الحضارة المتنحية والحضارة المتفوقة / ٣

نزار السامرائي

الحضارة المتنحية والحضارة المتفوقة / ٣

من التجني أن نوجه أصابع الاتهام إلى الإسلام، فيما تعيشه دول تدين بهذا الدين السمح، فالإشكال ليس في الإسلام، وإنما بالمسلمين أنفسهم، وفي تفسيرهم للنص المقدس أو بما يُصطلح "بالفتوى الدينية"، وتضارب الاجتهادات في معرض قضية واحدة بين البلدان المختلفة، وداخل البلد الواحد بل داخل المؤسسة الدينية الواحدة.
ولما لم أكن متخصصا في أمور الفقه، ولا أزعم أنني ضليع به، ولكنني كمسلم أحرص على ديني وما يفرضه عليّ من واجبات وأوامر ونواهي، رأيت أنني يمكن أن أطرح وجهة نظر، قد يؤدي بي الحديث في هذه الموضوعات إلى ارتكاب أخطاء غير مقصودة بكل تأكيد، ومع ذلك فليسمح لي أصحاب الاختصاص أن أُدلي بوجهة نظري، فإن كانت صائبة فهذا ما أرجوه، وإن لم تكن كذلك، فأرجو التصويب من ذوي الاختصاص.
على ما أرى أن الفتوى الدينية تصدر عن هيئات متخصصة لها باع طويل في معرفة العلوم الدينية، ولها وجهات نظر تُعدها الأقربَ لمقاصد الشرع المقدس، وأسمح لنفسي أن أعددها على النحو التالي.
1 – الفتوى الصادرة عن إيمان حقيقي بشرعة الله تعالى لعباده، وشعور من المفتي بأنه يقرب المعنى المقصود من النص الديني الوارد في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة للمكلفين، كي لا يتجاوزوا الحدود الشرعية، ويدخلوا في المحذور من حيث لم يدروا.
2 – الفتوى التي تسعى إلى تكريس الواقع الموجود بصرف النظر عن تطابقه مع النص المقدس أو لا، وهذه الفتوى تصدر عن بعض رجال الدين الذي يرون في كل تجديد تهديداً لمصالحهم أو مصالح نظام الحكم الذي يعملون له، وبالتالي فإن مثل هذه الفتاوى، ستتحول إلى سيف مسلط على رقاب دعاة التجديد، سواء في الفقه أو في بنية المجتمع على المستوى الاقتصادي والعلمي، لأن هؤلاء يعتبرون الدعاة إلى التغيير، هم من المتغربين والمشبعين بالأفكار الوافدة، وفاقدي البوصلة الوطنية، وأكثر من يلجأ إلى هذه الفتوى هم الذين يسعون لتسيس الدين واتخاذه جسرا للمحافظة على المكاسب التي يحظى بها "وعاظ السلاطين".
3 – الفتوى التي تسعى إلى تكفير الناس بكل الموروث الديني بحجة التنوير والتحديث، وتعتبر أن التمسك به عائق كبير يقطع الطريق على كل من يحاول إدخال أي لمسة حديثة في المجتمع، سواء كانت نزيهة أم لا، وهذه الفتوى تنظر للدين نظرة عدوانية وتعتبره السبب الوحيد للتخلف في مجال العلوم والتكنولوجيا، وتلقي بتبعات ذلك على عاتق رجال الدين والمتدينين.
4 – الفتوى السياسية التي تأتي من سلطة ولي الأمر، ويفرضها بقوة السلطة على علماء الدين والفقهاء، لأنها تتناغم مع مزاجه الخاص والتربية التي نشأ فيها، فيؤدي ذلك إلى تحولٍ غير متدرج وغير مدروس على قيم مجتمع ما، وقد تؤدي مثل هذه الفتاوى إلى زج المعارضين من الفقهاء والعلماء في السجون أو التغييب بهدف قطع ألسنتهم عن الاعتراض على ما يرونه خرج على أهداب الدين.
وفي سياق هذا الموضوع سنورد مثالا لكل نوع من الفتاوى، وهذا التعدد بالفتاوى المتضاربة، التي يعتقد كل واحد منهم أنه هو الذي يمثل المنهاج القويم، وغيره على باطل، هو الذي يترك المرء في حيرة من أمره، ذلك أن الجهل بكثير من حيثيات القضايا المطروحة، قد يؤدي إلى الإبطاء في مسيرة المسلمين نحو مستقبل مزدهر، وهناك عدة عوامل أسهمت باستمرار حالة التخلف في الوطن العربي والعالم الإسلامي، على الرغم من أن كثيرا من دوله، نالت استقلالها قبل ما يزيد على قرن، كان كافيا لإحداث نقلة نوعية في الركائز الاقتصادية الأساسية، ثم إن كثيرا منها كانت على احتكاك مباشر مع أوربا سبقت في ذلك عشرات الدول في آسيا وأفريقيا، التي تقدمت على بعض الأقطار العربية بشكل خاص، فهل ينحصر الأمر بالفتوى الدينية، التي يقول البعض أنها هي سبب التأخر عن مواكبة الدول المتقدمة، أم هناك عوامل أخرى؟ هنا يبرز رد منطقي، وهو أن العرب بعد نزول الرسالة الإسلامية وقيام الدولة الإسلامية في المدينة والشام وبغداد والأندلس، فأقاموا صروح نهضة لامعة أيام الدولتين الأموية في الشام ثم في الأندلس، والدولة العباسية، شملت ميادين الطب والهندسة والرياضيات والكيمياء والفلك، والزراعة والتعدين وغيرها، وصلت حد تفكير البعض بالطيران كما حصل لعباس بن فرناس العالِم المتعدد المواهب، الذي حاول الطيران وأخفق في ذلك ولم يقل له فقيه واحد إن عمله حرام، لكن أحدا لم يحاول أن يقتفي أثره ويفكر في تلافي الأخطاء التي وقع فيها، فلماذا لم توقف الفتوى الدينية كل ذلك التطور؟
فهل هناك من يغفل ما لأبي عبد الله محمد بن موسَى الخَوارِزمي، عالم الرياضيات والفلك والجغرافيا، والذي يعتبر من أبرز علماء الرياضيات المسلمين، من فضلٍ على العالَم في تطوير علم الرياضيات وتقديمه لأوربا في عصر نهضتها، واختراع الصفر إلى الاعداد التسعة، ليكون ذلك بمثابة ثورة في عالم الرياضيات، وتوظيفه خير توظيف مع مختلف العلوم للتحرر من عهود الجهل والظلام، ومن أهم ما ترك لنا من مؤلفات، كتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة الذي يعد أهم كتبه، أو جابر بن حيّان بن عبد الله الكوفي ودوره في تطوير علم الكيمياء والفلك والهندسة وعلم المعادن، صحيح أن كثيرا من المشتغلين في الكيمياء ركزوا في بحوثهم على كيفية تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، إلا أن تلك الجهود أثمرت نتائج كبيرة في هذا التخصص، أما في البصريات فبرز أبو عَلْي الحَسن بن الهَيثم البصري، وهو عالم موسوعي عربي مسلم قدم إسهامات كبيرة في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب العيون والفلسفة العلمية والإدراك البصري والعلوم بصفة عامة، بتجاربه التي أجراها مستخدمًا المنهج العلمي، وله العديد من المؤلفات والمكتشفات العلمية التي أكدها العلم الحديث، أما ابن البيطار ضياء اَلدِّينِ أَبُو محَمَد عَبد اَللَّهِ بْن أَحمَد الملقي فهو عالِم نَبَاتي، وصَيدلي، يعد مِن بين أعظم علماء العصرِ الذهَبِيِ للإسلام، وعالِم عصرِهِ في عُلوم النبات والعَقاقِير، والصيدلي الأول في وقته،
ويجب ألا ينسى دارسو التاريخ العربي، دور بيت الحكمة في بغداد والذي أسسه الخليفة العباسي المأمون، أو الجامعات التي تم تأسيسها في العراق وفي الأندلس، أو في المغرب وتونس ومصر، وما تركه لنا ذلك الإرث من صفحات الحضارة في أجلى صورها المشرقة، ولكن هنا يمكن أن يطرأ سؤال كبير، إذا كان لدينا كل هذا الكم الكبير من العباقرة العرب والمسلمين في مختلف الاختصاصات العلمية، فلماذا لم تتمكن جهة أو جهات مختلفة من جمعهم في مؤسسة واحدة، صحيح أنهم لم يجتمعوا في مكان واحد أو في وقت واحد، ولكن ألا يوجد مع كل واحد منهم علماء آخرون ربما يساوونهم في الخبرة ولم ينالوا نصيبهم من الشهرة، أو أقل منهم في المعرفة والدراية، وامتلكوا الرغبة في الحصول على المزيد منها، ولو تلقفتهم جهات تمتلك المال اللازم والحماية الاجتماعية لهم في ظروف الشيخوخة والعجز، أما كان بإمكانها أن تستقطب الآلاف من الكفاءات في مختلف الاختصاصات العلمية؟ على هذا استطيع القول بأن الدولة في ذلك الوقت لم تكن تمتلك تصورا لمنظومة كاملة من أسباب البحث العلمي وإقامة مراكز البحث والمختبرات اللازمة، بل كان كل عالم من علماء المسلمين في ذلك الوقت يخوض معركته منفردا، وإذا بادر خليفة من الخلفاء أو سلطان من السلاطين أو وزير من الوزراء على تأسيس هيئة أو مدرسة أو جامعة، لترتبط باسمه، فقد تفقد الاهتمام من لدن من يخلفه في الحكم، كما حصل مع المدرسة المستنصرية في بغداد.
ومن أجل أن تُستكمل خطة التنسيق الجماعي بين العلماء وتكامل الأدوار بينهم، لإيجاد منظومة بناء علمي رصين يعتمد على المهارات الفردية، يجب أن تتواجد هيئة حكومية أو من جهات أخرى تمتلك وجودا معترفا به، ترفد المؤسسة العلمية بالكوادر والانفاق عليها، وهناك رأي يطرح ولا دليل ماديا على صحته، وهو أن نرجسية أولئك العلماء والمبدعين، كانت تطغى على كل محاولة لجمعهم مع الآخرين وإيجاد صيغة عمل منسق في مؤسسة واحدة فتفشلها، وكانت تحول دون نجاحها، لقد شكك الغربيون بالعقل العربي وقالوا إنه عقل تحليلي لا تركيبي، فهل لعبت هذه المقولة دورها في تأخير الصورة النهائية لصعود العرب إلى مراتب أعلى في المسيرة الإنسانية؟
يتبع

للراغبين الأطلاع على الجظء الثاني:

https://algardenia.com/maqalat/65626-2024-11-15-17-47-14.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1488 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع