بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2024
النهر اعطى طفلا
(Naru-eriba)
صورة خيالية من العهد القديم تعود لعام (1900) ميلادي ، تصور الطفل موسى الذي عثرت عليه ابنة الفرعون
وردت حادثة في نص مسماري من العهد الاشوري الوسيط (1521-911) ق.م، وهي كما يلي: ذات مرة فتاة امتو (amtu) (عبدة من العبودية) (بالعربي الأمة) تعمل تحت امرة سيدة البلاط تدعى كورصيبتو (Kurşiptu) معنى اسمها (الفراشة)، وجدت طفلا رضيعا في النهر (طفل باللغة الأكدية يليدُ (illidu)، أو وليد كما في اللغة العربية) ، وأطلقت عليه اسم (القرد) بالأكدي باكو(pagû)، وكما جاء في النص:
(الفتاة امتو (العبدة) التي تخدم السيدة كورصيبتو، وهي سيدة قصر آشور-إدن (Assur-iddin)، وجدت في نهرُ-إيريبا (Naru-eriba) )القرد(، ورفعته من النهر، واخذته، فهو ابنها، يجب على أي شخص يريد استعادته يلجأ إلى القانون، وتقديم شكاوى ضدها، وان فشل في شكواه، يعطي ستة أبناء (بمعنى عبيد) (العبد بالأكدية وردو Wardu) (و) السماح لها بالرحيل، بأمر من الآلهة، ولا يمكن للناس أن يأخذوا (القرد) بالقوة).
معنى عبارة نهرُ-إيريبا (Naru-eriba) (النهر أعطى طفلاً)، وهي عبارة تدل على أن الطفل الرضيع لقيط، واللوح المسماري هو إعلان رسمي يثبت أن الطفل لها، وسيبقى لها، ثم ذكر في اللوح أربعة آلهة شهود لهذه الوثيقة، وليس هناك معارض لأن القرار واضح ولا رجعة فيه، اما تسمية الطفل الرضيع باسم (القرد) (باكو) من قبل المرأة العبدة، فهو اسم شخصي غير عادي لكنه متعارف عليه في التقاليد العراقية القديمة حيث تطلق أسماء وضيعة لإبعاد الحسد وحتى يعيش الطفل ولا يموت، فنجد من الأسماء من هذا النوع (زبالة، مطشر، جلوب، صرصر ..الخ)، وهكذا القضية برمتها تنص العثور على طفل رضيع بالصدفة في النهر!
نجد فكرة وضع الطفل الرضيع في سلة (قفو) (Quppu) (الكفة) مطلية بالقار ورميه في النهر في قصة سرجون (Sargon) بالأكدي شاروكين (Sharrum-Kin) الملك الأكدي (2371-2316) ق.م، فقد كانت والدة سرجون كاهنة عظمى (ناديتو) (Naditu) لا يحق لها انجاب اطفال باعتبارها زوجة الإله، وذكر النص بعد وضع الطفل الرضيع سرجون في السلة (قفو) رمي في نهر الغراف، وبعدها انتشل من قبل آكي (Aqqi) الذي يعمل ساقي لدى أور-زبابا (Ur-Zababa) ملك كيش (Kish)، وهناك عاش سرجون في القصر الملكي، ونقرأ نفس الفكرة في قصة موسى (1391-1271) ق.م (التاريخ غير مؤكد)، وردت القصة في الكتب السماوية، فعندما وضع الطفل الرضيع موسى في سلة مطلية بالقار من قبل أمه وهي من قبيلة الاويين، تم رمي السلة في نهر النيل، فعثرت عليه ابنة الفرعون، وعاش في القصر الملكي، كما نجد تكرار الفكرة في رمي الطفل الرضيع في النهر في اسطورة رومانية وبطلها الاخوين رمولوس (Romulus ) وريموس (Remus ) في ايطاليا عام (753 ) ق.م عندما وضعت امهم الطفلين الرضيعين في سلة مطلية بالشحم ثم رمت السلة في نهر التايبر (Tiber ) وعثرت عليهما ذئبة فاعتنت بهما.
ان وضع الاطفال في سلال (القفة) أو طوافات من الخشب (كلكو) (بالاشوري Kalakku) (بالعراقي كلك)، أو الاغصان أو كرب النخيل، ورميهم في النهر يتحقق منها ثلاث اشياء:
(اولا): الخوف على الاطفال الرضع من القتل والعار والفضيحة كما في الامثلة اعلاه.
(ثانيا): عند رمي الأطفال الرضع في النهر لا يعني قتل الطفل الرضيع كما نتصور انما إيداع الطفل عند الآلهة كي ترعاه وتحافظ عليه، ففي حالة سرجون رعاه الإله السومري انكي (Enki) (بالأكدي آيا Ea) الذي عرف عنه بانه إله المياه والانهار، والحكمة، وأيضا احبته الإلهة عشتار وحرسته منذ ولادته، وسلم الإله (آيا) الطفل الرضيع لآغنى عائلة تقوم برعايته، وفي حالة الطفل الرضيع موسى سيحافظ الله عليه ويسلمه إلى اغنى عائلة في مصر لترعاه، اما في حالة رمولوس واخية ريموس فقد رعاهم الإله جوبيتر كبير الآلهة الرومانية، وانقذتهم الذئبة وقامت بارضاعهم فمنحتهم القوة والشجاعة حتى وجدهم الراعي وعاشا عنده وعندما اصبحا شابين عرفا اصلهما النبيل .
ثالثا: الشخصيات الثلاث بعد نجاتهم من امواج الانهار اصبحوا ملوكا مشهورين، فاصبح سرجون الأكدي ملك أكد، واسس الدولة الأكدية التي اصبحت أول امبراطورية في العالم فيما بعد، وشيد عاصمة جديد له تدعى (اكادة)، كما اصبح من اشهر ملوك بلاد الرافدين، وبالنسبة إلى موسى اصبح ملكا فقد خرج من مصر ومعه (600) الف مهاجر عبري، فكان قائدا وملكا (في التوراة لا يطلق على موسى لقب نبي)، واسس اتباعة دولة في فلسطين، وآمن بافكاره اليهودية الملايين من البشر، واصبح لدية شهرة في الكتب المقدسة (التوراة، والانجيل، والقرآن)، أما رمولوس في ايطاليا فقد اصبح أول ملك في شبه الجزيرة الايطالية والتي تحولت إلى امبراطورة عاصمتها روما وهو الذي خططها وشيدها بنفسه كعاصمة جديدة أخذت اسمها من اسمه.
ان رمي الطفل الرضيع في النهر (Naru-eriba) سجل مرة أخرى على نموذج ساق طفل من الصلصال يقارن بنماذج أرجل الأطفال الحديثي الولادة وصنعت من الصلصال أيضا، يبقى ما هو الغرض من رمي طفل حديث الولادة في النهر؟ الاحتمال الأكثر قبولا تخص النساء اللواتي حرمن من حريتهن أوخضعن للعبودية وأمامهن أحد الخيارين اما بيع أطفالهن فيخضع الطفل للعبودية طيلة حياته أو التخلص من الطفل بإيداعه النهر(Naru-eriba)، ووفقا لنص التبني، تم تسجيل اللقيط بالقدم التي تم قياسها وتسجيل حجمها، إن محتوى النص المسماري للفتاة امتو (العبدة) رائع خاصة في الإشارة إلى اربعة آلهة باعتبارهم الشهود في اللوح، وقد يعتقد البعض ان الفكرة برمتها اسطورة، وحتى من السهل اعتبارها وهمية، ولكن هناك وثيقة قانونية مماثلة وهي عقد بيع من العهد الاشوري الحديث لجزء من أرض قاحلة عند مدخل العالم الأسفل، ياترى ماهي الجدوى الاقتصادية من شراء أرض كهذه ؟ من الصعب إعطاء تفسير واضح للعقود القانونية التي تعود زمنيا إلى ثلاثة الاف عام مضت.
579 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع