د.سعد العبيدي
مدينتان على ضفتي التاريخ
ليدز، المدينة الواقعة شمال إنجلترا، بدت محطة عابرة في الرحلة نحو الشمال. الوصول اليها كان بعد الظهر، والجولة بدأت بدير كيركستال المشيّد عام 1152، ديرٌ ظلّ محتفظًا بأناقته كأحد أبهى شواهد العمارة القوطية، وسط حديقة غنّاء على ضفاف نهر جار. في الداخل مركز يعرض قرونًا من حياة الرهبان وتاريخهم، يستدعي الخروج منه التفاتة تقدير، كأنها وداع لروح شبابه الذي لم يَشِخْ. ومنه إلى قاعة المدينة (Town Hall) التي شُيّدت عام 1858 ببرجها الشاهق وسجونها القديمة تحت الأرض، وأجنحة حديثة لإقامة الحفلات واللقاءات الكبرى. بعدها امتد الطريق إلى المتحف الملكي للدروع والأسلحة، بما يحويه من أكثر من 8500 قطعة تمثل ثلاثة آلاف سنة من تاريخ الإنسانية، لحضارات مرّت عليها إنجلترا أو تفاعلت معها.
لكن صورة ليدز لا تكتمل بالمعالم وحدها؛ ففي أحيائها مثل هايرد بارك وتشابلتاون وهيرلز، تتجاور وجوه آسيوية مع الحجر البريطاني. لافتات بالأردية والبنجابية فوق محال باكستانية، ومطاعم تفوح منها رائحة الكاري الهندي، وشوارع مثقلة بالمطبات كأنها تدوّن تاريخًا آخر موازياً لذاك المحفوظ في كتب الإنجليز. هناك، بين الجدران الفيكتورية ونبض المهاجرين القادمين من الشرق، تتشكل حياة جديدة، في حوار معقّد بين مجتمعات تبحث عن مساحة مشتركة.
ومع حلول الليل كان المبيت في موقف للكرفانات، بانتظار أول ضوء للانطلاق صوب يورك… مدينة الأسوار والظلال القديمة، التي يشبه الدخول إليها الانحدار في دوامات الزمن، من حاضر صاخب إلى ممرات تقود إلى القرون الوسطى، تحيط بها أسوار حجرية منذ أيام الرومان حين عُرفت المدينة باسم "إيبوراتوم"، ثم جاء الفايكنغ وسمّوها "يورفيك"، إلى أن استقر اسمها لاحقًا "يورك". كل غازٍ منهم ترك على جدرانها ندبة، لكنها في كل مرة كانت تضمد جراحها وتنهض من جديد.
مدينة عريقة واجهت الحروب والحصارات: في عام 1068 أحرق جيش وليام الفاتح أحياءها، وفي 1644 حاصرها البرلمانيون في حربهم مع الملكيين، لتسقط بيدهم نقطة تحوّل في الحرب الأهلية. وفي العصر الحديث استهدفها الألمان بغارة عام 1942 أزهقت أرواح العشرات ودمّرت مبانيها التاريخية، ومع هذا بقيت أسوارها شامخة كدرع صامت يحرسها منذ قرون. وسطها كاتدرائية يورك مينستر بأبراجها التي تعانق السماء، حكاية من حجر ونور، أصابها الحريق مرة، وضربتها الصواعق مرة أخرى، لكنها عادت دومًا للحياة بفضل أهلها، وكأن فعل الترميم لديهم طقس للبقاء ومقاومة للنسيان.
عند التجوال فيها يعتريك إحساس بأنك تعبر بين طبقات الزمن: من شارع شامبلز الضيق، صفحة من العصور الوسطى، إلى متحف الفايكنغ وهو يهمس بأصوات بحّارة الشمال، وصولًا إلى مقاهٍ حديثة تنبض بالقهوة فوق حجارة عتيقة. إنها ليست مجرد مدينة، بل نسيج من عصور متراكبة، ذاكرة مفتوحة تحفظ خطى الغزاة والتجار والعشاق. أنهارها مرايا للراحلين والباقين، وأسواقها تعيد سرد الحكايات كل صباح كأنها لا تعرف النهاية.
وفي لحظة الوداع يتملكك شعور غريب: كأنك تترك مدينة لا تغادرك، لأنها تستقر في عقلك مثل أثر قديم يتجدد كلما استدعاه الحنين، ومعه أمنية: أن تحذو بابل حذوها، لتعيد مجدها الذي نسجته عبر العصور، وتنهض من ركام النسيان لتسكن القلوب من جديد.
771 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع