(الإهداء: إلى الإخوة المعلمين، والأخوات المعلمات أينما كانوا ، ممّن يجودون من قلوبهم وأرواحهم على أفواج الطّلبة وأجيالهم دائمًا)
.. أعلَمُ أيّها الإخوة المعلمون،والأخوات المعلّمات،أنّكم تعملون دائمًا تحت الصّقيع عُـراةً، وفوق الرّمضاء حُفـاةً..! وأنّ جنّيّة تبعثها المدنيّة الجديدة لتمدّ يدها في اللّيل خفيةً إلى أولئك الأبرياء، وتقتطع كلّ يوم قطعة من قلوبهم، وعقولهم، ونفوسهم، وتُلقي بهها في مجاهل الضلال والضياع، وفي منأًى عن القيم الرفيعة والمثل السامية..!! رغم ذلك ،تذكّروا دائمًا أيّها الأحبّة، أنّ الله لم يَضَعْ في أيديكم إبرة الخيّاط.! ولا سكّين الجـزّار.! ولا منشار النّجار.! ولا منجل المزارع.! ولا فأس الحطّاب.! بل وهبكم الكلمة الطيّبة كي تكتبوها بألسنتكم على عقولهم، وتنقشوها بأقلامكم على قلوبهم..! لا تنسَوا أنّ كلّ واحد من أولئك الأبرياء بئر عميقة ـ إنْ خيرًا وإنْ شرًّا ـ تحتفظ بكلّ ما ُتلقونه في قعرها إلى يوم ذهابهم من هذا العالم..! فما استقامت أمّة إلاّ إذا استقام المعلّم، وما اعوجّتْ إلاّ إذا اعوجّ..! فكونوا لهم أمثولة حسنة وأسوة حسنة، لكي ترسمهم الحياة بريشتها على صورتكم ، وإلاّ فماذا ينشأ منهم غير السّارق، والمجرم، والجاهل، والسقيم، واليائس .؟! فلا يغيبنّ عنكم يومًا، أنّ للكلمة في هذا العالم، قدرة على أن تُحيي وتُميت..! فهلمُّوا قوموا معي إلى الغاب، ونادوا بالكلمة الطّيّبة،فلا تعجبوا أن يخرج إليكم الأسد من عِرّيسته، يسحب فريسته، ويقدّمها لكم على طبق..!! ادعُوا بالكلمة الطّيّبة، تأتيكم العاصفة الهوجاء تُبصبص بذنبها، حتّى تثبّتوا أيديكم في شعرها، وتجلدوها بالسّوط على أرجلها، ولا تنبس بكلمة واحدة.!! ألقُوا الكلمة الطّيّبة على البحر يسكت..!! وعلى النّار تنطفئ..!! وفوق الشّوكة، تردّها زهرةً شذيّة في الوادي الخصيب..!!
.. إنّ التعليم نعمة من نعم السّماء على الأرض من أجل قيام العالم، بل فنّ علويّ ، أين لفنون الدّنيا كلّها أن تكون في منزلته، وقيمته وجماله..! ولا تنسَ يا أخي أنّ الحجر الّذي بين يدي النحّات في هذا الفنّ، هو لحم، وعقل، وقلب، وعصب..! فلا تلطّخ بإزميلك لحم التّمثال بدمائه..! ولا تحطّم السّراج الّذي في عقله..! ولا تقطع النّبض في قلبه..! ولا تجلب الشّلل إلى عصبه ،كيلا تقع النّكبة ثقيلة على الحجّارين في هذا العالم..!!
أيّها الفلاّحون الأحبّاء.! إنّ الأرض التي وُلِّيتُم على فلاحتها أرض سَبِخة، ومظلمة، تشتهي النّور، وتكسوها الأشواك.! لكنّها أرض البراءة، والطّهارة،يسكنها الملائكة منذ تكوين العالم..!! فتعهّدوها بالحرث،والزّرع، والسّقي، كي ُيمرِع الزّرع، وتملأ الغلالُ البيادرَ وقت الحصاد..!! أنتم الأبواب إلى خزائن العلم والتّهذيب.! فحبّبوا الأبواب إلى الأولاد، كي يدخلوا ذلك الفردوس العظيم..! لا توصدوا الأبواب، ولا تغلقوا النّوافذ عليهم فيختنقوا.. اِفتحوها على مصاريعها كي تدخل منها النّسمات، ويتنشّقوا منها عطر ثقافات الأمم..!! علِّموهم يا إخوتي عشق الكتاب، ولا تنسوا يومًا أنّه لا يستطيع أحد منكم أن يُعلّم هذا العشق، ما لم يكن هو نفسه عاشقًا مستهامًا، وقد برّح به الغرام لهذا الحبيب..! ربّوهم أن يضعوا الوطن دائمًا في صدورهم..! إنّ ترابه لحم آبائهم، وعظام أجدادهم ، وقد رقد في قلوبهم أحياءً، قبل أن يرقدوا في قلبه أمواتًا تحت الحجارة والصّفائح..!!
.. اِستقبلوهم يا إخوتي بالبشر والبشاشة دائمًا، ورفِّهوا عنهم، ولا تثقلوا عليهم أعباءهم..! واملؤوا قلوبهم ثقة، وأملاً، وعزمًا، ومحبّة لكم وللحياة أمّهم التي حملتهم إليكم..! ما أدراكم.! قد يكون الطفل جاء إليكم وفي قلبه غصّة، وفي عينه دمعة، وفي بطنه جوع ! فلا تتهكّموهم ، ولا تحقّروهم، ولا تسخروا منهم، ولا تفرّقوا بين واحد وآخر فيهم.! لا تكوننّ ألسنتكم سيوفًا.! وأيديكم سياطًا.! وقلوبكم صحاري..! وأفواهكم كؤوسًا فارغة.!! فما من طفل إلاّ في أعماقه كنز دفين ..! ففتِّشوا عن الكنوز في أطفالكم، واستخرجوها لهم وللنّاس، كي يحصل لهم من ذلك كلّ مجد وثراء..!! إنّ الّذي اخترع أعظم الآلات في الأرض، ليس بأفضل ممّن نحت أجمل تمثال، وابتكر أجمل قصيدة، ورسم أجمل لوحة، ووضع حجرًا على حجر ..!! إنّ مِـن الّذين حسبهم النّاس أشقياء يومًا، قد تصدّروا قيادة العالم مرّة بعد مرّة..!! وإنّ أمّة لا تستخرج الكنوز الدّفينة في أبنائها، لا بدّ أن يطأها التاريخ بأرجله، ويتركها هامدة بغير أنفاس، ثمّ يسعى لاهثًا يطلب الأمم الرّاقية السّائرة نحو الخلود..!!
يا إخوتي .! ربّوهم قبل أن تعلّموهم، حتّى يكشفوا لكم ما خبّأه الله في صدورهم من جواهر ولآلىء..! وبثّوا في قلوبهم أنّهم لن يزيّنهم من الجواهر النّفيسة في أعناقهم، خيرٌ من قلائد الأعمال اللاّمعة..! تذكّروا أنّهم الشّعوب الصّغيرة الّتي تتسلّم مصايرها من أيديكم اليوم، ثمّ تودّعكم غدًا على ألاّ تعود إليكم يومًا..! فربّوهم أنْ يخلعوا العنصريّة من أرجلهم حيثما يذهبون، لأنّها وحدها تسير بهم إلى الهلاك..!! وأنّ النّاس في الأرض، إخوة بالله ما دام الله يبقى أبًا لهم جميعًا، من حيث إنّ "أكرمكم عند الله أتقاكم"و" طوبي لصانعي السّلام لأنهم أبناء الله يُدْعَون" ومن حيث إنّ العنصريّة هي الدّاء العُقام للسّلام بين الأنام في الأرض، وهي النّار الّتي ما زالت منذ نشأة الكون تسير شمالاً وجنوبًا، وتلتهم حقول البشريّة، حيث تأمرها الرّياح والعواصف..!! هي القاتلة المخضّبة بالدّم دائمًا، وأوّل من تبدأ به صاحبها ..!! هي الّتي تكمّ أنفاس المواهب، وتُميت العبقريّات، وتمنع الأخذ من ذخائر الآخَرين، وتقطّع بأنيابها كلّ وريد يصل بين الناس..!! وداعيتها في الأرض ـ بئس داعيتها ـ أعمًى ربيب أعمًى، وسقيمٌ سليلُ سقيم في عقله، وخلقه، يقود نفسه، والنّاس معه إلى التّهلكة..!!
يا إخوتي.! ربّوهم أنْ يكونوا أحرارًا في الأرض لا عبيدًا.. ولا تكوننّ عقولهم ملكًا لغيرهم يومًا..! إنّه خيرٌ للرّأس أن يُقطع، من أن يكون ملكًا لغير حامله، وما أكثر الّذين يحملون رؤوسًا فوق أكتافهم، لكنّها ليست ملكًا لهم في هذا العالم..!
ذكِّروهم أنّ المدرسة الّتي يتعلّمون فيها هي أصغر المدارس في الأرض.. وأنّهم غداة غد، سيذهبون الى أعظم مدرسة، حيث لا نوافذ هناك ولا أبواب ..! والمعلّم فيها شيخ جليل لم يسأم التّعليم يومًا منذ آلاف السّنين..! طالتْ لحيته، وغارتْ عيناه، وتهدّل حاجباه، وتقوّس ظهره، واهترأت نعلاه، وتخلّقت ملابسه، يطوف الدّنيا دائمًا ويحمل على عاتقيه أضخم خزانة كتب في العالم، ولا يتعب..! وما أحراكم أن تقرؤوها كلّها لو استطعتم..!! ألا إنّ تلك المدرسة هي الحيــاة ..! وذلك المعلّم هو الزّمــن..!! ويا ليتكم تتّعظون..!!
لقّنوهم: تعلّموا، إذا نظرتم إلى الجبال أن يكون لكم شموخها، ووقارها، وسكينتها، وتعاليها عن الدّنايا والصّغائر..!! وأنّها لا تنحني أمام العواصف النّكباء، ولا تتضعضع يومًا أمام الزّوابع الهوجاء..!! تعلّموا، إذا نظرتم إلى شجرة زيّنتْ جيدَها ومعصمَها بقلائد الأثمار، أن تكونوا أشجارًا مثمرة ثمرًا صالحًا للجياع في هذا العالم..!! وإذا حيّاكم النّسيم مرّة بأريج الزّهر، تعلّموا منه أن تحملوا الأنس والبِشر للنّاس، لا النّميمة والسّعي بالباطل..!! وتعلّموا إذا رأيتم مريضًا، أن تشكروا نعمة الله عليكم في العافية..!! وإذا لقيتم شيخًا يتوكّأ على عكّازه، فتذكّروا أنكم سوف تبلغون هذا الأمد يومًا، وأنّ الإنسان في الأرض عابر سبيل، وزائر غير مقيم، وأنّ خير العلوم هو العمل الصّالح ليوم الدّينونة، لو علمتم !!!.
أيّها المعلّمون الأحبّاء.. إيّاكم أن تضربوهم، لا بأيديكم ولا بألسنتكم ..!! إنّكم حين تضربون الأطفال على أجسادهم، إنّكم تضربونهم على قلوبهم..!! إنّ آلام الأجساد تذهب، أمّا آلام القلوب فتبقى..! وإنّ قتلى الكلمة الخبيثة أكثر بكثير من قتلى السّيوف والبنادق في هذا العالم...!! فحـذارِ حـذارِ من هذا القتل ذي الموتين حـذارِ..!! فأحيوا أطفالنا بالكلمة، ولا تقتلوهم بـها، وإذا فعلتم يا إخوتي كلّ هذا فبشراكم ثمّ بشراكم، وطوبى لكم أينما كنتم..!!
وأنتم أيّها الأطفال، اِعلموا أنّ لكم في هذا العالم آباء غير آبائكم الذين ربَّوكم، وأمّهات غير أمهاتكم اللّواتي أرضعنكم، إنّهم معلّموكم ومعلّماتكم، فأطيعوهم تطيعوا الله، وأكرموهم لتطول أيّامكم على الأرض، ويتسامى مجدكم فوق القمم..!!
كفرسميع ـ الجليل
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
894 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع