د. سيّار الجميل
صناديق الاقتراع ليست هي كلّ الديمقراطيّة ، بل هي واحدة من وسائلها للوصول الى السلطة .. والديمقراطيّة التي عرفها الانسان عبر تاريخ طويل فكرا وممارسات هي اشياء اخرى من المفترض ان يؤمن بها كلّ المواطنين في مثل هذا العصر المتقدّم .
الديمقراطيّة ليست سهلة كما يتخيّلها الناس في مجتمعاتنا .. انها عمليّة مؤسسيّة واخلاقيّة مدنيّة لا يقتصر استخدامها وسيلة للوصول الى السلطة فحسب ، بل هي اساليب تعامل وتعبير تاريخي يترجم العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع ، أي بين المؤسسّات الرسميّة والانسان في أيّ مجتمع ، وبين الحاكم والمحكوم .. وبين المواطنين انفسهم .. ويكون الدستور والقانون المرجع الاساسي الذي يحتكم اليه الجميع ..
اذا كانت " الديمقراطية " قد استخدمت سياسيّا من قبل الاحزاب السياسيّة ، فهي في الاصل منهج تفكير وحياة اجتماعيّة ، يتربّى الانسان على اساليبها المتنوّعة في كلّ مجالات الحياة .. وعليه ، ان لم تسقط حكومات وسلطات في مجتمعات ديمقراطيّة حقيقيّة ، فانّ وزارات ورئاسات وحكومات تسقط في نظم فوضويّة ومجتمعات رعويّة ومنظومات سياسيّة ، لم تعرف الديمقراطيّة يوما في حياتها ، بدءا بتعامل الافراد مع بعضهم وانتهاء بتعامل المجتمعات مع صناديق الانتخاب ! ولقد اكدّ العديد من المفكّرين والمنظرّين السياسيين في العالم أن لا ديمقراطيّة تبدأ وتتّطور في ظل اوضاع فوضويّة او رعويّة او اقطاعيّة او طائفية مهترئة .. الخ .
ولقد اكدّ فوكو ياما مؤخرا انّ " الديمقراطيّة " لا يمكنها ان تنمو وتتطور الا مع توفّر ثلاثة عوامل اساسيّة : الاستقرار السياسي ، والنمو الاقتصادي ، والتنمية الاجتماعيّة لدى أي مجتمع ليؤهل مؤسساته في الدولة التي تنبثق عنه .. كي تكون الدولة في خدمة مجتمعها ، لا ان تغدو متسلطة عليه ليكون في خدمتها .. وعليه ، فان نجاح أي نظام سياسي تكفله رعاية الدولة لمجتمعها !
ان تفهّم الديمقراطيّة بأوسع ابوابها ، لا يؤمن بها ابدا من تتفّوق اجندتهم العقائدية والعنصرية والسياسيّة المؤدلجة على مبادئهم الوطنية ! وكما قال لي صاحبي بأن جميع من حمل الديمقراطية في القرن العشرين من شيوعيين وقوميين وبعثيين وليبراليين واسلاميين لم يعرفوها على حقيقتها ، ولم يمارسوا مبادئها واساليبها ابدا ! بل ان الاسلاميين ومن سبقهم حملوا شعار الديمقراطيّة نفسه من اجل الوصول الى السلطة ! كلّهم يتشدّقون بالديمقراطيّة ولكنهم لم يؤمنوا بها اصلا ! ان المجتمعات الديمقراطيّة لا تسقط المظاهرات فيها ايّة حكومات ، ولكن الحكومات تسقط عندما يشعر المسؤولون انهم اخطأوا امام شعوبهم .. ان العربة التي اوصلت العديد من المسؤولين العرب الى سدّة الحكم لم يكن يجرّها حصان وطني ولا حتى عربي ، بل اندفعت الى الذروة بفعل فاعل ، في ظلّ اوضاع مأساويّة سياسيّة وامنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة ، سيئة ومنهارة جدا ..
ان المسؤولين الجدد وهم في السلطة ، لم يفكّروا في كيفيّة الوصول اليها عندما كانوا يحلمون بها ، وقد اقنعوا انفسهم بانها من صناعة شعوبهم او انهم تسيّدوا بأصوات من انتخبهم .. وحتّى ان افترضنا صحّة ما يتوهّمون ، فهل من الصواب ان يرتكبوا اخطاء شنيعة في اوطانهم ومع شعوبهم او يكونوا صنائع وادوات لأجندة غيرهم ؟! قارنوا بينهم وبين غيرهم من قادة مجتمعات ديمقراطية تحترم قيمها الوطنية وثوابتها الاساسية في الحياة !
ان مشكلتنا الاساسية اليوم تتمثّل في الانقسام الحاصل بين اجندة سياسيّة وايديولوجيّة معيّنة ، ازاء ثوابت وطنيّة وركائز مبدئيّة ومسائل تاريخيّة .. انها تبدو مجتمعات رعوية متشظيّة ، يرعاها ساسة ومتحزبّون وطغاة وصنّاع مصائب يتباهون بالديمقراطيّة زيفا وكذبا ورياء ! ومن صور واشكال وشاشات المهزلة ان انتشرت جماعات كبيرة من المزوّرين والمصفّقين والفاسدين والمتسلّطين والمتفرّدين وحتى الطبّالين والمهرّجين والردّاحين والقوّالين والشتّامين من المثقّفين والاعلاميين المؤدلجين .. الذين لا يعرفون من الديمقراطيّة الا اسمها !
نعم ، ان مجتمعاتنا منقسمة جدا واصبحت تصارع الطغاة القساة من طرف ، وتصارع الجماعات والاحزاب البليدة الجديدة التي جاءت الى السلطة باسم "الديمقراطيّة" لصالح الفئات الرعويّة .. ورغم انتفاء الشرعيّة ، كون مجتمعاتنا ليست ديمقراطيّة .. فثمّة من يتقّبل حكم الاغبياء او الفاسدين او الطائفيين او المتخلفّين المتحجّرين ، الذين يتستّرون بتجارب انتخابات مضحكة لم يشارك فيها العقلاء الذين يدركون فجاجتها وزيفها وكذبها في مجتمعات متخلفّة واذا حدثت مضاعفات بالضدّ يتشدّقون بنتائج التصويت لأيّ صندوق انتخابي ويدافعون عن الشرعيّة !
لقد ثبت جليا ان كلّ الاحزاب الطائفيّة او العقائدّية سواء كانت راديكالية ام ليبرالية ام قومية ، لا تؤمن بالديمقراطيّة ابدا ، فكيف تمارس الانتخابات اذن ؟ المتعصبّون والمتحزبّون هنا لم يدافعوا عن الديمقراطيّة والشرعيّة ، فنحن لسنا اغبياء لنصدّقهم ، ولكنهم قد غرقوا في التعصّب والانحياز لأنفسهم من اجل السلطة .. فهناك كبت محموم نحو السلطة دام لعشرات السنين عند هؤلاء او دام مئات السنين عند اولئك .. ويتحوّل الزعيم (المنتخب) او الجماعة او الحزب او الطائفة الحاكمة الى ما يشبه الدكتاتور !
ان ثلاثين سنّة تنتظرنا ، ستمرّ فيها مجتمعاتنا بمخاض تاريخيّ صعب قادم .. المشكلة ليست هيّنة تخصّ هذا او ذاك ، بل الامر يخصّ منظومات خطيرة .. ان من حقّ مجتمعاتنا ان تدافع عن الديمقراطيّة ، من اجل تكاملها ، ولكن من الخطأ محاربة القيم المدنية الجديدة ! وكيفية ممارسة آلياتها السياسيّة من دون الاعتراف بالحريّات العامة والفكريّة والشخصيّة . الديمقراطيّة فلسفة حياة كاملة ، وليست مجرّد صناديق اقتراع .
وعليه ، لا يمكن لأيّ طرف يؤمن بأيديولوجيّة دينيّة ، او مانفيستو شيوعي ، او عقيدة عنصريّة ، او لوائح ليبرالية شكلية ، او مرجعية ولاية فقيه ..ان يمارس الديمقراطيّة الحقيقيّة . ولا يمكن ان يكون الحاكم ديمقراطيا لوحده ، بل عليه ان يجعل كلّ الشعب يعيش حياة ديمقراطيّة ويثّبت كلّ اركانها واسسها في الحياة الدنيا .. لا ان يخرّب الحياة باسم حزبه او طائفته او اهوائه او شرعيّة صندوقه الانتخابي ! ما احوج مجتمعاتنا اليوم الى الديمقراطيّة ، ولكن عليها فهمها والوعي بها ، فهي – كما اعيد واكرر - ليست مجرّد صندوق انتخابي ، فالديمقراطية فلسفة حياة واسلوب عمل ضمن مشروع مدنيّ وطنيّ .
918 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع