شاءَ مَنْ شاء ، و أبى مَنْ أبى

الدكتور رعد البيدر

شاءَ مَنْ شاء ، و أبى مَنْ أبى

يفشل الكثيرون في اختيار الاسلوب الأمثل للتصرف ازاء موقف غير مُتوقَع ، و تزدادُ الصعوبة اذا كانت حراجة الموقف بحضور وفود يمثلون بلدانهم في تجمع إقليمي ... بعد التمهيد المُبَسَط ، اسَلسِلُ ما اتوخاهُ بإيجاز .
كانت لي وقفات مُطوَّلَة خلال تصَفُحي لكتاب " جيش في الذاكرة " الذي أهداهُ لي مَشكوراً مؤلفه الأخ العزيز الفريق الركن ياسين فليح المعيني - معاون رئيس اركان الجيش للعمليات قبل احتلال العراق في نيسان 2003 .



عِشتُ معَ السَّرد المُفَّصل بالكثير مما يُمكن اختصاره بالنسبة للعسكري المُحتَرف - خصوصاً الضباط ذوي الرتب العالية - بالتحديد القادة والآمرين ، وعلى وجه الخصوص حملة شارة الركن ، ممن لا يحتاجون الى التعَّمُق بالتفاصيل الدقيقة لا سيما إذا كانت سياقات وليس اجتهادات . لكنني التَمِسُ العذر للمؤلف ؛ فشفيعهُ انه ليسَ كل القُراء على قاعدةٍ معرفيةٍ واحدة بمهنية الجندية المُحترفة - ضوابطاً ، تصوراً ، سياقات ، ردود أفعال ، مهارات أداء .... ومستوى تَحَمُّل للمسؤولية .
لا نَختَلفُ بكون الاختصار قاعدة من قواعد الكتابة الصائبة ، بذات التوصيف فإن الاختصار يتنافى مع التوَّسُع في المضمون ؛ لكن ربما يكون التوَّسُع مطلوباً ليُحقق وضوحاً لصالح القُراء غير المُختصين ، سيما أن الكتاب مطروح للتداول العام في المكتبات منذ سنوات ، وما بين يدي الطبعة الثالثة .
رغمَ تعَدُد العناوين الرئيسية والفرعية ، وتعاقُب الكثير من الحوادث المُهمة في الكتاب ؛ إلا أنني توقفتُ عند حادثة مهمة لم يتوَّسَع المؤلف في سطور كتابتها ، رغم معناها الكبير .
في عام ١٩٩٩ دُعيَّ وفد عراقي لحضور مؤتمر تدريبي تُنَظِمَهُ جامعة الدول العربية سنوياً ، يحضرهُ معاونو رؤوساء اركان الجيوش العربية في القاهرة .
مَثَّلَ الجانب العراقي الفريق الركن ياسين فليح المعيني معاون رئيس اركان الجيش للتدريب آنذاك ، والعميد الركن نبيل نجيب ضابط ركن في دائرة التدريب - الذي شَغلَ منصب أمين سر الدائرة برتبه لواء ركن فيما بعد.
مُدة المؤتمر أياماً قلائل ، تَعرِضُ فيها الوفود المُشاركة أوراق بحثيه في مجال التدريب العسكري لتطوير القوات المُسلحة كَخبراتٍ مُتبادَلة ؛ بالتالي تستفيد منها الوفود المشاركة .
في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر رَحَبَ الامين العام المساعد لجامعة الدول العربية بجميع الوفود المشاركة ، وقد هيأت اللجنة المُنظمة للمؤتمر ورقه بحثية لغرض المناقشة حول تمرين داخلي " معركة هاتفية " ... أطَّلَعَ المشاركون على الورقة البحثية ، وبدأت مناقشتها .
استأذن رئيس الوفد السعودي " اللواء عبد الرحمن المرشد " من رئيس جلسة إدارة المؤتمر قائلا : بأن جميع أعضاء الوفود العربية المشاركة لا تمتلك خبرة رئيس الوفد العراقي ؛ لذا استأذنكُم بأن يكون الفريق الركن ياسين المعيني هو المُتحدث الوحيد ؛ لتحقيق الفائدة القصوى من الورقة و المناقشة .
أيَّدَت الوفود المشاركة مُقترَح رئيس الوفد السعودي ، باستثناء رئيسا الوفد الكويتي وممثل مصر - البلد المستضيف ، ولكل منهما سببهُ ، فالكويتي مُمَثل الجيش المهزوم بساعات قليلة ، وممثل مصر ( بِتاع كُلو ، ويريد يكشَخ برؤوس الحاضرين ) .
شكَرَ رئيس الوفد العراقي رئيس الوفد السعودي على تلك المُبادرة ، وبدأت المناقشات ... وأخيراً اعتُمِدَت الورقة التي قدمها الوفد العراقي في المؤتمر .
تحدث السيد عصمت عبد المجيد الأمين العام لجامعة الدول العربية ووجَهَ الملامة للعراق باحتلال الكويت في 2 آب 1990، فتسبب بظرف إقليمي مَزَّق الصف العربي ، يبدو أن حديثهُ كان باتفاق مُسبَّق مع الوفد الكويتي ، أو مع جهات كويتية أُخرى .
  استئذان رئيس الوفد العراقي بالتعليق - رداً على السيد عصمت عبد المجيد فقال بما معناه - اذا افترضنا عدم الاختلاف في التشخيص ؛ فإننا نختلف على اسلوب الطرح وظرفيته المكانية والزمانية ، مؤكدا بالقول : سيادة الأمين العام كلمتكُم في غير زمانها ومكانها الملائمين ، وتمثل صَب الزيت على النار . ألا ترون من الأجدر أن يكون دوركم التخفيف من وطأة ما حصل بين البلدين الشقيقين - دون التطرق للدوافع والنتائج ؟ مرة ثانية -  أليس من الأجدر أن يكون دوركم تضميد الجروح بدلاً من نَكَأها وتعميقها ؟
حال انتهاء الفريق الركن ياسين المعيني من مُعاتَبته المُتزِنَة ( توبيخ بأدَب ) اعتذرَ السيد عصمت عبد المجيد . في فترة الاستراحة عانَقَ الفريق الركن المعيني ، وكرَرَ الاعتذار منه.
من يتصرف بهذه الوطنية ، الكياسة ، الخلق الرفيع ، وشجاعة الطرح الآني… يستوجب ان تصافِحُهُ جميع ايادي الشرفاء ، قائلين لهُ :بارك الله فيك ودمت عراقيا اصيلا " بَطَل الخفجي" .
مُجمَل الحادث سبباً ، ورد فعل ، ونتائج استوجَبت مني وقفة تأمل ، و استبدال أدوار - وتساءلتُ مع نفسي :
كم شخص سَيَقِف نفس الموقف الذي وقفَهُ الفريق الركن ياسين المعيني ؟
كم شخص سَيَقِف أشَّدُ مِن موقفهِ ؟
كم شخص سيتصرف بحدةٍ أخَّف ؟
كم شخص سيتصَرف بليونةٍ ؟
كم شخص ( سيَبلعها ويُسكُت ... من باب چَنَك مَتدري) ؟
يصعب التوصل إلى نتائج رقمية دقيقة نسبياً مهما كانت عشوائية العينة ، أو التَقَّصُد بإنتقاء فئاتها ؛  بمراعاة تباين عاملي المكان و الزمن ، بالتالي فأن النتائج المتوقعة ( لن تكون خالية من  الأخطاء ) كونها نتيجة ردود أفعال فردية ، لا يُمكن التَّكَهُن بها ، و تختلفُ من شخص إلى آخر.
مما سبق يتضحُ بأن البعض يَمُر بمواقف لن تتكرر مرتين ؛ فإن أحسَنَ التصرف سُجِلت لهُ ، و إن تعثَّر سُجِلَّت عليه ، وبعد مُرور الفرصة ، لن يستطيع المرء اعادة الزمن و لا الظرفية ، ولن يتمَكَنَ من محو موقفهِ ( السيء - المتخاذل - المُتردد ) من ذاكرة الآخرين ،  بالوقت الذي يحقُ لغيره ان يفخرَ بسلامة موقفهِ - اذا احسنَ التصرف الرجولي و القيادي ...
لكي أُكَمِم أفواه ( البعض ) و أكَّسِرُ أقلام ( البعض ) الآخر مِمَن لا يُحسنون عملاً سوى انتقاد الأفضل منهم – أشير إلى أنه يُشخَصُ على (البعض ) المُبالغة في طروحاته ومَدحهِ لذاتهِ اذا ارادَ التَحَّدُث عن موقف ما - دونَ دليل ؛ بينما المُتحدث او الكاتب الذي يشير الى حوادث مُسَماة بوضوح ، وتواريخ مُحَدَدَة بدقة ، اشخاص بأسمائهم ورتبهم ؛ فأنه يؤكد دلائل مصداقية لا غبارَ عليها ، و لا نكران لها ، ولن يعترض عليها سوى ( المُتطفلين ) والعاجزين عن مُماثلَتِه ، أو التفوق عليه .
أما المُغالطة فإنها ستُتيحُ سبيلاً يسيراً لمن حَضَرَ الواقعة بان يُفَّنِد المُغالطات خلافاً لما تحَدَثَ بها المُتحَدِث ، او كتبَ عنها الكاتب ، والظاهرة مُشخَصَة في مُتناقضات ( الصِدقُ والكَذِب ) التي اتضَّحَ من كثرتها - ان نصيب الثاني اكثر من نصيب الأول .

في نهاية المقال خطرت ببالي ( هوسة ) عراقية )( فزعنَهَ وشوف شما بينا )) حورتها إلى :


" وازينَهَ و شوف شما بينَهَ "
حيا الله الأخ الفريق الركن ياسين المعيني أبا عُمَر أحد ( المُجَّرَّمين ) على وطنَيتهِم ، شجاعتِهِم ، صراحتِهِم ، واستعدادهم الدائم للتضحية من أجل العراق العزيز ، و عُمراً مديداً بالبركة

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1142 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع