د.صباح جمال الدين
الماء و المعرفة في اللغة العربية
احببت العربية منذ كنت طفلاً ، ومن قراءاتي الكثيرة ، رأيت ان الكلمات العربية ذات المدلول الفكري والمعرفي ، لها علاقة بالماء ، بل ووجدت ان ارتباط الماء بالفكر واضحٌ في الكثير من الكلمات والتعابير العربية وهذه امثلتي ، فنحن نقول في العربية :
١- انه ينهل العلم نهلاً : والنهل اول شرب الماء !
٢- ونقول : هذا مورد للشرب : والمورد عند العرب هو الطريق الى الماء ، ونستعمل كلمة
(المورد) الآن للكتاب الذي نأخذ منه المعرفة !
٣- ونقول الكتب المصادر : والمصدر عند العرب في الجزيرة العربية ، طريق الخروج من الماء بعد الارتواء ، والكتب (المصادر) هي المراجع للمعرفة اليوم !
٤- وتقول لصاحبك : من اين (استقيت) هذه المعلومات ؟ والاستقاء من سقى يسقي للماء .
٥- ونقول : ان فلاناً (استنبط) هذه الفكرة ، والاستنباط مأخوذ من نبط الماء من الارض .
٦- وتقول : ان لفلان (سيل) من المعلومات والأفكار : والسيل صفة للماء في جريانه .
٧- وتقول : أنا (متعطش) لمعرفة هذه المعلومات ، والتعطش والعطش عادةً لشرب الماء !
٨- وتقول :(ادلى) فلان برأيه ، والفعل ادلى من الدلو ، وهو وعاء لسحب الماء من الآبار !
٩- وتقول : فلان (متبحر) بالعلم والمعرفة : والتبحر من البحر ، والبحر ماء كثير!
١٠ وتقول : فلان (زاخر) بالمعرفة والعلوم : والزاخر صفة للبحر والبحر ماء !
١١- وتقول : هذه من (الموجات) الفكرية : والموج والموجات من صفات الماء !
١٢- وتقول : (منابع) المعرفة : والمنابع مصادر الماء من الارض!
١٣- وتقول عن الشاعر : (فاضت) قريحته ، والفيضان يكون في الأنهار ، والنهر ماء!
١٤- وتقول : (روى) فلان عن فلان : وروى يروي والارتواء للسقي ولشرب الماء !
١٥- وتقول : انك (لتغرق) في علمه ، والغرق في الماء !
١٦- وتقول : روافد العلم والمعرفة ، والروافد تقال للماء كأرض الرافدين !
١٧- وتقول : تدفق بالعلم والحكمة ، والدفق والتدفق تقال عن مجرى الماء !
١٨- وتقول : التيارات الفكرية ، والتيار تقال غالباً في تيارات الماء !
١٩- وجاء في القرآن الكريم ، في الآية السابعة من سورة هود :(وهو الذي خلق السماوات
والأرض في ستة ايام ، وكان عرشه على الماء ) وفسر كثير من علماء التفاسير ان (الماء)
هنا هو العلم ، لان الله لم يكن بعدُ قد خلق الارض والسماء !
٢٠- وفي حديث لابن عباس يصف علمه بالقرآن الى علم الامام علي ، قائلا :
(فإذا علمي بالقرآن ، في علم علي ، كالقرارة بالمثعنجر) اي كالغدير في البحر ! والغدير والبحر ماء !
اكتفي بالعشرين مثالاً ، اذ ان هنالك كم كثير من الكلمات العربية بهذا المفهوم لا تُحصر عددا.
وحاولت ان اجد تفسيراً لذلك ، وكان الدكتور طه باقر عالم الآثار العراقي ، قد ذكر اثر السومرية على العربية بأمثلة تجاوزت المائة من الكلمات السومرية في العربية ، وذلك في كتابه (من تراثنااللغوي القديم) وعدت الى الميثولوجيا السومرية ، حيث ان في (الديانة) السومرية أربعة آلهة رئيسية في خلق الكون ، وهم :
(١) آنو - اله النور ، ورمزه النار .
(٢) انليل - اله السماء ، ورمزه الهواء .
(٣) جيا او گيا - اله الارض ، ورمزه التراب .
(٤) أيا او أنكي - اله الماء والمعرفة !
وبدا لي ان تماهي الماء والمعرفة في الديانة السومرية هو ما جلب للغتنا الجميلة هذه الخاصية
وكنت في نهاية الألفية المنصرمة في (١٩٩٩) قد أتممت بحثاً بهذا الصدد ، ولم انشره او أفصح عنه ، الى اليوم لابحث في كل كتب فقه اللغة العربية التي قدرت ان أصل اليها ، حوالي العشرة ، فلم اجد في ايٍ منها حتى تلميح عن هذه الخاصية الجميلة ، كما مررت على كتب تبحث في جماليات اللغة العربية فلم اجد أياً من مؤلفيها قد ذكر او لمَّح عن هذه الخاصية ، فتأكدت انفرادي بمعرفة هذه الخاصية الجميلة للغتنا الجميلة ، فأسعدني ذلك لأَنِّي اول من عرف هذه الخاصية فألقيت محاضرة بهذا الشأن في ( ديوان الشذر الثقافي ) في لندن ، وناقشني الحضور عن العلاقة بين السومرية والعربية فقط ، منكرين ان للغتنا هذا القدم ! ولم يثنِ احد عليَّ في الجانب الجديد لجمال العربية ! لغتهم الرائعة ، ثم شاء لي (سوء الحظ) ان اشترك بأحدى قنوات الزوم العربية بأمريكا ، وما انتهيت من كلامي حتى انهال علي بعض المستمعين العراقيين ، في سجال حاد ومعارضة في ان السومرية لا علاقة لها بالعربية بتاتاً ، مع اني كررت ثلاث مرات ان الهدف من المحاضرة هو بيان جمالية جديدة للغتهم ولغتي الحبيبة ، لم تذكرها كتب فقه اللغة العربية ابداًً، باءت جهودي بالفشل في إقناع الأدباء (وعلماء اللغة !!) بما اردتُ، وأصرَّ الجميع على ان لغتهم لما تزل حديثة ولا امتداد لها في التاريخ !!! وكان املي في اهل اللغة الذين استمعوا الى كلامي ، أن سيفخرون معي بلغتهم البليغة المتميزة الجمال ! وخاب املي بهم فالعربية التي برأيي تمتاز عن كل لغات العالم بمواصفات جمالية ، لا نجدها في اي لغةٍ اخرى ! وتحديتهم ان يجدوا اي إشارة غير الإله السومري (أنكي) جمع الماء بالفكر ، والحضارة السومرية اقدم حضارات المنطقة بل العالم ، وصدمت من حرب العرب للغتهم في الأدب ، ولأنفسهم في السياسة ، ووقوفهم أعداء لكل من يأتي بشيء يعلي من شأنهم وشأن لغتهم !
لقد قضيت اكثر من عشرين عاماً بين معاهد اللغات المختلفة ، فلم اجد لغةً غير العربية لها صفة جمع الماء بالمعرفة ، وسألت كثير من علماء التاريخ القديم ، هل احدهم رأى مصدراً آخر غير آلهة السومريين الذين انفردوا في جمع المعرفة بالماء ؟ فلم اجد !
1092 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع