المنحوس ! .. قصـة بين الحقيقة والخيال

                                             

                                 

المنحوس! قصـة بين الحقيقة والخيال من كتاب قصص من التراث العراقي/ يبحث عن ناشر!  
تأليف أ.د.عبدالرزاق محمد جعفر

انني محـسن سـرحان أبخيِت, واسـم الدلع في صـغري" أمحيـِسن", وصارهذا الأسـم فيما بعد, ضـرباً من ضـروب السـخرية, نتيجة النحـس الذي لازمني منذ الصـبا, والى يومنا هذا,.. حيث صـار اي شـخص يخفق في عمله, يقول لزملائه: " حظي مثل حظ أمحيـسن !! "

  

 أمحيسـن
توفى والدي بعد ان اكملت المرحلة الأبتدائية في سـنة 1946 م , ولم اسـتطع اكمال دراستي في قريتي القريبة من قضاء الشطرة, واصـبحتُ المســـؤول الأول عن حماية الأســرة المتكونة من  والدتي واختي,حيث امتهنً بيع المنتجات الحليبية, مثل الروبه, (الزبادي), والكيمر,(القشـطه), والزبد,  في اســواق المدينة فجـًر كل يوم , اما انا فقد  تفرغت  لرعي الجاموس والبقر, وحلبها عندما يأتي المسـاء !

  

بلغت الثانية عشـرة من عمري, وتزوجت اختي من بن عمها, واقمنا لها عرسـاً وفق التقاليد والعادات المتبعة في الريف,..مرددين أغان بن الشطرة المطرب حضيري أبو عزيز ورقص شباب القرسة وزغردة النسوة بين الحين والحين !
    

المطرب حضيري أبو عزيز
ومنذ ذلك اليوم حـلً العريس محلي في الرعي,..ولذا تفرغت للعمل لتعلم اي صنعة اعوض فيها ما فاتني من التعليم المدرسـي,...اضـافة الى الرغبة في رفع دخل العائلة, وعلى اية حال , فقد زاولت عدة اعمال, كمتدرب لدى النجاراو الحداد اوالنداف,الا انني لم افلح في اي عمل من تلك الأعمال, حيث لم أسـتطع تحمل تصرفات ارباب العمل بسـبب اوامرهم القاســـية و كلماتهم  النابية, ولذا لم ارضـخ لأوامرهم,  فلفقوا لي تهما منوعة, واتهموني بالغباء وهكذا, كنت أفصـل من العمل, ولذا قررت العمل بالمهن الحرة, واشـتريت عربة حمِل و صـرت حمالاً عصـرياً !
كسـبت من مهنتي الجديدة مالاً كثيراً, فتحسـنت سـمعتي بعض الشـيئ,..الا ان ذلك لم يدم طويلاً,..فالنحـس رفيقي المخلص,ومن غير المعقول ان يتركني وحالي,.. وصـِرت  واياه ," وجهان لعملة واحدة !!"
   

منظر لمدينة الشطرة
وفي احد الأيام,.. دفع لي القدر زبوناً من ذوي المال والجاه في البلدة, وطلب مني نقل خزانة خشـبية (كنتور), ايطالية, و تحتوي على مرآة في غاية الجمال وغالية الثمن , من محطة الســيارات (الكراج),الى داره  في ضــاحية المدينة,..فنفذت ما طلب مني فرحاً, حيث حلمت بأجرة عالية واكرامية سـخية!
توجهت ادفع العربة وحملها (الكنتور),  وكأنه عـروس تزف لدار زوجها,... مخترقاِ واياه  ازقة المدينة الضـيقة, ومجاري مياه الأمطار,..وفي لحظة حرجة  او قل, مشــؤمة,.. خرج طفل من بيته ليعبر الزقاق مســرعاً,..واردت تجنبه,..الا أن العربة انحرفت وانزلقت احدى عجلاتها في سـاقية المياه الآســـئه,.. وســـقط الكنتور,.. وتهشـــمت المرآة ارباً..ارباً,.. فذابت روح الرجل, وفـقـد صوابه,..اوقل تحول الى دُب أهوج, وراح يســدد لي الضـربات بالسـلاح الأســود (العكال), وأنا اســـتغيث واتوســـل به وبالذين من   حولنا,..ولكن من دون جدوى,..ومن دون ان ادري مددت يديً الى صـخرة كبيرة وهويت بها على رأسـه, ..وكف عني,.. ولا ادري ما حدث له,.. الا انني وجدت نفسـي في الموقف,مكبلاً" بالكلبجة" :

                    

كان في المدينة حاكماً صـارماً,..فحكم عليً بالسـجن لعشـرة سـنوات, ونظراً لصـغر سـني,..ارسـلت الى المدرسـة الأصـلاحية في بغداد,..وفيها تمكنت من اكمال دراسـتي الثانوية, وحرزت على شـهادة البكلوريا بتفوق !
برزت قدراتي العلمية, ونلت اعجاب المدرسـين واثنت ادارة المدرسـة على
 حســن ســلوكي, بتقريرها الســنوي الى ادارة الســجون, مما حمل الســلطة على اطلاق ســـراحي قبل اتمام محكوميتي.
 وفي شـباط (فبراير), 1952م, افرج عني, وقررت العودة لأسـرتي, ووصلت  الى مسـقط رأسـي, في وقت متأخر من الليل, ولذا عرجت الى مقهى عبيد قرب الكراج

                  
 
ناظم بدعة الشطرة
للأسـتراحة والتفتيش عن احد المعارف لمسـاعدتي بحمل امتعتي ومرافقتي الى دار العائله في ضـاحية المدينة, او قضـاء تلك الليلة بضيافته حتى الصباح!  
وضـعت عـفـشـي جانباً, وبدأت اتطلع بالوجوه,..ولم اعثر على اي احد من معارفي,.. واخذت مقعداً في احدى زوايا المقهى, وشـعرت بفرحة بالرغم من المآســي التي واجهتها في هذه المدينة, في عهد الصـبا !  
بدأت احتسـي الشـاي ومـرً من امامي شـاب وزميله,..وسـمعت احدهم يقول للثاني,..شــســوي: " حظي مثل حظ امحيـسـن ! "
حمدت الله الذي جعل اسـمي مضـرباً للخائبين امثالي, وفرحت بقرارة نفسـي
لوجود بعض الشـباب الرافض لظلم  الفئة الحاكمة آنذاك,... وهاجت ذكرياتالعمل المهين والحرمان من التعليم مثل معظم اولاد المديتة , وعلى اية حال, تشنجت اعصابي , وكاد ان ينفجر دماغي,  فقررت الأنتقام من كل فرد اسـاء لي وبالخصوص, ذلك الحاكم الجائر الذي حكم علي بالسجن,.. ولم يحسـب اي حسـاب لظروف الجريمة او اسبابها.
زاد غيضـي, ورحت اقرأ بعض الآيات القرآنية, ..والكاظمين الغيـض,.. الى
ان وقعت عيني على لوحة جميلة على حائط المقهى, كتب عليها:
" ليـس من الحكمة الأنتقام,..بل الصـبر وانتظار الفرج "وأنشدت:
"ضاقت ولما استحكمت حلقاتها  فرجت وكنت اضنها لن تفرج"
سـرحت طويلاً مع الذكريات, ورحت اتطلع بوجوه الزبائن المنتشـرين في ارجاء تلك المقهى وهم كالأصـنام,..لا يحدث بعضهم البعض الا همساَ  قانعون بما هم عليه وغير مكترثين لكل ما يدورحولهم في هذا العالم الفسـيح اوقل:
" أنهم هادؤن كهدوء المقابر!!  "

كانت معظم العشـائر المحيطة بمدينة الشـطرة مـرتبطة بالشـيخخيون آل عبيد , والذي يتمتع  بسـطوة وجاه على كافة ابناء المدينة, حيث كان يعتبر الأب الروحي لهم, وكان عضـوا في مجلــس الأعيان وعلى صـلة وثيقة بالقصـر الملكي واركان الحكومة في بغداد منذ ثورة العشـرين ولغاية ثورة الرابع عشـر من تموز1958 م ,... وهكذا خطرت ببالي فكرة طرق باب  ذلك الشيخ, وتذكرت كيف كنت اذهب مع والدي الى مضـيفه, الواقع بأطراف المدينة.و نمت تلك الليلة في المقهى, وفي الصـباح الباكر توجهت الى دار العائلة,

                 

وكانت فرحة الوالدة عارمة, يصـعب وصـفها,..وبعد ان هدأت الخواطر, قمت بمسـاعدة الوالدة للتوجه نحو مركز المدينة لبيع ما انتج من الكيمر والروبه.
طلبت الأذن من الوالده بالذهاب لمقابلة الشــيخخيون , لكي  يسـاعدني في الحصـول على شـهادة حسـن السـلوك,... وعلى الفورايدتني  وشـــرحت لي بعض المواقف التي افتدى بها والدي لأحد ابناء عمومة الشـــيخ ,.. وعلمتنني على طريقة تحيتة,..ومكان  وقوفي عند التحدث معه, و اسـلوب كلامي معه !
لبسـت ذلك اليوم ملابسأ عصـرية وراقية جلبتها من بغداد, وما ان وصـلت برفقة والدتي واختي الى مركزالمدينة, حتى توجهن الى المكان المخصص لبيع  منتجات  القرويات, (العلوًه), ومن ثم توجهت  نحو قصــر الشـيخ.
تمت المواجهة وفق السـيناريو الذي اعدته لي الوالده, وعرفت الشـيخ الجليل بنفسي, ورحب بي, وترحم على والدي , وشـرحت له المصاعب التي اعانيها,  وبينت له ما انا بحاجة له,..فأمر احد اتباعه , وطلب منه كتابة توصـية لمعالي وزير الداخلية آنذاك, لكي اسـتطيع الحصول على كافة الوثائق اللازمة لأكمال دراستي والتي من اهمها شـهادة حـسـن الســلوك وعدم المحكومية.
 ودعت الشـيخ, وحاولت تقبيل يده,..فأبى... وقبل رأسـي, وحاول ان يدس بعض المال في جيبي, ... فأعترضت بكل ادب ودعوة له بالصحة وعلو المقام.
وفي المسـاء عاد الجميع من العمل, وشـرحت لهم ما توصـلت اليه من نتيجة باهرة سـوف تؤهلني لدخول كلية الطب او الهندسـة اوالقبول في بعثة للدراسـة
خارج العراق,..و سـُـر الجميع لتلك الأخبار, وتمنوا لي التوفيق لتحقيق رغبة والدي بأكمال دراسـتي لأكون عوناً لأبناء قريتي, وســهرنا تلك الليلة بسـعادة,  وبعد انتهاء السهرة, هيأت الوثائق الضـرورية, وبعض الملابس, ونام الجميع.
في صـباح اليوم التالي توجهت الى الطريق العام الذي يربط بين الشـطرة  وبغداد,  للسـفر على مـتن احدى ســيارات الحمل الخشـبية  التي تتوجه عادة في صـباح كل يوم لنقل  المواشـي او الأسـماك من القرى المحيطة بالمدينة الى بغداد,..بسـبب عدم توفر واسـطة للنقل العام رخيصة وسريعة مثلها آنذاك.
انتظرت فترة قصـيرة من الزمن, ولمحت من على بعد احدى السـيارات القادمة,  فأشرت لسـائقها, ..وتوقف , وبعد مسـاومة على السـعر وافقت على الصـعود على سـطح السـيارة,. وما ان اخذت مكاناً لي, حتى تحركت السـيارة,  و سـرحت مع احلام اليقظة, اجتر آلام الماضي وابتسـم للمسـتقبل الذي بزغ   في حياتي,... وعلى ما يبدو نمت فترة من الزمن, ثم شــعرت بزخة خفيفة من المطر ,..ثم بدأ ينهمر, وكما يقال: " اول الغيث قطر ثم ينهمر
لم اجد ما أقي به  نفـســي من البًلل غيرالأســتلقاء في داخل تابوت فارغ لمحته بجانبي, يسـتخدم عادة لنقل المـوتى الى النجـف الأشـــرف, من القرى القريبة من خط سـيرالحافلات, من باب الأحتياط, يسـمى, (تابوت وقـف).
رفعت  غطاء التابوت, واستلقيت فيه, واعدت الغطاء الى وضـعه السـابق,.. ونمت نوماً عميقاً,.. الا انني كنت اشـعر عند توقف السـيارة وصـعود القرويين على سـطحها , وكان بعضهم يقرأ سـورة الفاتحة عند جلوسـه بقرب التابوت, ..ولم اكترث لذلك, واخذت اسـترق السـمع لأحاديثهم, وارفع الغطاء قليلاً وامِـد يدي لأتعرف على حالة الجو,..وهل مازال المطر منهمراً,  أم توقـف ؟!
ولسوء حظي, مسـت يدي كتف احد الجالسـين بقرب التابوت, فنهض مذعوراً  وصـرخ بأعلى صـوته, الميت أحتيً , (اي ان الميت عادت له الحياة), وهمً ان يقفز من السـيارة,....فرميت غطاء التابوت ونهضـت محاولاً الأمســاك به,  فلاحظ رفاقه ذلك المشـهد,..ونهضـوا وشـاركوا في الصـياح:
" الميت أحتيً,....الميت أحتيُ,....الميت أحتيً "
توقفت السـيارة وهبط الركاب, وفروا مذعوريين نحو المزارع, بما فيهم السـائق,..فلعنت  حظي الذي انتكـس مرة اخرى, بعدما تنفــست الصـعداء لبضعة ايام ,... ولم اسـتغرب من كل ذلك, .. فأنا أمحيـسن !!
ترجلت من السـيارة حاملاً حقيبتي الصـغيرة, ولبست عبائة سـقطت من احد الفارين, والركاب ينظرون لي بخوف ودهشـة,  وعبرت الطريق  نحو الجهة المعاكسـة وانا اجري بحالة مـزرية,.... وبعد ان ابتعدت عن الركاب مسافة لا بأس بها لأتجنب شـرهم , وقفت ألعًن أمحيسن  وحظه ( الأكشـر).
وبعد فترة اقتربت مني حافلة نقل, (سـيارة نصف  قمارة), من آخرطراز  واطل منها سـائقها وطلب مني الصعود وقال: "هـلًه,...  بأبن العم !!"
جلسـت بجنبه وانا ارتجف كســعفة في مهب الريح, كما قال الجواهري:
كمركب تلوي الرياح به كلي = النسـائم اطراف الأفانينن  
كان السائق مرتدياً ملابسـاً في غاية الأناقة, ومعطراً بروائح عبقة, ...وما ان تحركت السـيارة حتى انهمر بأسألته الدقيقة عن كافة جوانب حياتي, وكنت  وكنت اجيبه بكل صـراحة.
بعد برهة وجيزة بدأ السائق يضـغط على ِزر امامه, ...ثم سـحب سـماعة ووضـعها بأذنه,..ثم راح يتكلم بلغة لم افهم منها اي شـيئ ! ......ثم طلب مني بطاقتي الشـخصـية, فسـلمتها له على الفور, وراح يتطلع بها, ثم ابتسـم ودسـها في صندوق صـغير امامه.
ارتبت من تصـرفات السـائق, وزاد خوفي, ورحت اقرأ الآيات القرآنية, وانظر اليه بريبة شـديدة,..ولم اتوصـل الى اي نتيجة تفسـر لي شـخصـيته !!
وفجأة توقفت السـيارة, وترجل منها السائق, وسـار بضعة خطوات ثم اختفى!
 نعم اختفى, فقد لاحقته عيني من اللحظة التي غادر فيها السـيارة,..وبعد لحظة اختفى, كأختفاء قطعة الملح النقي في الماء, كما يقال بالمثل المصري:
(فص ملح وذاب)
تجمدت الدماء في عروقي, ورحت ارتعـش من الرعب الذي اعتراني,  ومن البرد, وحدسـت بالمصائب التي سـتواجهني , ومن دون وعي غادرت السيارة  ورحت امشـط المنطقة بنظري, لعلي اجدة مختبأً في حفرة او وراء تلة, فخاب املي, لأن الأرض مسـتوية, و الرؤيا فيها واضحتاً حتى الأفق!
وعلى اية حال, لم اتمكن من العثور على اي دليل يفسـر لي اختفاءه المفاجأ !!
 وما هي الا لحظات حتى سـمعت منبه السـيارة ( الهورن), فألتفت نحو مكان السـيارة وشـبحته من على بعـد,  خلف المقود(السكان), يومئ لي بالدخول !  ذهلت مما يجري من حولي, ولم اجد بداً من الأمتثال لأمر
السائق الطلسم ,ولذا عِـدتُ ثانية كالعصفور بين يديه,,..وقد انعقد لـساني, وتشنجت اعصـابي, واخذت احدقه بشـذر, وهويبادلني الخزرات  , غير مبال لما انا عليه.
دبت فيً الشـجاعة وسـألته عما يضـمر لي من شـر,.. ولماذا غادر السـيارة ؟ والى اين  ذهب ذهب؟ ومع من تكلم بالجهاز ؟.. وكان يكتفي بالأبتسـامه فقط, ولم يرد على أي استفسار,.وبعد برهة من الزمن, اخرج بطاقتي الشـخصـية, وقائمة الأستيراد, وطلب ان اوقع عليها, فأمتثلمت لأمره, خوفاً من المجهول.
تفحصـت محتويات القائمة , وكانت انواعاً مختلفةً من الكماليات النادرة جداً والسجاد الأيراني, والعطور الفرنسـية الشـهيرة, ..وبينما كنت اقرأ ما تبقى من  مواد في تلك القائمة ,.. سـحبها  مع  بطاقتي بعتف  ودسـهما في جيبه!تعجبت من تصـرفه الأرعن, وسـألته عن سـبب ذلك, فلم ينطق بكلمة واحدة,  وظلً صامتاً, ولم اجرأ على مشاكسـته والتزمت الصـمت, الى ان لمحت  من على بعد, اقترابنا من اطراف العاصـمة بغداد, وردت الروح الى بدني عندما وصلنا العاصمة, ودخلنا الى الكراج المخصص لسـيارات الحمل القادمة من  الجنوب,..  وفي الحال تجمع الحمالون حول السـيارة, فأمرهم السـائق بتفريغ بضـاعة السيد محسـن سـرحان!...  وانهمك الحمالون بعملهم,.. ثم طلب مني اجور نقل البضاعة والشغيله !
أسـتغربت من منطق هذا الأنسان وتصـرفاته, ولم استوعب هدفه , ولا كيف خطط لهذه الفكرة, ... وماغرضه من كل هذه التمثيلية ؟!
انعقد لسـاني مرة اخرى, وبجهد جهيد نطقت ببعض العبارات وقلت له:
" انك تعلم علم اليقين ان البضاعة لا تعود لي, وانا لا املك درهماً واحداً, فمن اين لي ان ادفع اجورك و الحمالين؟!"
ابتسـم وطلب ان امُـد يـدي في جيبي,..فنفذت امره, ولما سحبتها...ذعرت عندما لمسـت يدي رزمة كبيرة من الدنانير !!  وصـرخت بوجهه ورميتها الى الأعلى , ووليت هاربًا وصارالناس المتجمهرون من حولنا,  يصـرخون :
أمـخًبًل أمـخًبًل , اي..مجنون.. مجنون !!!  
وفي اليوم التالي, رجعت الى ذلك ( الكراج), بعدما هدأت بعض الشـيئ, فقد
 اردت معرفة حقيقة ذلك السـائق المبهم (الطلسم) الذي زجني بورطة من دون اي ذنب اقترفته,..وهل هو من الأنــس أم من الجـن؟؟!!..ولماذا يريد ان يهبني بضـاعة يفوق ثمنها آلاف الدنانير, وليـس لي اي سـابق معرفة معه؟!
وعلى اية حال,..ما ان اقتربت من ( الكراج), لمحت المكان الذي فرغت فيه البضاعة, وأتجهت نحوه بخطى ثقيلة, او قل (كالسـكران), ولما اقتربت رويداَ  من المكان, طوقت  بحارس (الكراج), ومعه ثلاثة من شـرطة الكمارك, وفي الحال توقفت, وقال الحارس لضـابط الشـرطة:
"هذا هو يا سـيدي صـاحب البضـاعة المسـتوردة, وهذه قائمة
الشحن بأسـمه مع بطاقته الشـخصية,.. ولم يوافق على دفع اجورالسائق ولا  الحمالين".

اسـتفسـر الضـابط  مني عن صـحة ادعاء الحارس,فايدت روايته, ثم شرحت  له قصتي مع السـائق  بكل تفاصـيلها وان البضـاعة ليسـت ملكي !
ضـج الفضـوليون الذين تجمهروا من حولنا, بالضـحك,.....وامرهم الضـابط   بالآنصـراف, وامر احد افراد الشـرطة بوضـع القيد (الكلبجه), في معصـمي, وسـوقي الى مركز الشـرطه, بتهمة حيازتي على بضـاعة مهربة !
ابتسـمت ابتسـامة كلها مرارة ونكًـد, وصـرخت بأعلى صـوتي:
" صـدك لو كالو.. حظ أمحيـسـن !!! ".

 نفذ الشرطي الأمر الصادر له, وقادني نحو مركز شـرطة (العبخانه), القريب من (الكراج), وانا مكبل اليدين, .. وما ان وصـلنا الى الســراي, ســـلمنت الى المحقق, ..وعلى الفور دونت افادتي,  ثم اودعت السـجن على ذمة التحقبق, ثم  تكرر التحقيق مـرات عديدة, وما من احد صـدق روايتي !
وفي احد الأيام, طرق سـمعي زيارة  موظف كبير من وزارة الداخلية, ومن   حسـن حظي, كنت في صحبة مع الشـرطي المكلف بخدمات الموقف,وفاتحته بقصـتي واعلمته بالرسـالة التي معي من شـيخ المدينة,...  ولم يصـدق الى ان  عرضـتها عليه, ..فقرأها, وقال لي: (الشـيخ خيون !), هذا يعتبر شـــيخ عشـيرتنا, ولهذا فأنت ( بن عمي ), ووعدني بتوصـيلها الى ســـيادة وكيل وزير الداخلية حال وصـوله المركز, فكتبت رسـالة موجزة لقصـتي, ملـتـمسـاً  فيها من المسـؤول الزائر, أعادة التحقيق لرفع الظلم عني.
وفي يوم الزيارة, جاءني الشرطي البلدياتي فرحاً, وبشرني بأيصال رسـالتي الى سـيادة وكيل الوزارة, وقد قرأها بأمعان, واسـتفسـر من مدير التحقيق عن  الموضوع ,واطلع على افادتي واسـتغرب, او قل لم يصـدق حدوث مثل هذه  القصة المروعة, وطلب اعادة التحقيق  على الفور.
بعد اقل من سـاعة, وجدت اهتماماً بشخصي, وطلب مني الأسـتحمام ولبـس ملابس جديدة, وتم ذلك بسـرعة فائقة !!      
بدأ التحقيق من جديد,  بحضـور سـيادة الوكيل, وما ان شـاهدني حتى  ابتسـم لي, وحييته من على بعدِ, ..وراح يصـغي بأمعان لكل أجوبتي, ..وكانت بوادر الأسـتغراب قد طفحت على معالم وجهه,...وتعجب اشـد العجب مما سـمعه,..ثم تولى هو بنفسـه بطرح الأسـئلة, .. فهمت من بعضـها رغبته في معرفة قواي العقلية, فتكلم مع لجنة التحقيق, وقدموا لي اوراقاً لملئها, وامتثلت للأمر, وبعد اكمالها سـلمتها للمحقق,..وبعد قراءتها, التفت الى وكيل الوزارة واثنى على قدرتي في الأجابة,..وعرض الأوراق على سـيادته, وبان عليه السـرور, وراح يغدق علي المديح,..وكلمني بلهجة مدينتي,.. وقال للحضور, ان مدينة الشطرة  هي اول مدينة عملت فيها عند اول تعييني, ..واثنى على شــيخها (معالي العين خيون آل عبيد ),ثم
 طلب من المحقق الأتصال بمركز شـرطة المنتفك (ذي قار), والأستفسار من  المسـؤولين عن هوية المالك  والســائق والسـنوية للسـيارة  التي اقـلت محسـن سـرحان مع البضـاعة المهربة من الشـطرة الى يغداد.  
وبعد برهة وجيزة,..جاء الرد بعدم وجود اي سـجل لسـيارة الحمل التي تحمل الرقم المدون في فاتورة الضـاعة !!
 وما ان سـمعت بذلك, حتى هتفت بأعلى صـوتي:
" الله اكبر,..الله اكبر".
ثم التفت السـيد  وكيل الوزارة الى المحقين وقال لهم :
" ان محسـن ســـرحان, ضـحية عصـابة ذكية,
اوعمل خارق لقوانين الطبيعة لا اجد له تفسـير!"
وفي الحال طلب من آمر التحقيق ان يصـدر امـراً بأطلاق سـراحي,وطلب مني المرور عليه في الوزارة صـباح الغد,..  وتقدمت نحوه لتقبيل يده, فسحبها وصـافحني بحرارة, ودس في جيبي بعض المال, ..فرفضـت , الا انه اصــر, وابى مسـاعدتي ان لم اطواعه, ..فوافقت على مضًض وودعته وباقي المحققين
 داعياً المولى ان يكثر من امثالهم , او قل من الذين يُحكمون العقل قبل القانون, ويتصرفون بحكمة تضـِمن حقوق الناس الأبرياء, ..ورحم الله من قال:
"الرحمة فوق القانون "

                                      

غادرت السـراي وانا اكاد اطير من الفرح,.. وهل حقاً زال عني النحـس ؟!!
 ومـرًت الأيام,..وهدأت نفـسي بعض الشـيئ, وتمكنت من الوصـول الى مبنى وزارة الداخلية, وتوجهت نحومكتب الأسـتعلمات, وما ان وقفت امام شـباك مراجعة المواطنين, حتى اطل منه وجه  شـابة كأنه بدر نيسـان,.. فحملقت في  وجهها وغصـت الكلمات في فمي,..والفتاة تنظر الي بذهول,..ومن دون كلام قدمت لها ما في جعبتي من وثائق, وقامت بتصفحها,..ثم طرحت علي عـدة استفسارات , وأفهمتها كل شـيئ  بشـكل جيد,..ثم طلبت مني اخذ مقعد لي في صـالة الأنتظار, الى ان تناديني,.. واسـتجبت لطلبها.
تمت المقابلة, وحصـلت على توصـية لتزويدي بشـهادة حسـن السـلوك وعدم المحكومية,.. وهكذا قدمت اوراقي الى دائرة البعثات للدراسـتة خارج العراق    للحصـول على الدكتوراه في الكيمياء النووية,..وتم كل شـيئ بصورة طبيعية, وبعد عدة اسابيع ,ظهرت النتائج, وكانت بعثنتي الى ولاية لويزيانة في امريكا. حــسـدت نفــسي على  المكاســب التي تحققت, او قل, رحيل النحــس عـني,  وهكذا, تم الحجز لي على الخطوط الجوية العراقية, بواســطة دائرة البعثات, وزودت بالمال لشـراء الملابس اللائقة بطالب البعثة ومصـرف الرحلة,...وقبل موعد السـفر بيومين, قـمت بزيارة خاطفة لتوديع الأهل والأصـدقاء,.... وكان موقفاً مفعماً بالشــجون,..وغادرت شـــطرتي الغالية !
توجهت في يوم السـفر الى المطار,..وكأي مسـافر, انجزت كافة الأعمال الروتينية المتعلقة  بالمغادرة خارج الوطن.,.وما ان دخلت قاعة الأنتظار, حتى
لمحت من على بـعد ذلك السـائق المبهم او قل (الطلــسم), مرتدياً زياً في غاية الأناقة,..ممسـكاً بحقيبة دبلوماسـية, ويدخن السـيكار( الجرود), .. فندبت حظي او قل عودة النحـس بعد ان فارقني عدة ايام, وهمسـت صـامتاً:
"اجاك الموت يا كاطع الصلاة, اين المفر يا أمحيـسن ؟!!"
 انهارت قوتي, ورحت التفت شـمالاً ويميناً,...فوقعت عيني على الأنضــباط  العسـكري, واخبرته بقصـتي مع ذلك السـائق الذي ســـبب لي الكارثة التي كادت ان تقضي على مسـتقبلي لولا تدخل السـيد وكيل وزارة الداخليةشخصياً   عرضـت على العسكري بعض وثائق القضـية الثبوتية,... فأسـتغرب  مما ســمعه, وراح ينظر لي بأمعان, وطلب جواز سـفري,...  ودقق في صلاحيته, وظل ممسـكاً به, وطلب مني اتباعه , ...  وتوجه نحو قاعة الأنتظار,نحو ذلك الرجل الذي اشـرت له,...فحياه, .. فجاء الجواب بلغة انكليزية سـليمة !!  
علت وجه الأنضـباط الدهشـة, او قل الحيرة مما سـمع,.. ونظر لي بريبة وبان الشـــك على محياه, ثم طلب جـواز ســـفر ذلك الرجل, وراح يتفحصـه بدقـة متناهية, وتبين انه من اسـترالية,..وانه وكيل احدى الشـركات العالمية التي لها اعتذر الأنضباط العسكري لذلك المسافر, واعاد له جواز سـفره, .. ثم قادني الى غرفة أمن المطار, ..وراح يؤنبني بقسـاوة, والقى علي محاضرة بالأخلاق وطلب مني عدم زج الناس بتهم قبل التأكد من الحقيقة.
اعتذرت للعسـكري بالرغم من ثقتي التامة من ان هذا الرجل هو نفـسـه السـائق المبهم ,.. ولكن من اين لي البرهان لأثبت للعسكري صـدق اتهامي !!
حان وقت المغادرة,..  وركزت نظري على مكان ذلك السأئق ولم اعثر على اي اثر له, .. ودب الأطمئنان عندي,..ولمت نفسـي على التسرع بالشكوى من ذلك الأنسـان, طالما انه لم يبدي اية اسـاءة لي.

   

أمحيسن يدخل الطائرة
صعدت مع بقية الركاب, واسـتقبلتني المضـيفة وقادتني الى المقعدالمخصص لي وفق الرقم على تذكرة السـفر, ووضعت حقيبتي في الرف المخصص لذلك.
حان موعد الأقلاع وبدأت احدى المضيفات بتوزيع الحلوى على المسافرين,
وطلب منا اتباع الأرشادات التي بدأت مضـيفة اخرى بعرضها, وصدر الأمر بعدم التدخين وربط الأحزمة,ثم بدأت محركات الطائرة  بالأزيزوتحرك بسرعة متزايدة وبعد فترة وجيزة شـــعرت بالأقلاع عن ســطح الأرض,
والتحليق في سـماء بغداد, ..لقد كان منظراً خلاباً, تنعمت به من خلال النافذة المجاورة لي, .. ولا ادري كم مضـى من الوقت,.. حتى بدأ توزيع الأطعمة الشـهية على المسـافرين, ووضـع امامي طبق (صـينيه), يحتوي على عدة صحون  تحوي طعاماً وحلوى وقطعة من الخبز, وملعقة وشـوكة وسـكين.
لم اتعود على تناول الطعام بالشـوكة والسـكين, فمسـكت الشـوكة باليمين والسـكين باليسـار, وما ان غرزت الشـوكة في قطعة اللحم لقطعها بالســكين حتى سـمعت صـوتاً على يســارمقعدي يقول:
"ِويِلك!.. بالعكـس, السـكين باليمًنه, أتظًل دوم أمعيدي ؟! "
التفت نحو الصـوت, وكان نفس صوت السائق المبهم, ..ثم ابتسـم لي وقال :  " أشــلون الصـحة.. يا أمحيــسن؟! "
صـرخت بأعلى صـوتي ورميت الشـوكة والســكين من يدي على الصحون, فولدت صوتا مزعجاً جلب انتباه الجالسـين بالقرب مني,..فهرعت نحوي احدى المضـيفات وقادتني نحو مقصورة الخدمات, مبدية قلقها,.. وقدمت لي كوباً من الماء وبعض الأقراص المهدئة ,..وراحت تسـتفسـر مني عما اصـابني, ...ولم ارغب بقول الحقيقة خوفاً من المضـاعفات التي قد تنجم من ذلك البلاء الذي  
لحق بي حتى الطائرة, وحدثت المضيفة عن سـبب آخر, وعلى ما يبدو اقتنعت وتركتني اسـتلقي على سرير( كنبة), المقصـورة, وعلى اي حال,.. لمت نفسـي على ذلك التهور,..وعزيت ذلك الى أحلام اليقضة, وان ما سـمعته لم يكن له واقعاً مطلقاً

                           

نمت بعد ذلك نوماً عميقاً بسـبب الأقراص المهدئة,  ولا ادري كم من الوقت مضى, فقد شــعرت بأنامل ناعمة تمـســد على كتفي برقة وحنان, واستيقضت,  وسـمعت المضـيفة تقول لي , ها نحن على الأرض, فقد هبطت الطائرة بسلام وان كافةالركاب قد غادروا الطائرة .
فقت الى وعي, ونظرت حولي, ولم اجد غير المضيفات الحسان من حولي,
مبتهجات بعودة الروح لي من الصـدمة التي كادت تؤدي بحياتي, وعلى الفور ساعدتني المضيفة على النهوض, وتوجهت واياها نحو مقعدي لأخذ شـنطتي , ثم ودعت الجميع, وشكرت المضيفة التي اعتنت بي , وما ان هممت بالهبوط, حتى نادت علي:
" سـيد محسـن سـرحان,..هذه حقيبتك"
 فأسـتغربت ورفضت استلامها, واشرت لها بالحقيبة في يدي,.. ولم توافق ولحقت بي وقالت :
" لا,..لا, اسـمك مكتوب عليها!!"
 تناولت الحقيبة الدبلوماسية, وعرفت صاحبها على الفور, انها نفــس الحقيبة التي كانت مع ذلك الســائق (الطلــسم) ,الا انني لمحت اســـمي قد لصـق عليها بحروف من الفضة,.. فنظرت نحوالمضيفة الملاك , وابيت ان يتغير انطباعها عني وتعتبرني معتوهاً, ولذا استلمتها وعانقتها , ومشاعري تكاد تنطق بما تغنت به ســيدة الطرب ام كلثوم:
ربما   تجمعنا  اقدارنا     ذات يوم بعد ما عز اللقاء
لم اعترض على هذا المشـهد الحديث خوفاًمن تعقيدات جديدة قد تعيق حياتي  المقبلة في بلاد الغربة !  
توجهت نحو قاعة القادمون, وفي الممر وجدت شـابة انيقة , حاملة للوحة مكتوب عليها اسـمي, فتوقفت امامها, وقدمت نفسـي لها, ورحبت بي, ثم قدمت   لي نفسـها, على انها موفدة من اتحاد طلبة الجامعة لمرافقتي الى نزل الطلبة,وطلبت مني  مرافقتها لمساعدتي في اكمال معاملة الدخول , والتوجه الى دار سـكني الجديدة .
بالرغم من الشك الذي اعتراني, كما في المثل:المكروص حيه يخاف من سحاله!
تم كل شـيئ , وقدمت الفتاة العون الى اوصـلتني الى دار سكن الطلبة, ثم سلمتني للمســؤول, وودعتني بكل ادب,..  وطلبت عنوانها,..الا انها وعدتني بالمرور علي والتجول معاً في ارجاء المدينة حالما اسـتقر واكمل الأجراءات الرســمية في ادارة الجامعة,..وكان الوداع المفعم بالأمل,.. وصـحبت ذلك المســؤول وانا في اشد الأعجاب للنظام والعناية بالمغترب, ..ولم يتركني ,
حتى اطمأن على راحتي, وودعني تاركاً تلفونه, لأسـتعين به في اية لحظة احتاج فيها الى مسـاعدة !
ما ان اختليت مع نفسـي, حتى فتحت الشـنطة التي تركها لي ذلك السـائق المبهم, ..ووجدت فيها انواعاً من الحلوى والكماليات, مع رزمة من الدولارات ملفوفة بورقة طبع عليها: الحياة فرص, والفرصة ان لم تمسك بها لا تنتظرك!

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1121 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع