محمد حسين الداغستاني
قراءة في كتاب ( داغستان بلدي) للشاعر رسول حمزاتوف
العالمية تبدأ من عتبة الدار
يبقى النفاذ من الطوق المحلي نحو الفضاء العالمي الواسع هاجساً يخفق في افئدة معظم الكتاب والشعراء والفنانين ، أن هذا المقصد يبقى توقاً مشروعاً يصطدم بمصدات واقعية لها صلة بالنسق الادبي والفني المنغلق على الذات ، والعاجز عن ملامسة تجليات وهموم وتطلعات الانسان المعاصر حيثما يكون ، وطرح مادة تفتقر الى معايير جمالية تستمد روحها من الاصالة والتراث والفخر بالمنجز الحضاري الانساني المحلي العابر للحدود ، فضلا عن إيلاء الكثير من النقاد إهتمامهم بمعضلة اللغة والترجمة ومعوقات التوزيع وغيرها ، لكن هذه الاشكاليات لم تثن عزائم مبدعين افلحوا في تخطي وتجاوز عزلتهم المحلية ووجدوا لنتاجاتهم قاعدة عريضة من المتابعين حول العالم ، ونالوا بها أرفع الجوائز متخذين سمات المحلية جسرا للعبور والإنتشار امثال غابريل ماركيز غارسيا وباولو كويلر وديستويفسكي ونجيب محفوظ ومحمود درويش وشاعر داغستان الكبير رسول حمزاتوف والعشرات غيرهم .
وبإستعراض تجربة رسول حمزاتوف نجد أنه صدرت له مؤلفاته الكاملة خلال سنوات حياته (1923 م – 2003م) في 18 مجلدا ضم فيه اربعين مؤلفا بلغته الأم الآفارية وهي لغة قريته الصغيرة (تسادا) القائمة على جبل عال من جبال داغستان ، وثمانية مجلدات باللغة الروسية , بدأها في العام 1994 بديوانه ( الحب الحار والكراهية المحرقة ) وأختتمها بديوانه الشعري الموسوم ( المهد والوجاق) مرورا بدواوينه (قلبي في الجبال) و (نجمة داغستان) و( علي يغادر الجبال) و ( أغاني الجبال) و(عند الموقد) وغيرها . لكن هذه اللغة المحلية لم تحول دون تمدده المدهش نحو العالمية حيث تمت ترجمة كتبه الاربعين الى معظم لغات المعمورة ومنها العربية . وكانت مؤلفاته قادرة على الارتقاء به إلى مستوى كبار شعراء العالم ليقف في صف واحد مع ناظم حكمت و نيرودا ولوي أراغون وغيرهم ، وحافزة لحصوله على جوائز عديدة منها جائزة الدولة السوفيتية وجائزة لينين عن ديوانه (النجوم العالية) وجائزة بوتيف الدولية وجائزة نهرو كما ونال لقب (شاعر الشعب) ، وعندما احتفل العالم بميلاده الستين، منح في روما جائزة (شاعر القرن العشرين) على إبداعاته الشعرية ذات النفس الإنساني وبخاصة على قصيدتيه (هيروشيما) و(صلاة) . وازيح الستار عن نصب تذكاري كبير له في وسط العاصمة الروسية موسكو في العام 2013 . وكان عضوا في مجلس السوفييت الأعلى ورئيسا لاتحاد كتاب روسيا ، لكن كتابه (داغستان بلدي) تفوق على كل المسميات والمؤلفات ليبقى خالدا يزين خزائن و مكتبات الملايين في أرجاء الدنيا .
يتحدث حمزاتوف في كتابه (داغستان بلدي) عن تجربته ويرى بأن اعتزازه بإنتمائه المحلي وحديثه عن سمات هذا الانتماء هو الذي ألهمه الطاقة الروحية ليفجر في داخله روح الانطلاق والابداع بعيداً عن داغستان :
(هل يعرف الناس هناك في البلدان الأخرى، بوجودنا، بأننا نعيش على وجه هذه الأرض؟ وأجيبهم. ومن أين لهم أن يعرفونا إذا كنا نحن لا نعرف أنفسنا كما يجب ! نحن مليون مكدسون في كتلة صخرية من جبال داغستان ، مليون إنسان وأربعون لغة مختلفة. أنت تحدث عنا، تحدث إلينا عن ذواتنا وحدث الآخرين الذين يعيشون في كل أرجاء الأرض عنا ، وعن تاريخنا المكتوب خلال قرون، الخناجر والسيوف. ترجم إلى لغة الناس هذه الكتابات فإن لم تفعل هذا أنت المولود في قرية تسادا، فلن يفعل ذلك أحد غيرك) .
لكن إنطلاقته الأولى نحو ذالك العالم المجهول الغريب محفورة في ذاكرته فيقول: ( يوم غادرت لأول مرة في سفر وضعت أمي على النافذة مصباحاً موقداً ، كنت أسير وألتفت ثم أسير، لكن ضوء بيتنا كان يتلألأ خلال الضباب والظلام. لقد ظل هذا النور في النافذة الصغيرة يضيء لي سنوات طويلة كنت فيها أجوب العالم. ولما عدت إلى بيت والدي ونظرت من هذه النافذة ، من داخل البيت رأيت كل العالم الواسع الذي استطعت أن أجوبه في حياتي ! )
ومثلما يحرص المبدع في إيصال رسالته الانسانية الى الأمم والشعوب الأخرى فعليه أن يدرك مدى مسؤوليته في نقل محصلته بعين مفتوحة الى شعبه وناسه وأهله ، وهكذا تتلاقح الثقافات وتنمو الحضارات وتغدو اداة لفتح المصاريع على التجارب الانسانية الأخرى . يقول حمزاتوف بهذا الصدد :
(على كل إنسان أن يفهم منذ صباه أنه أتى إلى هذا العالم ليصبح ممثلاً لشعبه ، وعليه أن يكون مستعداً لتحمل أعباء هذه المهمة. الإنسان يعطى اسماً وقبلقاً وسلاحاً، ويلقن من المهد أغاني بلده. وحيثما رمتني الأقدار أشعر دائماً أني أمثل تلك الأرض وتلك الجبال وتلك القرية التي تعلمت فيها أن أسرج حصاني. إني أعتبر نفسي حيثما كنت مراسلاً خاصاً لبلدي داغستان. لكنني بالمقابل أعود إلى بلدي داغستان كمراسل خاص للثقافة الإنسانية كلها وكممثل لبلدي كله ، حتى للعالم كله ) .
الخصوصية وفرادة الاداء
ومنطلقا من هذا المفهوم تغدو الخصوصية المحلية الضيقة عامل ارتداد وانكفاء وتراجع يجعل الانسان أسير واقعه بسلبياته وأمراضه الاجتماعية والسايكولوجية ، وعلى العكس من ذلك فإن الخصوصية في جانبها المضئ ليس مثلمة بقدر ما هي عامل ايجابي يحفز الانسان على الفرادة في التفكير والأداء والتميز وهذا ما ذهب إليه الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير في مقولته الشهيرة (كن رجلا ولا تتبع خطواتي) وبذات المعنى قال حمزاتوف :
( يجب أن يكون للإنسان موقده يشعل فيه النار بنفسه. الممتطي جواد غيره سينزل عنه طال الوقت أو قصر وسيسلّمه لصاحبه. لا تسرجوا أفكار الآخرين، بل ابتكروا لأنفسكم أفكاراً خاصة. أجرؤ على تشبيه الأدب بالطنبور ، والكتاب بالأوتار المشدودة عليه ، لكل وتر منها صوته ورنينه لكنها كلها تؤلف اللحن) .
وحالما انطلق رسول حمزاتوف ابن القرية الصغيرة في رحلاته المتتابعة الى الامصار والاقاليم والبلدان أدرك أنه لا يستطيع الفكاك عن داغستانيته ان صح التعبير فالبنايات الشاهقة والشوارع العريضة والنساء والاشجار وعنفوان الحركة والحياة لم تفلح في تغييب وطنه الحبيب عن ذاكرته :
( فلتغفر لي معابد الهند وأهرامات مصر وكاتدرائيات إيطاليا، ولتغفر لي طرقات أميركا العريضة أرصفة باريس وحدائق إنكلترا، وجبال سويسرا، لتغفر لي نساء بولونيا واليابان وروما - لقد نعمت بالنظر إليكن لكن قلبي كان يخفق بهدوء، وإذا كان خفقه قد ازداد، فليس بالقدر الذي يجف فيه فمي ويدور رأسي. وأخذت أبحث عنه في كل مكان ..... وفكرت في داغستان وأنا في أفريقيا التي ذكرتني بخنجر لم يشهر إلا ربعه من غمده. وفكرت في داغستان وأنا في بلاد أخرى في كندا، وإنكلترا وإسبانيا ومصر واليابان وكنت أبحث فيها إما عن أوجه الاختلاف وإما عن أوجه الشبه ) .
ومن جميل المقارنة التي يجريها حمزاتوف بين طرقات مدن العالم الكبيرة ومعالمها المبهرة وبين طرقات قريته (تسادا) الصغيرة بمبانيها ودورها المتواضعة ، فيشد القارئ تمسكه بدروب الأخيرة ورجحان كفتها فيتملكه الدهشة والعجب لهذا الانحياز الكلي والتام للبساطة تجاه الملل من الفخامة والرفاهية إن لم يأخذ بالحسبان الأبعاد النفسية للدفق العاطفي القوي الذي يعبر محددات الجغرافيا والزمان ليجرد الاشياء والموجودات من معانيها السطحية وينحاز الى القلب العاشق لتنور الخبز والرجال المسنين الذين يقتعدون كراسي المقهى الواقع على طرف ساحة القرية ، واصوات الاجراس المعلقة على رقاب الخراف المنتشية بالعشب الاخضر الممتد على مد البصر :
(أجل أنا أحب التجول في المدن الكبيرة سيراً على الأقدام. ومع هذا، فبعد خمس أو ست جولات طويلة تبدأ المدينة تأخذ شكلاً مألوفاً، وتخبو رغبة التجوال فيها بلا نهاية. وها أنا ذا أسير للمرة الألف في أزقة قريتي ولا أشبع ولا أمل السير فيها ....قريتي العزيزة تسادا ، ها أنا ذا قد عدت إليك من ذلك العالم الضخم الذي رأى فيه والدي هذا العدد الكبير من العيوب. لقد جبته ، ورأيت فيه الكثير من العجائب. لقد زاغت عيناي من فيض ما فيه من جمال دون أن تعرفا أين تستقران كانتا تنتقلان من معبد رائع إلى آخر ومن وجه إنساني رائع إلى آخر، لكني كنت أعرف أنه مهما كان الذي أراه اليوم رائعاً، فسأرى الغد ما هو أروع منه .. فالعالم، كما ترون، لا نهاية له ).
نعم أن العالم كبير ولا نهاية له لكن هذا العالم الشاسع يبدأ من شلال ماء بارد في قريته تسادا ووفق ما يشعر ويحس ويرى حمزاتوف لا يجاريه رشاش الماء في اجمل قصور العالم :
(في كل خطوة ألتقي بنفسي بذاتي بطفولتي، بفصول الربيع التي مرت بي بالأمطار والأزهار وأوراق الخريف المتساقطة. أتعرى وأعرض جسدي للشلال المتلألئ تياره المتدفق من صخرة إلى صخرة يتناثر ثماني مرات ثم يتجمع من جديد ليتكسر أخيراً على كتفي ويدي ورأسي إن الرشاشة في فندق القصر الملكي في باريس لعبة من اللدائن تافهة إذا ما قورنت بشلالي البارد هذا ).
يقول د. إبراهيم اسطنبولي في كتابه (رسول حمزاتوف، مختارات شعرية ) : حين كان العالم يتعطَّش للكلمة الشعرية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين ، كان الناس يأتون إلى أمسياته الشعرية كما يذهبون اليوم لحضور مباراة بكرة القدم . كانت الصالات الكبيرة والضخمة تكتظُّ بالناس عندما كان يقرأ أشعاره. وهذا بالطبع كان يعود للشعبية غير العادية للكلمة الشعرية عند رسول، تلك الكلمة التي كانت البلاد بحاجة إليها وكانت تنتظرها)
و يقال ان الفلاسفة لا زالوا ينصحون السياسيين الراغبين بتعلم فن إدارة شعوبهم وفق رؤواهم ضرورة وضع نسخة من كتاب (الامير ) لميكافيلي تحت مخدات نومهم رغم انه مؤلف منذ العام 1513م ، لكن كتاب (داغستان بلدي) الذي طبع منه ملايين النسخ هو الآخر يستحق بإمتياز أن يكون رفيق الادباء والشعراء بل والقراء أينما كانوا وعلى مر السنين ليستلهموا منه قداسة الانسان والوطن، وقدرة بساطة الدار المعجونة بالنبض الحي على لتحليق بتجلياتها بدءً من عتبتها وانتهاءََ بفضاءات الدنيا كلها .
2198 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع