نزار السامرائي
الحضارة المتنحية والحضارة المتفوقة /٢
من غير الممكن لأي مجتمع أن ينتقل من حالة التخلف إلى الحالة المدنية المتطورة، ما لم يعش استقراراً سياسيا وحرية رأي وبحث في كل الميادين، مما يمهد الأرضية يعد البيئة المناسبة لنمو الأفكار المبدعة لأي مجتمع يطمح بالتغيير والبناء، والاستقرار هو اللازمة التي لا بد منها لأي تقدم منشود في مضامير الاقتصاد والعلوم والثقافة والفكر، وهذا ما عرفناه من خلال متابعتنا للعوامل التاريخية التي أوصلت أوربا إلى الاكتشافات والاختراعات التي نعرفها اليوم، بعد أن عانت القارة كلها من اضطهاد للمفكرين والمكتشفين والمخترعين لحقب طويلة، ثم انتقلت إلى بيئات أخرى كالولايات المتحدة، التي قدمت إضافات استثنائية لما حصل في أوربا، وذلك بسبب أن المجتمع الأمريكي هو مجتمع أخلاط سكانية ساهمت فيها الهجرات الأولى وما أعقبها من دول أوربية كثيرة، عاشت نزاعات دموية فيما بينها من أجل البقاء، فكان على كل فريق أن يعزز من عوامل قوته ليواجه الآخر، وعندما انتهت تلك النزاعات بكل أوجهها، التقت كل المهارات الأوربية المهاجرة في أمريكا مع بعضها، لتصنع شيئا مميزا عن أية تجربة أوربية خاصة.
ولأن الدولة العربية بكل مراحلها البعيدة والقريبة، عانت كثيرا من ظروف عدم الاستقرار السياسي، نتيجة ظهور الكثير من الانقسامات التي بدأتها فرق غالية في مختلف أصقاع الدولة العربية الإسلامية المترامية الأطراف، وتحولت مع الزمن إلى حركات ذات برامج فكرية لها طموحات سياسية، أدت فيما بعد إلى تشكيل أذرع عسكرية لها، خاضت حروبا طاحنة ضد سلطة الدولة، عصفت بوحدة الأمة واستقرار دولتها، وفرضت نظام حكم يستند على مبدأ حماية الدولة أولا وأخيرا.
على العموم أُواجه بصفة مستمرة بسؤال ملّح، عن أسباب تفشي حالة الفقر المدقع التي يعاني منها المسلمون في كل دول من دون استثناء، وتخلّف الدول الإسلامية التي تنتشر على طول القارة الآسيوية وعرضها عن بقية الدول المتطورة التي استقلت بعدها بعدة عقود، وقد لا تحتوي أراضيها على ثروات طبيعية متنوعة كالتي تمتلكها الدول الإسلامية، ولماذا تفشل معظم الحكومات في معالجة الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والأعاصير التي تتعرض لها، بكفاءة تقترب من كفاءة ما يحصل لدول أوربية أو أمريكية، وهي بأضعاف قوة ما يحصل في الدول الإسلامية عدة مرات؟ هل يكمن السبب في الإسلام نفسه أم بالمسلمين؟ أم أن السبب الحقيقي يتلخص بوجود "مؤامرة" لإبقاء العالم الإسلامي في حالة سبات أبدي، لأنه قد يشكل خطرا على القوى الدولية الكبرى المسيطرة على السياسة الدولية، وثروات الشعوب لحقب طويلة وتخشى على مصالحها من فقدان فجائي نتيجة يقظة إسلامية شاملة؟
وأحيانا أسأل نفسي، لماذا لم يحصل عرب أو مسلمون على عدد من الجوائز الدولية المعروفة كجائزة نوبل على سبيل المثال والتي تمنح لعلماء توصلوا إلى نتائج لم يسبقهم أحد، يتناسب مع عددهم الكبير على مستوى العالم، هذا إذا جردنا هذه الجائزة المعروفة، من الغرض السياسي في طرق منحها.
يمكن البحث عن أجوبة سهلة للخروج من مأزق السؤال، لأن تقديم الجواب الحقيقي عنه، قد يوقع أي طرف ساهم بصياغته في إشكاليات هو في غنى عنها لا سيما ممن بيده مقاليد الحل والعقد أي سلطة المال والقوة.
لا يمكن التعلل بأن الخارج وحده هو المسؤول عما يعانيه العالم الإسلامي، على خطورة الدور الخارجي المغرض في وضع الكوابح المانعة من الرقي، لأسباب مركبة، منها ما يتصل بالأمن القومي للتحالفات الدولية القائمة، ومنها ما يرتبط بالمصالح التجارية المتضاربة بين الكتل الاقتصادية الكبيرة، وحتى داخل كل كتلة بين دولها، فبعض الدول تسعى لإبقاء دول أخرى خارج الزمن، وتبقيها بحاجة مستمرة إلى استيراد غذائها، وما تحتاج إليه من معدات وأجهزة ذات خصوصية في التصنيع، لا مندوحة من استخدامها في البناء والنقل واستمرار الحياة، وكذلك لإبقاء مناجم المواد الخام في الدول المتخلفة والتي لا تمتلك الأموال اللازمة لاستثمارها، فتأتي الدول الصناعية لتحافظ على تدفقها إليها من مناطق انتاجها، كي تدير ماكنة اقتصادات الدول المتطورة، لا سيما الدول التي كانت تحتلها قبل قرار تصفية الاستعمار الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960، وبالتالي فإن قليلاً من دول العالم هي التي تكون على استعداد للتخلي عن أسواقها طواعية، ما لم ترغم على ذلك إما بفعل القوة المسلحة، أو نتيجة تدخل قوى تنافسها في عاملي الجودة والأسعار، لأي طرف آخر بما في ذلك التطور الحاصل مستوى الإنتاج في سوق البلد، مما يدفعه لحماية انتاجه الوطني عبر فرض الضرائب وتخليه عن استيراد بعض السلع من الخارج.
هناك من يحصر سبب تخلف الدول الإسلامية بما فيها الدول العربية، بالقيود التي يفرضها الإسلام على أي منتج جديد، عن طريق إخضاعه للبحث والدرس وعما إذا كانت تشوبه مسحة من الحرام، وبالتالي يمكن أن تضع مثل الخطوات المزيد من الفرامل المعيقة لحركة التطور.
وهناك من يُرجع كل المشكلات التي يعيشها المسلمون إلى اليوم الذي انتقل فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، عند انشقاق المسلمين إلى أكثر من فريق، فالأنصار قالوا للمهاجرين "منا أمير ومنكم أمير" في حين قال المهاجرون إن هذا الأمر "الخلافة" محصور في المهاجرين وفي قريش بالذات، وهؤلاء انقسموا إلى فريقين، منهم أيد السقيفة التي بايعت أبا بكر الصديق ومنهم الذين قالوا إن الخلافة لعلي بن أبي طالب، وكل هذا يؤكد أن الرسول الكريم لم يوص بالخلافة لأحد من بعده، لا في خطبة الوداع ولا في مناسبة قديمة أو لاحقة.
وبعد تولية الخلافة لأبي بكر الصديق، ارتدّت قبائل عربية كانت حديثة عهد بالإسلام، حتى دانت له الجزيرة العربية بكاملها، والعراق وبلاد الشام، وعندما تولى الخلافة من بعده عمر بن الخطاب، استقرت أمور الدولة الجديدة وبدأت تبحث لنفسها عن فرص لتنظيم دواوين الدولة على أسس صحيحة، ولكن أول فوضى اندلعت في تاريخ الدولة الإسلامية اندلعت مع اغتيال الخليفة الثاني، الذي أوصى بلجنة من صحابة رسول الله صلى الله وسلم، لتختار من بين صفوفها الخليفة الجديد، ولأن عمر بن الخطاب كان يعرف ما يدور في خلد لجنة الشورى فقد حدد لهم زمنا للخروج بالاختيار، وأمر أبا أيوب الأنصاري بمراقبة ذلك وضرب عنق من يخرج على الإجماع، فتم اختيار عثمان بن عفان خليفة ثالثا، الذي انتهت خلافته بالفتنة الكبرى التي ما تزال فصولها تضرب نظام الحكم الإسلامي بالصميم، وبعد اغتيال بن عفان بعد حصار "الثوار القادمين من مصر ومن العراق" اختار المسلمون الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، الذي واجه عدة أزمات عاصفة، أهمها الاقتصاص من قتلة عثمان بن عفان، ولما تأخر في ذلك لحجج رآها منطقية، خرج عليه الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، والسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فوقعت معركة الجمل، وانتهت المعركة بانتصار جيش علي، وقتل من الطرفين خلق كثير، ثم شق معاوية بن أبي سفيان عصا الطاعة وأعلن إقامة الدولة الأموية، فوقعت معركة صفين، التي انتهت بخرج قوم من جيش علي هم الخوارج الذين كفّروه وكفّروا الكثير من المسلمين، واستمرت حركتهم زمنا طويلا حتى استطاع الحجاج بن يوسف الثقفي هزيمتهم، ولكنهم ظلوا كالنار تحت الرماد، وما زال فريق منهم إلى يومنا الراهن وهم أتباع المذهب الأباضي، الذين يعيشون في سلطنة عُمان وهم الذي تنحدر منهم العائلة السلطانية.
فالتاريخ الإسلامي لم يشهد فترة استقرار طويلة لأي حكومة حكمت دولته، فهل نتوقع أن تنتج فترات الاضطراب السياسي أفكارا للتخطيط العلمي لبناء دولة مدنية؟ تفضي إلى انتاج المخترعات التي أنتجت في أوربا وما زالت الأساس الراسخ لكل الصناعات القائمة حاليا، أو التفرغ للبحوث والدراسات المماثلة لتلك التي أدت نهضة أوربا التي بدأت منذ عصر النهضة الذي بدأ مع انهيار الدولة الإسلامية.
-------------
يتبع
للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
https://algardenia.com/maqalat/65539-2024-11-09-11-03-28.html
441 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع