بقلم : يوسف ناصر
أمسِ، وأنتم نيام ،واللّيل هاجع فوق السّفوح والقمم التي تحيطك بكم ، سمعتُ صوت نفير يهتف ويجول في دروبكم ، بين حاراتكم وبيوتكم، وأزقّتكم وينادي : " أيّها النّيام من بني قومي في كلّ قرية ومدينة..! هيّا استفيقوا ، واسمعوا النّبأ الرّهيب الّذي جئت للوقت أحمله من أجل خلاصكم :
إنّ عينًا من عيون الماء الموبوءة التي تعوّدتم منذ عهود أجدادكم أن تذهبوا إليها كلّ صباح لتمتاحوا منها بدلائكم، وتملؤوا جِراركم ، وتستقوا منها وتسقوا أبناءكم وأحفادكم ، تحمل لكم طاعونًا مميتًا يخبّئ لكم الموت في أجسادكم ويفنيكم ، لتكونوا وحدكم الموتى الّذين لم تحِنْ آجَالهم بعدُ في هذا العالم..!
.. انظروا ترَوا هذا الطّاعون قد تفشّى منذ أقدم العصور بكم، وسطا على قراكم، ومدنكم ، وكلّ عاصمة من عواصمكم، وبفعل هذا الطّاعون يأمركم أمراؤكم، ويملِككم ملوككم الّذين غدت بهم أمّتكم أُمّةً شلاّءَ بين الأمم، وابتعدت من موكب الأمم المتحضّرة آلاف الأعوام إلى الوراء في مسافات الجهل والتخلّف ..!
أيّها النّاس! قوموا طهّروا عقولكم بالنّار، وقطّعوا ألسنتكم التي ما زلتُ أسمعها تردّد منذ عصور :" وَهَلْ أَنَـــا إِلاَّ مِنْ غَزِيّةَ إِنْ غَوَتْ..*"..! لتعلموا أنّكم منذ ذلك الحين لم تكونوا إلاّ غزاةً لأنفسكم وحدكم ، ومنذ ذلك الحين غزاكم الجهل دون غيركم من الأمم، فوقعتم في الهاوية العميقة تحت كلّ ذل وهوان..! فانظروا ..! هي ذي الحرائق تبتلع قراكم، ومدنكم.! والمجاعات تأكل أولادكم ، والمذابح تمطر دمًا غزيرًا في بلادكم ، والمقابر لا تتّسع بطونُها لضحاياكم بعد أن خرجت رائحة دم المرأة البريئة كريهةً من سمعتكم ووصلت أقاصي الشّعوب والأمم..!
.. إنّها تقتلكم إذ تجعلكم تقترعون وليّ أمركم اتّقاءَ العصيّ والرّصاص رهبةً .! فتَدَعُ الضعيف بينكم يسوس أمركم ظلمًا بفضل كثرة رجاله، وعشيرته، وماله ، لا القويّ بعقله، واستقامته، وحسن انتمائه لوطنه الأصغر قريته ، ومدينته، وبلاده، فتجعل غير المستحقّ بينكم مستحقًّا ، والمستحقّ محرومًا يتلهّى بأحلامه النّازفة وآماله الذّابلة..!
يا إخوة.! هي تلك الّتي لا يتدثّر بعباءتها إلاّ من يكون عاريًا من كلّ كساء دونها، طلبًا لزعامات رخيصة، أنتم تكونون ولائمها الشّهيّة..! ولا يتفيّأ بظلّها إلاّ مَن ليس له ظلّ سواها رغبةً في وَجاهات كاذبة أنتم تكونون موائدها الدّسمة في هذا المأتم الدّائم..!
أقول لكم: إنّ قربى الفكر والرّوح والخُلُق السّامي بين النّاس خيرٌ من قربى الدّم واللّحم والعظم في هذا العالم .! لذا ، قوموا من الآن وابحثوا عن أقاربكم المفقودين بينكم .! وإنّ صوت الحقّ والعدل والضّمير أحقّ أن تسمعوه من صوت التّقاليد البالية الّتي تحيا تحت ثيابكم في لحمكم ،ومن دفق العادات الحمقاء الّتي تجري في أنهار شرايينكم ولا تنضب ..! لذا قوموا افتحوا أبواب عقولكم ونوافذ ضمائركم أمام صوت الصّارخ في بريّتكم كي يبزغ الفجر عليكم وتراكم الشمس مرة بين الأمم .!!
بلى..! إنّها تغمض لكم عيون عقولكم عن الحقّ فلا ترونه، وتسدّ آذان ضمائركم عن العدل فلا تسمعونه، تهدّم بنيان وحدتكم.! تجعلكم أعداء وأنتم إخوة.! وتحرمكم طعم الحرّية في حقّ الديمقراطيّة عليكم وحقّكم عليها، بل تجعلكم عبيدًا أذلاّء حين تستعبد أدمغتكم وتسترقّ عقولكم في أشدّ أنواع العبوديّة تدميرًا للشّعوب في هذا العالم..!
يا إِخوتي ..! إنّ الأمم التي تعوّدت عبر تاريخها الطويل أن تحمل فوق رؤوسها حاكمًا جائرًا يلوّح بالسّيف دائمًا، لا يسقط السّيف من يده إلاّ على تلك الرّؤوس التي تحمله، لتحيا أبد الدهر خرساءَ مقطّعةَ الألسن من رعبها ، وعاقرةَ العقول والقرائح، وعرجاءَ الهمم والعزائم من ذعرها، لا تبدع يومًا ولو امتدّت أعمارها دهورًا فوق هذه المسكونة..!
..حرّروا أنفسكم من عبوديّتها ، ولا تخافوا !! لقد سقطت بحد السّيف رؤوس كثيرة في هذا العالم ثمنًا لحريّتها، لكنّ فكرها لم يسقط طوال الدهر، بل بقي حيًّا يملأ كلّ رأس في هذا العالم..!! حين لم يقبل أصحابها أن يكونوا خرفانًا في قطيع يسير به الرّاعي أينما يشاء..! وماذا يبقى من الإنسان إنْ ذهبت عزّته وكرامته غيرُ أرجل تمشي.. وأيدٍ تتحرّك.. وجسد يجوع ويأكل..!
..أين المرأة لا أراها بينكم ..؟ أمّكم وأختكم وابنتكم !! تلك التي خرجت جبالكم من أحشائها.! ورضعت كواكبكم من صدرها.! ونشأ تاريخكم في حضنها.! الويل لكم .!جاءت جموعكم إليّ وأبقيتموها هناك وحدها نائمةً تمشي ..! السلاسل في لسانها، والقيود في قلبها !! أقول لكم : لن تكون لكم نجاة من هذا البحر الصّاخب ما دمتم تحرمونها أن تكون ربّانًا معكم في السّفينة المتّجهة نحو الشاطئ..!
إنّي أناديكم!! وأصرخ في بريّتكم !! لا تخرجوا من الآن إلى ذلك المنبع الآسن..!! بل حطّموا جراركم، وكسّروا كؤوسكم حتّى تستعيدوا العافية لمجدكم ، وتسترجعوا الأنفاس لتاريخكم ، وتأمنوا غدًا رغيدًا ومستقبلاً بهيجًا لأبنائكم ..!
اعلموا أيّها الناس.! ليس طاعونكم ذاك إلاّ العصبيّة العائليّة والطائفيّة الوبيئة بينكم..! وحَسْبي هنا ، رفقـــــــــــــــــــًا بكم ، أنّني لا أبوح لكم الآن بكلّ الطّواعين الأخرى الكثيرة التي تستعذبون شربها من كؤوسكم مترعةً ..! ذلك كي لا أسفح اليوم دمكم بحدّ هذا القلم..!!
* قاله الشّاعرُ دريدُ بنُ الصِّمّةِ
وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزيِّةُ أَرْشُدِ
1134 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع