الشتاء وفاكهتها وحديث الذكريات

الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

الشتاء وفاكهتها وحديث الذكريات

لقد كان الصيف الماضي صيف 2023 هو الأكثر سخونة على الإطلاق على مستوى العالم، حيث كانت درجات الحرارة العالمية أعلى بمقدار 0.66 درجة مئوية من المتوسط، لتصل إلى متوسط عالمي قدره 16.77 درجة مئوية، وهو أعلى مستوى منذ بدء السجلات في العام 1940. وها نحن في هذه الأيام نتهيأ للدخول في فصل الشتاء الذي سيحل في يوم الجمعة 22 ديسمبر (كانون الثاني) لينتهي يوم الأربعاء 20 مارس (آذار) بإذن الله تعالى.

يوصف مناخ العراق بأنه شبة مداري من حيث الحرارة، ويتميز بصيف حار جدا وشتاء بارد. ولفصل الشتاء خصوصيته في العراق، حيث تنخفض درجات الحرارة فيه وتصل أحيانا إلى دون درجة الانجماد، كما قد يكون للثلج حضوره بدرجات متفاوتة في بعض المناطق، وبخاصة في شمال العراق.

الصورة الرئيسة لهذا المقال هي صورة تاريخية نادرة، وقد التقطتها امرأة إنكليزية عاشت لمدة ثمان سنوات بين العراق وإيران، وحفظت لنا تاريخاً غفل عنه كُتابنا ومؤرخينا، وهذه السيدة هي أم أي هيوم گرافث صاحبة كتاب " من وراء النقاب في بلاد فارس والعرب في الدولة التركية"، حيث يظهر تجمّد نهر دجلة في مدينة الموصل عام 1909.

تشير بعض الكتب التاريخية القديمة إلى تجمد نهر دجلة في بغداد في إحدى السنين أيام الدولة العباسية. وتشير مصادر أخرى إلى أن آخر سقوط للثلج في بغداد كان سنة 1902.

أما المعلومات التاريخية الحديثة فتشير إلى أن أبرد شتاء مرَّ على العراق في التاريخ الحديث كان سنتي 1947 و 1964، حيث بلغت درجات الحرارة إلى ما دون 3 درجات تحت الصفر في بغداد. وكانت درجات الحرارة في جبال السليمانية 17 درجة مئوية تحت الصفر في سنة 2021.

 

من العبارات الشائعة في العالم العربي عبارة "النار فاكهة الشتاء"، فالنار هي الأداة الفاعلية للوقاية من برد الشتاء، كما كانت النار هي الوسيلة التي تجتمع العوائل والأحباب من حولها.

لقد كانت مواقد الحطب والفحم هي الأدوات التي كانت تجتمع العوائل حولها قبل ظهور التلفزيون أو شبكات التواصل الاجتماعي. وكان الناس يقومون بتخدير الشاي وعمل القهوة على المنقل. كما كانوا يضعون ثمار البلوط القادم من الشمال على الفحم لينضج ثم يأكلوه حارا بعد تقشيره، وقد حل الشبلوط المستورد محل البلوط لاحقا.

فكان (المنقل) هو الأداة الرئيسة المستخدمة في التدفئة في المنازل، حيث يُستخدم الفحم كوقود أساسي فيه. ولا يزال يُستخدم (المنقل) إلى الآن في شوي المشويات؛ فضلا عن استخدامه في عمل الشاي والقهوة.

من مشاكل استخدام (المنقل) في التدفئة انبعاث غاز أول أوكسيد الكاربون CO في بداية احتراق الفحم، وهذا الغاز هو غاز سام وقاتل، وأتذكر في الستينيات و السبعينيات عندما شح الكاز عادت العوائل في الموصل إلى استخدام (المنقل) في التدفئة، وقد اختنقت عائلة وتوفي عدد من أفرادها بسبب استخدام (المنقل).

 

صوبة (علاء الدين):
كلمة (صوبة soba) مأخوذة من كلمة ( زوبا ) التُركية وتعني (مدفأة)، والصوبة هي وريثة المنقل، حيث تم إحلال الصوبة النفطية محل المنقل كأداة رئيسة للتدفئة.

لقد حلت الصوبات تدريجيا محل المناقل في العراق منذ النصف الأول من القرن العشرين، وهناك عدة أنواع من هذه الصوبات النفطية، إلا أن أشهرها هي صوبة علاء الدين (مصباح علاء الدين السحري Aladdin's magic lamp).

لقد كان أول دخول للصوبة إلى العراق هو دخول صوبة (علاء الدين) الإنكليزية التي دخلت الخدمة في منازل العراقيين عام 1916. وكان المستورد لصوبات علاء الدين (فورستر صباغ) في شارع الرشيد في بغداد الحبيبة.

ولم يكن اختيار اسم (علاء الدين) اعتباطا، لأن اسم (علاء الدين) مرتبط بالمصباح السحري!! فكأنهم أرادوا أن يقولون أن هذه الصوبة سحرية مثلما كان مصباح علاء الدين سحريا!!

فقد كانت البيوت العراقية، ولا زالت، لا تخلو من صوبة علاء الدين ذات البرج الفستقي المتكسر الألوان لعدم اختراع الالوان الحرارية بعد. كما كانت هذه الصوبة متحف ومستودع ذكريات للعراقيين حتى أضحت، ومنذ عقود، أحد أفراد العائلة العراقية ودخلت في تراث العراق الفني والأدبي.

وبالفعل كان للشركة المنتجة لصوبة (علاء الدين) ما أرادت من اختيار هذا الاسم لها: فكانت صوبة (علاء الدين) رفيقة العراقيين وأداة فعالة لديمومة الشعب العراقي أثناء الثورات والحروب والأزمات المتواصلة والأوقات العصيبة التي رافقته طوال قرن من الزمان: فهي مدفئة في فصل الشتاء، وهي طباخ للطبخ، وعمل اللبلبي والباقلاء والشلغم والفاصوليا اليابسة والشوندر وغيرها من العوامل المساعدة على ديمومة العائلة العراقية وسعادتها.

وكانت علاء الدين شواية لشوي اللحوم، وهي تنور لخبز الخبز أيضا!! كما كان الناس يضعون فوق الصوبة صينية مُثقبة يصنعوها خصيصا لصوبة علاء الدين لتخدير الچاي وحمي الخبر والكستناء وغيرها.

وخلال فترة سقوط الموصل قام بعض الصناعيون بتقصير طول بدن صوبة (علاء الدين) لزيادة شدة الحرارة من أجل استخدام الصوبة في الطبخ وكذلك لتسخين كتلي الماء للاستحمام بسبب انقطاع الكهرباء.

ومن الاستخدامات الأخرى لصوبة (علاء الدين) في أيام الأزمات كان الناس يقومون بعمل الخبز الشبيه باللبناني بعد أن يضعون (تيل مانع ذباب) فوقها. كما استخدم العراقيون صوبة (علاء الدين) لأغراض الطبخ وعمل مختلف الأكلات الشعبية مما ساعد على ديمومة العائلة العراقية وسعادتها.

وبالرغم من الدور الفاعل لصوبة (علاء الدين) في المجتمع العراقي خلال مسيرة قرن، فلا تزال العائلة العراقية تحتفظ بصوبة (علاء الدين) بعد إحالتها على التقاعد وفاءا لها وكذلك من باب الاحتياط.

وفي الختام ندعو الله تعالى أن يبارك بصوبة علاء الدين وأن لا يحوجنا لها، فقد كانت هذه الصوبة نموذجا صناعيا ناجحا، والتجربة أكبر برهان، كما يقول المَثَل.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

570 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع