حكاية الشتاء العراقي وانجماد الأنهار.. الجزء الأول

الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل



حكاية الشتاء العراقي وانجماد الأنهار.. الجزء الأول

دخلت البلدان الواقعة في النصف الشمالي من خط الاستواء من الكرة الأرضية، ومنها العراق، يوم الخميس الماضي الموافق 2023/12/21 فلكيا فصل الشتاء، وكانت ليلة الخميس الماضي أطول ليلة العام ونهاره أقصر نهار العام 2023، وخلال فصل الشتاء يصبح الليل أكثر طولا من النهار.

بعد قساوة الصيف اللاهب الذي عايشناه، حيث بلغت درجات الحرارة مستويات قياسية، تتطلع أنظار الناس إلى فصل الشتاء الذي من أبرز سماته البرد والمطر والثلج وهم لا يدرون هل سيكون شتاءا قاسيا ببرودته كما كان الصيف قاسيا بحرارته!.


المناخ العراقي:
يتميز العراق بتنوع مناخه وتباينه: فمناخ شماله يشبه مناخ البحر المتوسط، ومناخ وسطه هو أنموذج لمناخ السهوب، بينما الأجزاء الجنوبية منه يسودها المناخ الشبه مداري حيث الحرارة والرطوبة العاليتين صيفا.

ومع هذا التنوع الكبير في مناخ العراق، فهناك تنوع كبير في المحاصيل الزراعية، وهذه المسألة لا يشعر بها سوى الذين يعيشون في بلدان المهجر. من ناحية ثانية فإن التباين الكبير بين درجات الحرارة صيفا وشتاءا في العراق قد يتجاوز 50 درجة مئوية في السنة الواحدة، مما يتطلب من المواطن تهيئة أقوى وسائل التبريد صيفا وأقوى وسائل التدفئة شتاءا!! وهذا ما لاحظته شخصيا عند معايشتي في عدة بلدان.

إن أوضح الفصول في العراق هما فصلا الصيف والشتاء، أما الربيع والخريف فهما فصلان معتدلا الحرارة ترتاح بهما النفوس من حرارة الصيف اللاهبة وبرد الشتاء القارص.

انسجاما مع التباين الكبير بين فصول السنة، فقد وضع العراقيون العديد من الأمثال الشعبية والتي تصف بدقة حال كل فصل من شهوره المُميزة. فهناك عدد من الأمثال لشهر شباط لها حضور كبير في التراث العربي والأمثال الشعبية في العالم العربي، وقد قيل في الامثال أن "شباط عدو العجايز" لما يتضمنه من برد شديد. وقد كانت جدتي فاطمة رحمها الله تتدثر بجاجيم صوف أحمر وتضمني وأخوتي معها وتحكي لنا القصص الجميلة عندما يكسكن برد شباط.

ومن الأمثال الشعبية عن شهر شباط: (شباط قطع الرباط وقرقع البيبان)؛ كناية عن نشاط الرياح في هذا الشهر.

ويرتبط الحديث عن خمسينية الشتاء في التراث الشعبي في العراق ودول بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية ببرد العجوز وهي 7 أيام، أربعة منها آخر شهر شباط وثلاثة في بداية شهر آذار، وتتميز هذه الأيام بشدة البرد.

يقال أن مصطلح (برد العجوز) يعود للموروث السومري، ويتحدث عن أرمله كسرت قوانين الشريعة السومرية التي تمنع المطلقة والأرملة من الزواج فتزوجت، وفي صباح عرسها هبت موجة برد شديد جعلت العجوز تموت من البرد، فذاع بين الناس أن الاله أماتها بسبب انتهاكها هذه الشريعة!!

وهناك سالفة شعبية عن (برد غيلان)، وهو البرد المفاجئ الذي يحدث لعدة أيام في أواخر شباط، وقد دُعي هذا البرد بهذا الاسم من القصة التي كانت تدور على السِنة العامة ومفادها أنه بينما كان (غيلان) وشقيقه يقطعان صحراء البادية على ناقتيهما، جاءهما برد شديد، فاخبر (غيلان) أخاه بأن ذلك البرد قد يسبب لهما الهلاك لشدة البرودة. فاقترح (غيلان) أن ينحر كل منهما ناقته ويخرج أحشائها ويكمن وسط بطنها لتمر تلك المحنة، فلم يوافقه أخوه بينما نفّذ (غيلان) رأيه. وكانت النتيجة أن نجى (غيلان) من الموت ومات أخوه الذي أبى أن يأخذ برأيه، فدُعيت تلك الأيام بأيام (برد غيلان)، ولو حصلت مثل هذه الموجة من البرد في نهاية شباط فهي (برد غيلان).



التغيرات المناخية:
تشهد الأرض تغيرات مناخية لا نشعر بها على المدى القصير من تغير في سلوك الحرارة، واتجاه الرياح، ومنسوب تساقط الأمطار لكل منطقة من مناطق الأرض.

في الثامن عشر من أغسطس 2019، أقامت آيسلندا جنازة لأول نهر جليدي Okjökull يُفقد نتيجةً للتغير المناخي. وهذا النهر هو معلم تاريخي من الجليد غطى أكثر من 38 كم مربعًا من المرتفعات الآيسلندية في مطلع القرن العشرين ولكن انتهت أيام مجده، فقد تقلص إلى أقل من 1\15 من حجمه السابق، فاقدًا تصنيفه (نهرًا جليديًا) بشكل رسمي. وقد شُيدت جدارية تخليدًا لذكرى الفقيد، وقد حضر المراسم الحزينة قرابة مئة شخصية وعلى رأسهم رئيسة وزراء آيسلندا كاترين جاكوبسدوتير. علما أن بحثي في دراسة الماجستير في جامعة مانشستر كان يتضمن بناء معادلات رياضية لنهرين في آسلندا هما Jökulsa Eystri و Vatnsdalsa، حيث أن النهر الأول Jökulsa Eystri كان يتجمد في فصل الشتاء.

لقد أشار بعض العلماء إلى أن الزحف الجليدي يتقدم الآن باتجاه جزيرة العرب، والذي يحمل معه الثلوج والأمطار، التي تكون عادة سببا في إنبات الزرع وكثرة الخيرات، والله تعالى قادر على أن يحول جزيرة العرب إلى جنات وأنهار وسهول فيحاء وظلال ممدودة؛ وهذه العلامة لم تظهر بعد.

عن أبي هريرة أن الرسول (ﷺ) قال: "لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضُلّال الطريق، وحتى يكثر الهرج، قالوا وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل".

وعنه (ﷺ) أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا".

فهذا كلام واضح وصرح عن الذي لا يَنطق عن الهوى (ﷺ) أن صحراء الجزيرة العربية ستغطيها المروج ( المراعي) والأنهار، قبل قيام الساعة، وقوله (ﷺ): (وحتى تعود) يدل على أنها كانت كذلك في وقت سابق، وأنها ستعود إلى حالتها الأولى، وأن طبيعتها الصحراوية الجافة هي حالة طارئة عليها.

لقد كان للتغيرات المناخية تأثيرات كبيرة على مصر القديمة، فخلال فترة امتدت من أربعين إلى خمسين سنة، وبحلول نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، تدمرت تقريبا كل المدن ذات الأهمية الجوهرية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، ولم يتم إعمار معظم تلك المدن بعد ذلك.

وبحسب دراسة أعدها المؤرخ روبرت دريويس، في الفصل الأول من كتابه "نهاية العصر البرونزي"، كان كهنة مصر على علم سابق بأن هناك خطرا يقترب، ربما لأنهم قد طوروا منظومة معرفية صلبة تعمل على فهم ارتفاعات وانخفاضات منسوب مياه النيل وتتوقع المستقبل من خلالها. وفي تلك الفترة قرر رمسيس الثاني، فرعون مصر الثالث من حكام الأسرة التاسعة عشرة، أن ينتج ويجمع من الحبوب والغذاء والمياه أكبر قدر ممكن ويقوم بتخزينها كي يتجهز للجفاف القادم. وقد شهدت مصر في تلك الفترة نشاطا غير مسبوق في زراعة الحبوب، حتّى إنهم قاموا بتهجين أنواع من الأبقار، وبقية الحيوانات المستأنسة، أكثر تحملا للجفاف، ثم جاء الزائر المنتظر، وصدقت التنبؤات، وحضر الجفاف.

وفي بلاد ما بين النهرين توصلت دراسة حديثة إلى أن ازدهار وانهيار الإمبراطورية الأشورية التي ظهرت في سنة 912 قبل الميلاد، كان بسبب التقلبات المناخية، وقد امتدت الحضارة الآشورية من البحر الأبيض المتوسط في الغرب إلى الخليج وغرب إيران في الشرق، حيث سيطرت على الشرق الأدنى لمدة 300 عام.

وبحسب ما نشرته جريدة "جارديان" البريطانية، يقول العلماء إن التقلبات في ثروات الإمبراطورية، تزامنت مع تحول دراماتيكي في مناخها من الرطب إلى الجاف، وهو تغيير مهم في الإمبراطورية التي تعتمد أساسا على المحاصيل الزراعية.

وكتب العلماء في دراسة: "إن نحو قرنين من هطول الأمطار وارتفاع المحاصيل الزراعية، شجعا التحضر عالي الكثافة والتوسع الإمبراطوري الذى لم يكن مستداما عندما تحول المناخ إلى ظروف الجفاف الشديد خلال القرن السابع قبل الميلاد".

وبعبارة أخرى، بينما لعبت الحرب الأهلية والتوسع المفرط والهزيمة العسكرية دورا في انهيار الإمبراطورية، فمن الممكن أن يكون الدافع الأساسي لحدوث ذلك، هو انحسار المحاصيل التي أدت إلى الانهيار الاقتصادي وتفاقم الاضطرابات السياسية والصراعات.

ارتباط الحضارات بالمناخ والطقس:
لقد ارتبطت حضارات العالم التاريخية بالمناخ والطقس، حيث يؤثر الطقس في ولادة أو موت الحضارات. إن المناخ السائد يتبع دورات منظمة، وقد وُجد إحصائيا ترابطا قويا بين حضارات العالم من حيث تطورها أو تراجعها من جهة وما بين الدورات المناخية التي تبدأ من 30-40عام وتمتد حتى قرابة 100 ألف سنة.

لقد سادت فترة مناخية باردة في القرنين الثالث والخامس الميلادي، وقد ترافق مع تلك الفترة انهيارا شبه كاملا للإمبراطورية الرومانية عام 455.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

825 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع