د. صـــبحي ناظــم توفيــق
عميد ركن متقاعد- دكتوراه في التأريخ العسكري
9 نيسان 2024
في الذكرى السنوية/٢١ لإحتلال العراق جرائم الإحتلال الأمريكي التي دمرت العراق
تمهيد
رغم إتيان الولايات المتحدة الأمريكية بالمئات من الطائرات والدبابات والمدرعات والمُعدّات الأعظم تطوراً في العالم، لغزو العراق بصحبة (135,000) ضابطاً وجندياً متطوعاً مُدّرباً ومُعدّاً للقتال بشكل مُتقَن لا يضاهيهم منتسبو أفضل جيوش الدول العظمى... ولكنهم أخفقوا في فرض الأمن والأمان بهذا البلد، ولم يَفِ قادتهم السياسيون والعسكريون والأمنيون والمخابراتيون بوعودهم الوردية في إعماره وجعله نموذجاً في هذه البقعة من العالم.. بل أنهم إقترفوا جملة أخطاء لا يُصدّق أن تَقع فيها دولة عظمى أُعتُبِرت في سنة 2003 المشؤومة قطباً أوحد يتحكم منفرداً بأمور الكرة الأرضية برمّتها.
حكومة عسكرية للشؤون المدنية
منذ ذلك اليوم المؤلم والمتمثل في إحتلال وطني الحبيب، يقفز إلى ذاكرتي كلّما حلّت الذكرى السنوية لجريمة الإحتلال المدمِّر، يوم إلتحاقنا بواقع 69 ضابطاً برتبة "نقيب" تلاميذ بالدورة 40 لدى كلية الأركان العراقية في نيسان 1973، حيث بدأنا نتلقى في مستهل الفصل الدراسي الأول دروساً في واجبات الأركان المعتمِدة على محاضرات تدرس في صفوف كليات الأركان "كامبرلي" البريطانية، و"ولنكتون" الهندية، و"كويتا" الباكستانية.. وقد نصّت في إحدى مفرداتها:-
(تُشكِّل قيادة الفرقة "حكومة عسكرية للشؤون المدنية" حال إحتلالها أو أحد تشكيلاتها أية مدينة، سواء أكانت في أرض العدو أم متمردة على سلطة الدولة).
لذلك كان وجوباً علينا أن نستوعب إجراءات هذه الحكومة المُفتَرَضة، والتي تحتوي حسب أهميتها بالتسلسل أو التداخل:-
• حظر التجوال وإعلان الأحكام العرفية.
• إستدعاء قادة العدو السياسيّين والعسكريّين والإداريين للتوقيع على وثائق الإستسلام ولو توجَّبَ ذلك إستخدام السلاح.
• إجبارهم على إصدار الأوامر إلى مرؤوسيهم لتسليم أسلحتهم إلى مواقع مُحددة وفق منهج زمنيّ.
• نشر جنود الإحتلال لفرض الحِفاظ على مؤسّسات الدولة ومُحتوياتها.
• إصدار أوامر جازمة لمسؤولي الأجهزة الأمنية والشرطة المحلية وأفرادها للإلتحاق بمراكزهم.
• الإيعاز إلى الأطّباء ومنتسبي المستشفيات وموظّفي الدوائر الخدميّة ومحطّات الوقود والمخابز لتأمين المتطلبات اليومية لمواطني المدينة المحتلّة.
• تشخيص المُسيئين والمشكوك في ولاءاتهم إبتغاء حجزهم أو تقييد حريّاتهم لحين إستقرار الأوضاع.
التعمد في عدم التشكيل
ولكن واقع الحال الذي حدث في بغداد وكل المحافظات أن الأمريكيين لم يتّخذوا أياً من تلك الخطوات، في حين يُفتَرَض أنهم أصحاب خبرات متوارثة في إحتلال دول وأنظمة حكم وأقطار وإسقاط حكومات، لذلك فقد إستغربنا-نحن ضباط الأركان السابقون- من هذا التصرف المُريب الذي تمخّض عنه فقدان الأمن والأمان في بلد كان يتحكم فيه نظام طالما وصفه الأمريكيّون بأنفسهم دكتاتورياً وشمولياً بأجهزة أمنية لا تعرف الرحمة!!! وهذا ما جعل العراق فور إنهيار نظامه عرضة للنهب والسرقة والتدمير والحرق.
وتوالت الأيام وسط الضياع وإنعدام الأمن والأمان ليعقبه قتل بالجملة وإغتيالات مرعبة في الشوارع والأزقة وسرقات ونهب وسلب في وضح النهار بمعدّلات يوميّة على أيدي الرعاع وأولاد الشوارع المستهترين... فغدونا نتساءل مع أنفسنا:-
• هل يُعقَل أن قادة البيت الأبيض و CIA وDIA لم يخطّطوا لِما وراء أفق ما بعد إحتلال بلد كبير ومركزي ومؤثر مثل العراق، كما يزعم البعض؟!
• هل أن البنتاغون والخارجيّة الأمريكيّة لم تدركا مثل هذه المخاطر!!
• هل لم يتلقوا دروساً مشابهة لدروس الضباط العراقيين في كلية أركانهم المتواضعة؟!
• إذن كيف يدير القادة الأمريكيّون العشرات من القواعد الضخمة في العالم لحماية مصالح دولتهم العظمى وNATO وCENTO وSEATO ومصالح العشرات من الدول الآوروبية والآسيوية والأفريقية والقارة الأمريكية؟؟؟ إن هُمْ ليسوا على دراية بمثل هذه الأمور الأساسية والمبدئية.
• أم أن الولايات المتحدة عند القرار على غزو العراق قد خططت مسبقاً على تدمير العراق وحرقه وتخريب بناه التحتية وثقافته وتقاليده وأخلاقياته عنوة وعن سبق إصرار وترصّد... وكل ذلك من أجل تحقيق أماني إسرائيل وإيران؟؟؟
الجرائم المتعمدة اللاحقة
أما الجرائم المتعمدة اللاحقة، فكانت نتائجها أنكى وأمرّ، ومن أخطرها:-
• إفراغ المنافذ الرسمية الحدودية وترك باقي حدود العراق مع دول جوارها الست سائبة ليتدفق منها المسلحون والمهربون واللصوص والقتلة والمجرمون ليصولوا ويجولوا على هواهم وسط المدن، ويصبحوا هم سادة الشارع العراقي.
• حلّهم وزارة الداخلية والمؤسسات الأمنية والمخابراتية والإستخباراتية وقوات الحدود والدوائر العليا للدولة، ثم وزارتي الدفاع والإعلام تباعاً، وإعتبار جميع منتسبيها بمثابة مُنحَلّين (مطرودين)، ما أكسب الأمريكيين مئات الآلاف من الخصوم العاطلين والحاقدين المقتدرين على إستخدام السلاح، بعد أن قُطِعَ عليهم مصدر رزقهم إلى جانب إستشعارهم بالإهانة.
• غضهم النظر عن أعمال نهب كل محتويات دوائر الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية والخدمية وإشعال النيران فيها أمام أنظار جنود الإحتلال في وضح النهار.
• عدم إتخاذهم أية خطوات جدية لسحب الأسلحة المتنوعة من بين أيدي الذين ثبت أنهم سرقوها وخبأوها في بيوتهم ومزارعهم وقراهم.
• تشكيلهم لمجلس الحكم الإنتقالي المؤقت على أسس عرقيّة وطائفية ومذهبية، وتعيين الأغلبية العظمى من أعضائه ممن كانوا مقيمين عقوداً خارج العراق ومرتبطين بالمخابرات الأمريكية والبريطانية، أو كانوا تحت سطوة سلطات دول متاخمة للعراق، حيث لم يستطع معظم أعضاء هذا المجلس الصوري تفهم واقع العراقيين وإستهضام معاناتهم وإستيعاب معاضلهم، وبالأخصّ في غضون السنوات العشر الأخيرات من العهد الصدامي.
• إسراعهم في إصدار قانون إجتثاث البعث سيء الصيت، وتأسيسهم هيأتَه على يد شخوص حاقدين على كل عراقي بقي في أرض الوطن مضطراً أو غير قادر على تركه لأسباب ومعوقات شتى، وإتخاذ الهيأة قرارات عقوبات جماعية مجحفة حيال الملايين من العراقيين الذين كانوا قد أُضطُرّوا للإنتماء لصفوف ذلك الحزب.
• أعادتهم تشكيل الشرطة العراقية بجمع أشخاص لا على التعيين، ومن دون تحقيق هوية، والإخفاق في تسليحهم وتجهيزهم بمستوى يمكن أن يتفوقوا به حتى على ما لدى الجناة والعصابات والعابثين.
• مماطلتهم في إعادة تشكيل بعض الجيش العراقي، وقبول أول أفواجه على أسس غير مدروسة وبرواتب بخسة وبأسلحة بسيطة.
• عدم إكتراثهم بظاهرة البطالة التي عمَّت البلاد وتسببت في إنبثاق جرائم السلب والسرقة وظواهر إجتماعية لم تكن مألوفة سابقاً.
• منحهم أعضاء "مجلس الحكم الإنتقالي" وكبار مسؤولي الدولة رواتب ومخصصات تبلغ بضعة آلاف من الدولارات، حتى تساءل المواطن العراقي عن ماهية الفرق بين ترف مسؤولي النظام السابق و(رموز) العراق الجديد.
• إهمالهم معضلات خطيرة في مجالات الكهرباء، المجاري، الشوارع، المحروقات... فتضاعفت أثمانها في السوق السوداء إلى عشرات أضعاف أسعارها الرسمية.
• عنجهية جنودهم في دورياتهم ومداهماتهم للبيوت، وثبتت بحق البعض منهم سرقة الأموال والذهب من الأهلين والمال العام من المؤسسات الحكومية وأمام الأنظار دون أن يجرأ أحد من المسؤولين العراقيين إتخاذ أي إجراء بحقهم.
• لم يتخذوا خطوات جادة للسيطرة على التسلّل والتهريب، أو إعادة تشكيل قوات الحدود العراقية بإستدعاء منتسبيها السابقين ليرابطوا في مئات المراكز الحدودية السائبة.
• سماحهم لزعماء الأحزاب وكبار إداريّي "العراق الجديد" أن يستحوذوا على قصور فارهة تركها قادة النظام السابق وأقرباؤهم فإتخذوها مساكن لشخوصهم ومكاتب لأحزابهم ومراتع لراحتهم وإستجمامهم.
• حصرهم لمفهوم "الأمن" في مجرد الحفاظ على قيادات وأفراد قوات التحالف وكبار المسؤولين العراقيين، وإملاء الشوارع بجدران كونكريتية مزعجة، وقطع الجسور، وإعتبار أجزاء مهمة من بغداد والعديد من المدن الكبرى مناطق محرّمة على عموم العراقيين.
• فشلهم في إعداد دستور إنتقالي للبلاد، وفرضهم قانون إدارة الدولة المؤقت عوضاً عنه، ما أفسح أكثر من مرتعٍ خصب لصراع عنيف على السلطة في أي ظرف سانح.
خاتمة الكلام
بعد سنة زؤام على نفوس معظم العراقيين، أمضى"بول بريمر" المدير الإداري لسلطة الائتلاف وإلى جانبه الرئيس الدوري لمجلس الحكم على إتفاق مُبهَم يقضي بنقل سلطات الإحتلال إلى حكومة عراقية مؤقتة، ومن دون تهيئة أية أرضية ملائمة وملموسة لهذه الخطوة الخطيرة والحساسة.
ولذلك نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية أسست عراقاً على هواها ورؤاها ومصالحها المستندة على مرتكزات عوجاء، فأحرقته وأمعنت في تدمير حضارته وعمرانه وثقافته عنوة، وأقحمت إرهاباً من طراز آخر في ربوعه تحت ذريعة محاربة تنظيمات القاعدة والتطرف الإسلامي... وبذلك تدحرجت كرة الثلج حتى يومنا الأسود هذا، فأضحى من الصعوبة أن تقوم للعراق قائمة إلاّ بإزالة هذه الطبقة السياسية الفاسدة والمجرمة التي أتى بهم الأمريكيون وأضاف إليهم الجوار الحاقد، وسلّطوهم على رقابنا وجثّموهم على صدورنا.
1174 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع