، وشيد بدل معبد العرافة كنيستين بيزنطيتين ما زالت اثارهما باقية، والأكثر من هذا اقيمت مجامع كنسية لمناقشة طبيعة السيد المسيح هل هو إله؟ أم نصف إله؟ (كان جلجامش نصف إله)، وايضا الاعتراف باربعة اناجيل (متي، مرقص، لوقا، يوحنا)، وهذه اللقاءات الكنسية هي مجامع القسطنطينية (381) م، وخلقيدونية (451) م، والقسطنطينية (553) م، ونيقية (787) م وكلها إلى الغرب من مدينة سورا ولا يوجد مجمع كنسي شرقها، وعلى ما يبدو ان الدين المسيحي حارب قراءة الفال عن طريق الأسماك بقوة بدليل تدمير المعبد الصغير وما يرتبط به من بركة الماء، بينما في بلاد الرافدين وهي مهد العرافة وخاصة مدينة بابل لم يلغى التنبؤ بالمستقبل تماما انما بقيت قائمة، ونلاحظ في الوقت الحاضر تم تغليف العرافة بالدين والإيمان فاصبح لها طابع ديني مقبول من العامة، واصبح للعرافين مدخولات مالية جيدة ومكانة اجتماعية ورضا في عيون الناس جميعا.
بغداد 2025
752 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع