بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2024
البستاني الذي أصبح ملكاً(من أكثر الانقلابات جرأة في التاريخ)
صورة خيالية: أوائل القرن الثامن عشر ق.م: (أن السلالة قد لا تنتهي، الملك إيرا-إيميتي عين البستاني إنليل-باني كبديل عنه في عرش ايسن)، حوليات ملوك العهد البابلي القدديم
بدأ الانقلاب السياسي في مملكة ايسن في جنوب العراق في عهد إيرا-إيميتي (Erra-Imittī) (1868-1861) ق.م ملك إيسن (Isin) (موقع إيشان البحريات الحديثة محافظة القادسية جنوب العراق)، فقد استلم العرش بعد وفاة الملك لبت-انليل (Lipit-Enlil) (1873-1869) ق.م، ولا نعرف صلة إيرا-إيميتي بالملك الذي سبقه، ومع ذلك عندما استلم العرش كان معاصرا ومنافسا لـ(سومو-آيل)Sūmû-el) )، و (نور-ادد) (Nur-Adad) ملوك مملكة لارسا (Larsa) التي تعتبرالمنافسة والعدوة لمملكة ايسن، وقد حكم إيرا-إيميتي مدة (8) سنوات، ومعنى اسمه (الإله إيرا سندي أو عوني) (إيرا هو إله الطاعون والفوضى والوباء)، ويمكن القول ان الغموض يخيم على هذا الملك فلا نعرف شيء عنه قبل استلامه العرش، ولكنه قام بتقوية مملكته من الداخل، واقام محكمة للقضاء وللنظر في الدعاوي وربما كانت هذه واحدة من اسباب مقتله، ومن مشاريعه التوسعية أنه استعاد السيطرة على مدينة نيبور (Nippur) من مملكة لارسا (تعرف نيبور حاليا بتل سنكرة (Senkereh) (70) كلم شمال غرب الناصرية) وذلك في بداية حكمه، ولكنه فقدها ثانية، واحتفل خليفته باستعادت مدينة نيبور مرة أخرى.
عرف الملك إيرا-إيميتي بقوته كما تدل أسماء الأعوام الملكية اللاحقة التي تؤرخ فترة حكمه وهي ثمانية سنوات، فعلى سبيل المثال أطلق على أحدى سنوات حكمه اسم: (العام الذي استولى فيه إيرا-إيميتي على كيسورا Kisurra) (الموقع الحديث لأبو حطب Abū-Ḥaṭab في محافظة القادسية)، وسنة اخرى باسم: (العام الذي دمر فيه إيرا-إيميتي سور مدينة كازالو Kazallu) (موقعها غير معروف)، وهي مدينة متحالفة مع لارسا ومعادية لإيسن، وكان غزوة كيسورا بمثابة تصعيد خطير للأعمال العدائية ضد مملكته، ثم سنة اخرى باسم: (العام الذي بنى فيه سور مدينة (gan-x-Erra-Imittī) ربما هي مدينة جديدة تحمل اسمه.
اشتهر الملك إيرا-إيميتي بحادثة (العصيدة الساخنة) (العصيدة يطلق عليها في العراق تشريب وهي مؤلفة من ثريد الخبز وينقع بمرق اللحم)، تبدا الحكاية عندما تنبأ الكهنة بالهلاك الوشيك للملك واغلب الظن انها ظاهرة (كسوف الشمس)، ففي عام (1861) ق.م، شعر علماء الفلك والكهنة في مملكة إيسن بالقلق فقد كانوا يعيشون في مدينة مستقلة يحكمها ملك تعتمد عليه الحكومة، وكانت الطبقات المتعلمة من الكهنة والكتبة الذين شيدو معابد شاهقة عظيمة مثل الزقورات يمكنهم من خلالها دراسة النجوم واستخدام قياساتهم النجمية لمحاولة التنبؤ بالمستقبل، فقد كان هناك حدث سماوي معين أثار قلقهم على الاكثر (كسوف الشمس) وكان لابد من(الملك البديل) وهو تقليد عراقي قديم، تجري مراسيمة في مثل هذه الحالة المخيفة، أو لا نعرف بالضبط ما هو الحدث السماوي، لكنهم اعتقدوا أن هذه العلامة السماوية تعني موت الملك.
كان الكهنة يخافون من موت الملك وبالتالي حدوث الفوضى في البلاد، فيجب أن يكون هناك دائما ملك في ايسن لأن الملكية نزلت من السماء ويجب الحفاظ عليها مهما كان الثمن، لذلك تم وضع خطة الطوارئ موضع التنفيذ، ففي الماضي حاول الكهنة تغيير المصير للحفاظ على ملوكهم، كانوا يقومون بطقوس تجريد الملك من مملكته، وإرساله إلى الاختباء، وتتويج (ملك بديل) يتم اختياره من عامة الناس، باعتباره (تمثالًا على الرغم من كونه متحركًا)، أو كبش أو عنزة ويجلس في مكان الملك والانتظار حتى مرور العلامة السماوية، وفي نهاية المائة يوم يتم قتل الملك البديل مع زوجته (وكأنه ملك ومعه ملكة)، ويعامل الملك البديل بعد قتله مع الملكة معاملة الملوك من حيث مراسيم الدفن فيحظى باهتمام كبير، ويجهز تجهيز الملوك، وهذا من شأنه أن يدفع الخطر ويبقى الملك الحقيقي، وبعدها يعود الملك إيرا-إيميتي إلى عرشه.
بحث الكهنة عن شخص مناسب من عامة الناس بديل عن الملك واستقروا أخيرا على بستاني اسمه إنليل- باني (Enlil-bāni) الذي يعمل في القصر ومن غير المعروف ما إذا كان على علم بمصيره أم لا؟ ولكن حتى لو لم يكن يعرف التفاصيل، فمن المؤكد أنه كان على علم بأن شيئا غير عادي للغاية سوف يحدث وخاصة عندما تم انتشاله من العمل المرهق في البستان وتنصيبه على عرش ايسن، ولكنه كان عاجزا عن الرفض أو المقاومة فاختياره ليمثل دور البديل عن الملك هو شرف له لأنه يؤدي خدمة لمملكته وملكها.
ومرت الأيام واقترب موعد مصير إنليل- باني، و حدث إنقاذ غير عادي، يبدو أن الملك إيرا-إيميتي الذي كان مختبئا في ذلك الوقت قد اختنق حتى الموت أثناء تناول الطعام الساخن، ووفقا للنص فانه تناول العصيدة الساخنة (تشريب) أدت إلى وفاته كما جاء في النص التالي:
)dÈr-ar-zà.dib lugal dEn-l il-dù lúnu.kiri6 a-na nu nì.sag.gile ina gišgu.za-šú ú-še-šib aga lugalti-šú ina sag.du-šú iš-ta-kan dÈr-ra-i-mit-ti ina é.gal-šú pap-pa-su im-me-tú in sa-ra-pi-šú im-tu-ut dEn-l íl-dù šá in gišgu.za ú-ši-bi ul it-biim-tu-ut a-na lugal ú-tiit-taš-kan (
الترجمة: (الملك إيرا- إيميتي أجلس البستاني إنليل باني على عرشه كملك بديل، ووضع تاجه الملكي على رأسه، وعندما توفي إيرا-إيميتي بعد ذلك بسبب تناول العصيدة الساخنة في قصره، ظل إنليل-باني جالسا على العرش، ثم تم تنصيبه ملكًا).
توفي الملك إيرا-إيميتي في قصره ويمكن ان نضع ثلاث احتمالات لسبب موته: (1) إثر تناولة حساء ساخن جدا وبسرعة وربما تناوله مرغما وبالقوة. (2) إثر التسميط والحرق الذي ألم به بسبب انسكاب ثريد ساخن حارق عليه في الوليمة (الوليمة بالاكدية قارتايُ) (mQāritāiu). (3) تم وضع السم في الحساء الساخن وهو احتمال مقبول.
لو أخذنا النص المسماري فهو يشير إلى (تناول العصيدة الساخنة)، ومن الصعب جدا الاختناق والموت بتناول العصيدة الساخنة! انما على الارجح موت إيرا-إيميتي (أمر دبر بليل) فهو انقلاب على السلطة انتهى بقتل الملك فقد كانت الطبقات الحاكمة في ايسن وخاصة الكهنة في مأزق واغتنم البستاني انليل-باني الفرصة ورفض التنحي عن منصب الملك، وطلب ان يتوج ملكا على ايسن ومن المفترض أنه جادل بأن اختيارة كملك قد تم ترتيبه من قبل الآلهة، وتحققت النبوءة فمات إيرا-إيميتي الملك، وعاش إنليل-باني الملك.
ماتت السلالة الحاكمة القديمة، وأسس إنليل-باني سلالة جديدة، وأعاد ترميم معابد إيسن، وفيما بعد ذكر في النصوص بانه (ملك صالح) كما جاء في الالواح الطينية التي يحتفظ بها الكتبة والكهنة (يعمل الكتبة إما في المعابد أو القصور الملكية)، وكانت لحظة أصبح فيها أحد الأفراد المضطهدين المحكوم عليهم بالموت رئيسا للدولة وعليه ان يحكم بالعدل على أولئك الذين كانوا سيقتلونه.
كانت مملكة إيسن تعاني من مشاكل في ذلك الوقت، وكانت المدن المجاورة تهدد إمدادات المياه الخاصة بها، ولم تتمكن الأسرة الحاكمة القديمة من الحفاظ على قوة ومكانة إيسن، وكانت السلالة القديمة نفسها فاشلة لأن فترات حكم الملوك السابقين قصيرة جدا، وربما لم يكن إيرا-إيميتي نفسه من الخط الملكي المباشرعلى الأرجح كان مغتصبا للعرش، وربما استغل الكهنة الفرصة التي أتيحت لهم لقتل الملك السابق والتخلص منه، فالمعروف ان افسد مجموعة في المجتمع هم الكهنة فهم يسرقون مدخولات المعابد وما يقدم للآلهة من اموال وهبات، ويستغلون عبيد المعابد في ادارة شؤونهم الشخصية، ويفرضون الضرائب الباهظة على زوار المعبد.
ولدينا مثال قديم زمنيا حول فساد الكهنة وسرقتهم ممتلكات وزوارالمعبد، فقد ذكر أوركاجينا (Uru-Ka-gina) ملك سلالة لكش الأولى (2351-2342) ق.م، حول سيطرة كهنة الإله (نينكرسو) فزادوا غنى في ممتلكاتهم على حساب الآلهة، فسرقوا الحبوب والاصواف وفرضوا رسوم كبيرة على الفقراء ومنها مثلا الرسوم العالية على دفن الموتى، فاطاح الملك أوركاجينا بهؤلاء المستغلين وقدم لنا قائمة بإصلاحاته الاجتماعية.
كما وصلتنا من خلال الرقم الطينية مثل آخر على استغلال المنصب وسرقة المعبد ويعود زمنيا إلى النصف الثاني من الالف الأولى ق.م إلى فترة حكم دارا الأول أو داريوس الملك الاخميني (Darius) (522-486) ق.م، عندما ذكرت حالة نصب واحتيال قادها جميل أو جميلو (Gimillu)، ابن إنانا-شوم-ابني، (Innina-shum-ibni) ولم يكن جميل سوى عبد (بالأكدي وردو wardu) في خدمة الإلهة إنانا (عشتار) في مدينة أوروك (موقع الوركاءعلى بعد 30 كم تقريباً شرق مدينة السماوة جنوب العراق)، واحتل منصب اداري كبير في المعبد بمثابة (الرئيس المسؤول عن الحبوب والمواشي في المعبد)، ومارس عمله في (السنة الأولى) من حكم داريوس من (9) أرخ أيلولو (أيلول) وإلى (27) أرخ سمنا (Arahsamna) (تشرين الثاني) من عام (521) ق.م، وكانت بابل تحت ثورة نبوخذنصر الثالث، واستفاد جميل من انهيار سيطرة الحكومة، فحقق العديد من عمليات الاحتيال والنصب فسرق حبوب المعبد، وسخر الثيران للعمل في المزارع خارج نطاق ملكية المعبد، وسرق الحديد من المعبد، وعقد صفقات واستلم رشاوي حسب رغبته في الثراء، وبذلك اغتنى باموال المعبد، وتم محاكمته وإدانته فنال العقاب الذي يستحقه، وهناك الكثير من الامثلة على تجاوزات الكهنة على املاك المعابد، ويبدو ان الملك إيرا-إيميتي عندما استلم عرش ايسن اقام محكمة للقضاء وللنظر في الدعاوي والتجاوزات ومنها ما يخص املاك المعابد، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير.
على العموم أدرك البستاني إنليل-باني الموقف وأقنع الكهنة ووجهاء المدينة بالتعاون معه وعمل انقلاب يؤدي إلى قتل الملك بدلا منه، ويمكن ان نعتبر مقتل الملك إيرا-إيميتي واحدا من أكثر الانقلابات جرأة في التاريخ، وجرى اتصال الكهنة مع علماء الفلك وخططوا للانقلاب منذ البداية بما فيها سيناريو العصيدة الساخنة !
لن نعرف القصة الحقيقية أبدا، إنه لغز عمره ثلاثة آلاف وثمانمائة عام الاحتمال الكبير كانت جريمة قتل بوضع السم في العصيدة فكانت النهاية سريعة، ومهما يكن الامر أصبح انليل-باني (Enlil-bāni) (1860-1837) ق.م ملك مملكة ايسن، وحكم (24) عاما، ولا نعرف إذا حمل اسم انليل-باني عندما كان بستانيا أو اطلقه الكهنة والكتبة عليه كاسم ملكي بعد سيطرته على العرش فمعنى اسمه (الإله انليل الخالق)، كما جاء في نشيد مكرس لهذا الملك : (أنت الذي تحب ان تمنح الحياة)، وأخذ مكانه في قائمة ملوك بلاد الرافدين، وتضمنت سنوات حكمه أنشطة ملكية معتادة مثل تزويد الآلهة بالتماثيل والأثاث، واختيار وتثبيت الكهنة في المعابد، وتقديم الهدايا لهم وللآلهة العظام، واجراء الترميمات في معابد ايسن، وهناك أيضا نقوش مدح وإهداء للذات فيما يتعلق ببناء المعابد وتجديد سور مدينة إيسن، هذا الانقلاب السياسي الذي اوصل البستاني انليل-باني إلى منصب الملك نبه ملوك بلاد الرافدين (البابليين والاشوريين) فيما بعد عند حدوث (كسوف الشمس) يختارون رجل مختل عقليا (مجنون) يؤدي دور (البديل الملكي) ويتم قتله فيما بعد، وصدق من قال: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).
2238 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع