الرخاء الجماعي

د يسر الغريسي حجازي
دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس الاجتماعي
مستشارة نفسية ومدربة نظامية
27.06.2025

 الرخاء الجماعي

نظرية الإيجابية السياسية تصنع شعوب سعيدة ورخاء جماعي.
ان الايجابية مذهب ونظرية في آن واحد. إنها مذهب فلسفي يؤكد أن المعرفة الحقيقية لا تُكتسب إلا بالملاحظة والتجربة، وأن العلم هو المصدر الوحيد الصحيح للمعرفة..
تعكس نظرية الايجابية منظورًا إيجابيًا، قائمًا على ملاحظة الحقائق والظواهر. وتُعتبر انعكاسًا للحقائق الاجتماعية بجميع أبعادها الاجتماعية.
يمكن لنظرية الإيجابية أن تؤثر على المواطنة من خلال تعزيز التعليم، واتخاذها نهجًا علميًا وعقلانيًا للمعرفة، مع التركيز على الملاحظة، والتجربة، والقوانين. كما يمكن تعزيز التقدم الاجتماعي والبحث عن حلول عملية للمشكلات الملموسة. وفقًا للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت: "تلعب الايجابية دورًا جماليًا في أشكال معينة، مثل العمارة، مع التركيز على النظام والانسجام. وهي مفاهيم يمكن ربطها بالجماليات الايجابية، ولكنها ترتبط دائمًا بأساس واقعي وملموس".
للفن تأثير عميق وإيجابي على الدماغ، إذ يحفز الإبداع والخيال والعواطف. بل يمكن أن يكون له آثار علاجية، إذ يُحسّن الثقة بالنفس والقدرة على التعامل مع التوتر.
لماذا لا يتبنى القادة السياسيين نظرية الإيجابية، كمشروع سياسي في بُعده المتعلق بالتقدم والنمو الاجتماعي؟ لماذا لا يروجون لرؤية إنسانية وخير للجميع؟ أين دور التعليم في توعية الشباب وقادة المستقبل، لتطبيق إصلاحات تُعلي من شأن العمل العلمي والعقلاني؟ نعرف إجابات هذه الأسئلة جيدًا. إليكم بعض الشهادات المختارة عشوائيًا: في عام 2017، انتقد نجم الهيب هوب إيكون القادة، قائلا:" القادة الأفارقة يتجاهلون شعوبهم، ولا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة". وأوضح الفنان: "يجب أن تكون قادرًا على معرفة ما هو الأفضل لشعبك، وأن تسمح له بالقوة والتمكين، لأن القائد يكون قويًا عندما يكون شعبه قويًا"(بي بي سي - أخبار أفريقيا، 2017). من ناحية اخري، وفي ختام قمة الألفية في سبتمبر/أيلول 2000، أقرّ قادة العالم بواجباتهم تجاه جميع مواطني العالم. وأكدوا معًا أن الأمم المتحدة هي ملتقى لا غنى عنه لتحقيق تطلعات السلام والتعاون والتنمية، إلا أن ثقافة الإيجابية لا تزال بعيدة المنال.
لكن تطبيق الايجابية في السياسة محدود للغاية، لأن القرارات في العمليات السياسية نادرًا ما تستند إلى اعتبارات اجتماعية وأخلاقية بينما يُركز التفكير الإيجابي على البيانات والملاحظة العلمية، والتجريبية. كما تأخذ نظرية الإيجابية بعين الاعتبار تعقيد الظواهر الاجتماعية والثقافية والتاريخية. ومع ذلك، نادرًا ما تستند القرارات السياسية إلى الحقائق والأدلة فحسب، والاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية. وهي ليست القوة الدافعة الوحيدة في السياسة، على سبيل المثال القرارات السياسية تتأثر بشكل كبير بالأمور التي تؤكد على قوة المال والربح. وهذا النظام الاقتصادي والسياسي يعتمد على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والسعي لتحقيق الربح مع الحرية المركزية للسوق.

هذا يعيدنا إلى الفترة التي ارتبطت فيها عقيدة المذهب التجاري، من القرن السادس عشر إلى السابع عشر، ارتباطًا وثيقًا بالفكر الاستعماري. واعتبر في ذلك الوقت، ان تجارة المستعمرات مصادر ثروة تُستغلّ لمواردها الطبيعية. وذلك من اجل تحقيق ميزان تجاري يسمح بالتصدير أكثر من الاستيراد، والاستثمار في المعادن الثمينة (الذهب والفضة) التي تُعتبر مصدرًا للثروة والقوة. في الواقع، يميل الاستعمار التجاري إلى جعل المستعمرات تابعة اقتصاديًا للدولة الأم. وفقًا لاتفاقيات استعمارية، هي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. ولهذا السبب، يختاروا المستعمرين قادة فاسدين وجشعين حتى يتمكنوا من استغلال ثروات الدول غير المستغلة. ويستمر هذا النهج التجاري اليوم في السيطرة على الاحتكارات التجارية، لتعظيم الأرباح وجعل دول العالم الثالث ضعيفة اقتصاديا وبدون تنمية صناعية.
للسياسة دورٌ ذاتيٌّ غالبًا لا ينطوي على أحكامٍ قيميةٍ واعتبارات عشوائية، وهذا ما يصعب على الفلسفة الايجابية دمجها في إطارها. ويواصل السياسيون لعبتهم دون مراعاة لتصورات وتوقعات ناخبيهم، وسرعان ما تتلاشى وعودهم بعد انتخابهم. في حين أن الانظمة يمكنها أن تساعد في خلق بيئة ثقافية أكثر ملاءمة للإيجابية. إذا عمل جميع الساسة على السياسية المتساوية والسماح بالمشاركة الفعالة للشعوب في صنع القرار، فإن تبني نظرية الإيجابية تعني تعزيز السلام وخلق مناخ مواتي للتنمية البشرية والقضاء على الفقر، وضمان حرية الوصول إلى المعلومات حول الجينوم البشري.
كما ان تطبيق سياسات إيجابية في دول العالم، سيمكن كل مواطن من اختيار مساره المهني الذي يحلم به وتحقيق طموحاته من خلال فضائل الصدق والشغف. فالشغف يزيد من الدافعية والمثابرة، والإبداع، والقدرة على تجاوز العقبات. كما أنه يعزز الشعور بالإنجاز والرفاهية. ان الشغف الموجه يساهم في تحسين الإنتاجية، وتحقيق الذات.
تصور أنك تختار المهنة التي تحلم بها، اوانك تمارس الأنشطة التي تستمتع بها بدون قيود مالية او حواجز اجتماعية وامنية. هي جزء من الثقافة الإيجابية، وهو الخيار الوحيد لحياة سعيدة ومرضية للجميع. وهنا يأتي دور السياسة التعليمية في غرس القيم والأفكار.
كما تُساهم السياسة التعليمية الإيجابية، في تعزيز نهج الموضوعية والعقلانية للتعلم، وتشجع التفكير النقدي وحل المشكلات. فهي تسعي لتحقيق العدالة في النظام التعليمي. ومن خلال إعطاء الأولوية لأساليب التدريس القائمة على الأدلة، يُمكن للسياسة الإيجابية أن تُحسّن فعالية التدريس والتعلم وتكافؤ الفرص في سوق العمل.
كان أوغست كونت (1758-1857)، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، رائدًا لفلسفة الايجابية في القرن التاسع عشر. وقد صرّح قائلًا: "إن ثقافة الايجابية ترتبط في المقام الأول بالمعرفة العلمية القائمة على الملاحظة والتجربة". ويرى أن الملاحظة والتجربة هما الشكلان الوحيدان الصحيحان والموثوقان للمعرفة" (كل. برنارد، مقدمة، تجربة متوسطة، 1865، ص 351).
بالنسبة لأوغست كونت: "برزت الاهتمامات الاجتماعية، وعلى الشرق والغرب، إذن، أن يبحثا، خارج أي معتقدات اخري، عن الأسس المنهجية لتواصلهما الي الفكر والأخلاق". ,
(هيوغ، حوار مع المرئي، 1955، ص 422).
من الواضح أن هذا الاندماج الذي طال انتظاره، والذي يجب أن يمتد تدريجياً إلى جنسنا البشري بأكمله، لا يمكن أن ينبع إلا من نظرية الايجابية، أي من عقيدة تتميز دائماً بدمج الواقع مع المنفعة الجماعية. (كونت، التعليم الوضعي، 1852، ص 7).
كما يستكشفوا علماء السيكولوجية الايجابية في أعمالهم الظروف النفسية التي تُمكّن الأفراد من الازدهار وعيش حياة مُرضية، مُحوّلون التركيز من علاج الأمراض النفسية إلى تعزيز الرفاهية.
ذلك ما يوضح ان تنمية السعادة للأفراد وإطلاق العنان لإمكاناتهم، لا يأتي الا من خلال تطوير بيئة تعليمية وثقافية مزدهرة، فضلاً عن التقدم التكنولوجي. إن ضمان تكافؤ فرص التعليم يُمكّن الجميع من تطوير كامل إمكاناتهم، مما يُحفّز الابتكار والإبداع في جميع المجالات. ومن خلال تشجيع مشاركة الجميع في التعليم والثقافة والمواطنة، فإننا نعمل على تحفيز الإبداع والابتكار والتطوير الشخصي، وبالتالي خلق بيئة أكثر ملاءمة للنمو الفردي والجماعي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

690 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع