وقائع: ندبة في جبين السياسة المغبر

                                          

                             د.سعد العبيدي

يصفه الرفاق وفيا لمبادئ الحزب، يصف نفسه الابن الشرعي لهذا الحزب، يفتخر يوم كان التصفيق للقائد يصم الآذان أنه قد صفق صغيرا، شرب المبادئ برعما، يقدمه مدير المدرسة الابتدائية على باقي الطلاب في الاصطفافات الصباحية، يهتف للحزب، صوتا مميزا من ينبوع طفولة غادرتها العفوية مبكرا. يعتز برئاسته فرع الاتحاد الوطني لطلبة العراق في الثانوية المركزية بمدينته الجنوبية، حياته هي الحزب وحزبه هو الحياة.

التسلق الى الاعلى أيام الدراسة الجامعية في المستنصرية أسهل بكثير من ايام الثانوية. مؤهلاته بلاغة كلام، تحسس عال لما يريده الكبار، ولاء مطلق لصاحب الصورة المعلقة في أعلى المكان، توصله عضوا بارزا في قيادة التنظيم الطلابي لكل العراق، قبل أكتمال سن الثالثة والعشرين. يقول عنه الرفاق المنتشرين في أقبية المستنصرية وقاعاتها المخصصة للمحاضرات كم هو محظوظ.

لا يوافقهم الرأي، الحظ لا يلغي قيمة الاخلاص الى صاحب الصورة، مثله الاعلى في الحياة.

مراسيم التخرج في المستنصرية بسيطة في عام الحرب التي أنهى فيها الرفيق عزيز دراسته الاولية في التربية، يحتج على فعاليات يؤديها الخريجون فرحا بتخرجهم.

لم يشارك فيها.

لم يحضر فقرة الصورة التي تجمع خريجي الدورة، لتحسسه خلوها من الاستعراضية السياسية التي لبسته تماما.

الدراسة وسيلة أنتهت أيامها، والحرب وسيلة أخرى بدأت مشوارها. اليوم الاخير في المستنصرية حافل بمشاعر الفراق، وقلق الحياة العملية. الرفيق عزيز يجمع عشرة خريجين من تنظيمه الطلابي، يتجه بهم الى فرع الحزب، دون معرفتهم بالنوايا، ودون النقاش بالدوافع، تيمنا بالشعار الدارج آنذاك "نفذ ثم ناقش". يصر على مقابلة أمين السر. يطلب قبل ذهابه الى العائلة، الالتحاق الفوري بصفوف المتطوعين الى الجيش الشعبي، لا يريد الانتظار حتى أكتمال اجراءات السوق الى الخدمة العسكرية مع مواليده أصوليا.

الحرب لا تحتمل انتظار.

الخطر الآتي من شرق الحدود لا يبيح أي انتظار.

الشباب مشروع استشهاد. حكمةٌ قالها الرئيس صاحب الصورة، لابد من تنفيذها عمليا دون أنتظار.

يستدعي أمين سر الفرع، رفاقه لاجتماع سريع، يشيد بالشباب وقائدهم الرفيق عزيز، يتصل بالقيادة القطرية نزولا عند رغبتهم. يأتي الرد بنفس سرعة الاتصال، "يطلب الرئيس مقابلتهم في الحال". يبارك خطوتهم شباب يمثلون العراق الجديد، يشيد بالرفيق عزيز قائدا مثاليا لجيل جديد.

يرتفع صوت الرفيق عاليا، يهتف بحياة الرئيس. الزملاء في غمرة ذهولهم يستحثونه لمزيد من الهتاف، يصفقون له بانتباه وتعاطف أو برثاء واشفاق، يكتفي الخجولين منهم

بهز الرؤوس تأييدا لمعنى الهتاف. يقطعه صوت الرئيس صاحب الصورة المعلقة فوق كرسي الرئيس:

- نعم رفيق عزيز ما هي أخبار الدراسة؟

- خبرنا ما عند الشباب من مشاريع وطموحات.

- سيدي الرئيس، أطال الله بعمرك. لا فائدة من الدراسة اذا لم تفضي الى خدمة الوطن، ولا قيمة للشباب اذا لم يضحي من أجل القائد والوطن. لقد أنتظرنا يوم التخرج، ليس فرحا بالشهادة بل استعجالا للمشاركة في قتال الاعداء الطامعين بهذا الوطن.

- عفية!.

يرتفع صوته ثانية، يزيده الحماس أرتفاعا حتى ملأ القاعة المزينة بالمرمر الايطالي، والسجاد العجمي الفاخر بالهتاف والتأييد. يأخذ جرعة أستحسان من لدن الرئيس، يفهمها جيدا، يكمل ما بدأه.

- سيدي الرئيس، حفظكم الله ورعاكم. نحن الشباب نعيش على أمل واحد لخدمة القائد العظيم، في المجال الذي نستطيع فيه تقديم الخدمة. اليوم سنقاتل العدو الغاشم، وسننتصر بقيادتكم الرشيدة، وفي الغد سنحمل فكر القائد العظيم، نبحثهُ في الدراسات العليا، نتعلم فن تدريسه للاجيال التي تأتي من بعدنا. أملنا خلوده فكرا، لم يأتي مثيله فيما سبق، ولن يأتي مثيله فيما يلحق.

- عفيه، بارك الله فيك، هكذا هم العراقيون، مبدعون أينما يكونون.

- رفيق عزيز، أنت تعرف والشعب يعرف أهمية القادسية التي تدور رحاها مع الاعداء، ولكي تتشرف بهذه الخدمة العظيمة، لابد أن تلتحق بالجيش العراقي العظيم أولا، تبقى لمدة سنة، تذهب بعد اتمامها في بعثة لدراسة الدكتوراه في الجامعة التي تراها مناسبة. بارك الله فيكم شباب العهد الجديد.

تبدأ السنة العسكرية بدورة مدفعية لثلاثة أشهر في معسكر المحاويل، تعقبها أخرى لاغراض الرصد المدفعي بنفس المعسكر، وأخرى لآمري الرعائل كذلك في المعسكر، لتنتهي باجمالي عدد أيام التواجد الفعلي بجبهة القتال بما لا يزيد عن الشهرين.

الوجهة بريطانيا، الجامعة كاردف، المعروفة بسهولة منحها الشهادات العليا للاجانب المبعوثين. سنوات الابتعاث الثلاثة، مع أخرى مخصصة لدراسة اللغة تنتهي، تعقبها سنة تمديد بصلاحية الوزير كذلك تنتهي، باب الرئيس المغرم بالهتاف مفتوحة للمتسللين صيادو الفرص، يطرقها بتقرير حزبي، يبتدع شرحا لعراقيل يضعها البريطانيون أمام الدارسين الحزبيين، يحصل على التمديد الأستثنائي سنتين بأمر الرئيس.

العراقيون يغطون جميعا في نومة اللحود، تحرس قبورهم دوريات الشرطة ومفارز الجيش الشعبي، أيقضتهم أصوات التكبير بانتهاء الحرب، وتوقف لهيب القادسية، يتنفس الدكتور عزيز الصعداء، يناقش رسالته سريعا ويعود الى الوطن سريعا، يعمل مدرسا لمادة الثقافة القومية في كلية المعلمين حسب توجيهات الرئيس. يبدع بها متكئا على فكر القائد وأقواله التي لا تحصى. يرتقي الى عضوية قيادة الفرقة، رفيقا ملتزما على وفق المقاييس الحزبية التي كانت سائدة آنذاك.

العد التنازلي لانهيار العراق دولة قائمة تزداد سرعته بعد العام 2000، تكتمل الصورة يوم 20/3/2003 بهجوم الحلفاء من عدة محاور، يفقد الرفيق عزيز السيطرة على أعصابه، يشعر بهواجس في داخله تجثم على قلبه، تطارده باستمرار، تحيل ليله الطويل الى صحارى أرق وهموم. كلمات المسؤولين تثير خوف تفترسه الذكريات والافكار يراها سكاكين حادة تقطع اوصاله. اطلالاته على المجهول من تاريخ هذه البلاد المكونة من حطام مدافع ودبابات وجماجم وتقارير رفاق تثير القشعريرة الباردة في روحه المتعبة، فتزيد اكتئابه الانفعالي حد اليأس من الحياة.

قوات الاحتلال تتقدم، بسرعة فائقة وسط بغداد، يخفت صوت الرفيق عزيز، يغادر الموقع المكلف بحراسته ومجموعة من الرفاق قريبا من الصليخ. يشعر في طريقه الى البيت وكأنه أمام عرش يتهاوى، قبل تلقي الضربة الاخيرة. ليلتها بقيَّ يتقلب أرقا يحاول أستنفار خبرته في الاستغلال ليتعرف على الكيفية التي يتخلص بها من محنته. يأتي الصباح يعود من أرقه وهواجسه وأفكاره الشائكة، يحمل بدلته الزيتوني، وبندقيه الآلية يرميهما في نهر دجلة، مؤمنا بقدرة هذا النهر على اخفاء اسرار من سبقه في طريق النضال الوصولي.

يتبخر باقي الرفاق، تمحى الاسماء، والشعارات، والمزايدات، من الذاكرة وتحل الحيرة وافكار الخلاص بمجرد سقوط التمثال وهروب الرئيس. تختلط المشاعر، بين التأمل والفرح، وبين التفكير بسبل الخلاص من أعباء الماضي اللعين، يسير الدكتور عزيز مساء اليوم الثاني لسقوط بغداد، في الطريق الى بيت المسؤول، تعتصر قلبه غصة، كيف يتخلص من المأزق الذي وضع نفسه فيه. يصادف بعض الوجوه والجدران التي تعوّدَ مصادفتها أيام الرياء، يتلقى التحايا العابرة من البعض، يردها باشارة من يده دون النطق بأي كلام. يقترب من الباب، يتلفت يمينا والى الشمال، يطرقها باستعجال، يقضي وقتا هشمه الطرق والترقب حتى فتحت بحذر من قبل الدكتور عبد الحميد.

- أبو ماجد، تخلصت من سلاحي، رميته مع بدلتي الزيتوني، حرقت كل الاوراق التي تؤشر انتمائي الى الحزب، جئتك راجيا أن لا تذكر اسمي حزبيا، لاني قطعت علاقتي به الى الابد.

قبل أن يجيبه المسؤول السابق على رجاءه، حاول تهدئته فلم يفلح، فتوجه الى تطمينه بالقول:

- من سيسألني؟. ثم اننا جميعا في نفس المركب، ومع هذا اذهب يحفظك الله، أنا لم أعد أعرفك.

ينتظم الدوام في كلية المعلمين، يحضر الدكتور عزيز في اليوم الاول، يؤكد أمام الحضور أصوله العلوية، وأنتماءه الى السادة الاشراف، يعززه بلحية خفيفة ومحبسين بأحجار زرقاء في اليد اليسرى، يعرض بها أمرا وزاريا بنقله الى رئيس قسم في كلية التربية.

حاول الاشارة أكثر من مرة الى الظلم الذي تعرضت له عشيرته وأبناء قومه من أهل الجنوب. يستلم رئاسة القسم، يفتح أبوابه مشرعة لمن يريد الدخول، ينقله فتح الابواب

الى منصب عميد الكلية قبل انتهاء الشهر، ومن ثم الى رئيس الجامعة بالوكالة بنفس سرعة الصعود.

منصب رئيس الجامعة، تم بتنسيب من الحاكم المدني للعراق، حضر لاستلامه في اليوم الثاني لصدور القرار، بموكب من عشر سيارات دفع رباعي وعشرون شرطيا يحيطون مشيته في ممرات توصله الى بناية المقر الرئيسي للجامعة. يحل العاشر من عاشور، يدخل العراق دائرة الحزن استذكارا لاستشهاد الامام الحسين عليه السلام، ينزل السيد رئيس الجامعة من مكتبه، لابسا السواد، يمشي في موكب جمعه مع أساتذة وطلاب يرتدون السواد، يلطمون في الحرم الجامعي، يستذكرون استشهاد الامام.

ينتهي الحزن، تمر الايام، تفتح أبواب الجامعة لمن يريد الدخول بلا ضوابط ولا أصول. رئيسها يقود حملة تسريح الاساتذة الحزبيين. يطلب لقاءا للتدريسيين في قاعة الاجتماعات، يدخلها مع أفراد حمايته المدججون بالسلاح، يبدأ اللقاء بكلمة عن اخلاصه لآل البيت وفضائلهم على الاسلام. يهم بالخروج، يصطف الى جانبه الدكتور عبد الحميد، يسأله المساعدة في استثناء عزله عن التدريس بسبب درجته الحزبية. يبعده الشرطي باشارة من عنده. يسلمه في اليوم التالي، كتاب الاستغناء عن خدماته الجامعية، حزبي لا مكان له بين الاخيار في العهد الجديد.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

588 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع