عوني القلمجي
غزة الله باقية
لم يتخيل الكيان الصهيوني، ولا للحظة واحدة، بان عملية طوفان الأقصى التي نفذتها مجموعات من المقاومة الإسلامية بقيادة حماس، ستمرغ انفه بالتراب ويصبح جيشه الذي لا يقهر، اضحوكة بين الخبراء العسكريين في كل انحاء العالم. خاصة وان شباب كتائب القسام قد ساقوا، عشرات القادة العسكريين ومئات الجنود كالخراف أسرى اذلاء. ولم يشفع لهذا الكيان ليستعيد توازنه، اصطفاف أمريكا ودول اوروبا وبعض الحكام العرب معه في هذه الحرب. فليس غريبا ان يفقد هذا الكيان توازنه العقلي، ويقوم بحرب إبادة ضد قطاع غزة بأكمله، لتشمل المدنيين، من نساء ورجال وشيوخ وأطفال، ويدمر البنى التحتية للقطاع، ويهدم المستشفيات ودور الرعاية الصحية وغيرها. ومما زاد في خيبة قادة الكيان، انه لم يتمكن من الوصول الى قيادات حماس، او حلفائها من الفصائل المسلحة. بل لم يستطع اسر مقاتل واحد لحد الان، على الرغم من الاشتباكات والمعارك الكبيرة التي حدثت اثناء محاولات اجتياح غزة.
ان عملية طوفان الأقصى، هي عملية نوعية وفريدة من نوعها. بل ليس بإمكان أي عقل عسكري تخيلها، لا في الاحلام ولا في الواقع. فهي خرقت كل الدفاعات والتحصينات المتينة المحاطة بسياج الكتروني غير مسبوق تحميه تكنولوجية عالية التطور. وفي هذا الصدد، ذكرت دراسة نشرتها مجلة نيوزويك الامريكية، في عددها الصادر في 10 من هذا الشهر، بان مقاتلي حماس، اخترقوا بأعجوبة سلسلة الجدران والسياجات الأمنية الإسرائيلية على حدودها مع غزة، والبالغ طولها حوالي 70 كم. وهي تعج بأجهزة الاستشعار والأسلحة الالية، ومدعومة بشبكة استخبارات الكترونية دقيقة، تراقب كل مكالمة هاتفية ورسالة نصية وبريد الكتروني في قطاع غزة. ويقف جيش كبير ومدرب جيدا على أهبة الاستعداد، بأحدث الأسلحة للرد بسرعة على أي تهديد. وقد تم بناء هذه الدفاعات بذات التكنولوجيا التي تستخدمها جيوش الناتو، لمراقبة الحدود مع روسيا والشرق الأوسط.
كما تضمنت الدراسة وبالحرف الواحد، "فحين تسلل الالاف من مقاتلي حماس عبر الدفاعات الإسرائيلية في السابع من أكتوبر الماضي، ثم قتلوا 1200 إسرائيلي واحتجزوا نحو 240 رهينة، بدا فجأة ان ما كان يفترض انه ميزة تكنولوجية هائلة، في حقيقته دفاعات معيبة الى حد كبير. وان هذا الهجوم ترك الإسرائيليين، سواء كانوا مواطنين او خبراء عسكريين على حد سواء، في حالة صدمة عميقة إزاء الحالة التي ظهر بها ضعف البلاد". وتضيف المجلة "ان هذه العملية، تردد أصداؤها في قاعة وزارة الدفاع الامريكية، والمؤسسات العسكرية في العديد من البلدان". لتختم الدراسة بمجموعة من وجهات نظر لكبار الخبراء. منهم برادلي بومان، المدير الأول لمركزة القوة العسكرية والسياسية في مؤسسة الدفاع، والطيار السابق بالجيش الأمريكي، والذي عمل لاحقا في مجلس الشيوخ كخبير في تكنولوجيا مكافحة الإرهاب قال "ان الجيش الإسرائيلي هو القوة الأكبر والأكثر قدرة من الناحية التكنلوجية في الشرق الأوسط، وهم الان يحاولون ان يفهموا كيف تمكن خصم بدائي، من قتل عدد أكبر من اليهود في يوم واحد أكثر من أي وقت مضى، منذ المحرقة التي قام بها هتلر ضد يهود المانيا".
ان من يدقق في عملية طوفان الأقصى أكثر من ذلك، سيخرج بنتيجة واحدة لا غير. ان هذا الكيان لم يعد له على المدى البعيد مستقبل في المنطقة. وان حلمه في تحقيق دولته الكبرى من الفرات الى النيل قد تبخر. اما اليهود والصهاينة الذين يعيشون داخل الكيان، فقد فقدوا الأمن والاستقرار، الذي كانوا ينعمون به قبل الطوفان. حيث حزم الالاف منهم حقائبهم، والالاف من الاخرين على الطريق، عائدين الى البلدان التي أتوا منها. بل حتى الانتصارات التي حققها جيش الاحتلال ضد الجيوش العربية، قد فقدت قيمتها وأصبحت من الماضي، على الرغم من انها تركت جرحا عميقا في الذاكرة العربية. سواء الانتصار الذي حققه الجيش الصهيوني عام 1948 ضد كافة الجيوش العربية، او اشتراكه مع فرنسا وبريطانيا، بالعدوان العسكري على مصر عام 1956، او الهزيمة التي الحقها عام 1967 بثلاثة دول عربية بستة أيام. حيث احتل سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية وكل ما تبقى من فلسطين التاريخية. وحتى حرب أكتوبر الذي حقق فيه الجيش المصري والسوري في بداية المعركة انتصارا ضد هذا الكيان، تمكن لاحقا من استيعاب الهجوم، لينتهي بعقد معاهدة سلام مع مصر عام 1979 مقابل الانسحاب من سيناء.
اما على الجهة الأخرى، فان الهزائم التي الحقها الكيان الغاصب بمنظمة التحرير الفلسطينية، فقدت هي الأخرى قيمتها بعد هذا الطوفان. ولم تعد عالقة في الاذهان. سواء الهزيمة التي حدثت في الأردن في أيلول عام 1970 على يد الجيش الأردني، والتي سميت بأيلول الأسود، او اجبار منظمة التحرير ومقاتليها على الرحيل من لبنان الى تونس، بعد اجتياح جيش الكيان العاصمة بيروت عام 1982. فالشعب الفلسطيني الجبار انتقل الى حرب أخرى من نوع لا صلة له بحرب الجيوش النظامية، ولا بحرب منظمة التحرير، التي اقتصرت نشاطاتها على عمليات بطولية وعلى اختطاف طائرات وغيرها. هذه الحرب هي حرب المقاومة الشعبية بكل صفحاتها المسلحة والسلمية والثقافية والإعلامية وغيرها. وان ادواتها هي الأخرى اختلفت، حيث تغلب عليها الطابع الجهادي، بعد تصدرها من قبل منظمة حماس والجهاد الإسلامي وكتائب عسكرية مختلفة، اتخذت أسماء تاريخية مثل كتائب القدس وعز الدين القسام وغيرها.
ان الذين يعتقدون، بان الكيان الصهيوني ما زال قويا وقادرا على هزيمة المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس، وانه حقق انتصارا على هذا الطريق بتدمير غزة، فهم اما يجانبون الصواب، او ذوو عقلية ساذجة. فلكل حرب هدف سياسي، فإذا لم يتحقق تصبح الحرب انتقامية، الهدف منها تحويل الأنظار عن الهزيمة، في محاولة لاستعادة ماء الوجه. والهدف السياسي الذي أعلنت عنه القيادة الصهيونية، وعلى وجه التحديد رئيس الوزراء نتنياهو، هو اجبار حماس، اما على القاء سلاحها واستسلام قادتها، او ترحيلهم الى بلد اخر. او كما عبر نتنياهو بقوله، لا مكان لحماس في غزة بعد الحرب. وكما يشاهد العالم، فان حماس وحلفائها من الفصائل المسلحة، مازالت تقاتل بكل شجاعة، وتكبد جيش الاحتلال خسائر كبيرة على مدار الساعة. على الرغم من مرور خمسين يوما على بدء الحرب. في حين ان الدولة القوية بإمكانها أحيانا تحقيق هدفها السياسي دون اطلاقة واحدة، اما عن طريق التهديد بالحرب، او بفرض الحصار الذي لا يمكن تحمله فترة طويلة، او اللجوء لضربات عسكرية موجعة.
لكن هذا ليس كل شيء، فالكيان بعد فشله في تحقيق هدفه السياسي، اضطر الى الاعتراف بحماس كطرف في الحرب، وأجرى مفاوضات معها عبر دول أخرى وبشروط حماس. حيث تم الاتفاق على هدنه مؤقتة يتم خلالها تبادل الاسرى بين الطرفين المتحاربين. وهذا يعني ان نتنياهو استسلم للأمر الواقع، بعد ان رفض بشدة القبول بهدنة عسكرية او إنسانية مؤقتة، قبل استسلام حماس دون قيد او شرط. وبالتالي فقد حققت المقاومة أهدافا سياسية عدة، وليس هدفا واحدا. بدا بكسر حاجز الخوف من القوة التي لا تقهر، ومرورا برفض الشعوب كافة لهذا الكيان، واعتباره مجرم حرب، بعد ان كانت هذه الشعوب مخدوعة بمشروعية وجود الكيان الصهيوني وحقه في الدفاع عن النفس، وانتهاء بوضع ملف القضية الفلسطينية على طاولة دول العالم، بعد ان طواها النسيان. اما من يروج بان هدف حماس من هذه المعركة، الوصول الى تل ابيب ورمي اليهود في البحر، او تحرير مئات من السجناء، فهذه ادعاءات فارغة الهدف منها مداراة خيبتهم في قوة الكيان الصهيوني.
ان تميز مقاومة اليوم عن مقاومة أمس، يكمن في قرارها بمواصلة المقاومة ورفض الاستسلام لشروط المحتل، مثلما فعلت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. كما اتخذت مقاومة اليوم من غزة منطلقا لعملياتها المتنوعة. ومنذ ذلك التاريخ لم يجد الكيان الراحة او الاطمئنان. ففي مدينة جباليا بقطاع غزة وفي ديسمبر/كانون الأول 1987 وهي السنة التي تشكلت فيها حماس، قامت انتفاضة عملاقة انتشر لهيبها الى مدن وقرى ومخيمات فلسطين في غزة والضفة الغربية وأراضي 1948، مستعملين الحجارة والسلاح الأبيض، وتميزت هذه الانتفاضة عن سابقاتها، بكثرة المواجهات المسلحة بين المقاومة وجيش الاحتلال. ولم تتوقف الانتفاضات، على الرغم من استشهاد، حسب المصادر الفلسطينية والصهيونية قرابة 4412 فلسطينيـا، و48322 جريحا ومصابا، في حين قتل 650 إسرائيليا معظمهم من الجنود، من بينهم وزير السياحة في الحكومة الإسرائيلية يومها، رحبعام زئيفي وإصابة 4500 بجروح.
باختصار شديد جدا، فهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها قوات الاحتلال الى هجمات موجعة من قبل فصائل المقاومة المسلحة، وتتعرض بالمقابل المدن الفلسطينية الى الدمار والخراب. ومنذ فوز حماس وحلفائها الساحق في انتخابات عام 2006، وغزة بالذات تتعرض للحصار والاجتياح وهدم البيوت والبنى التحتية وتدمير المزارع وقتل الأطفال واعتقال الالاف. لكن شعب فلسطين في غزة وبقية المدن، مصر على مواصلة القتال ضد الكيان الصهيوني، واعتبار حماس وحلفائها من الفصائل المسلحة الأخرى الوريث الشرعي لكل نضالات الشعب الفلسطيني الجبار. وان هذا الوريث أصبح قادرا على مواجهة المحتل في كل زمان ومكان. وما دامت غزة باقية ستبقى بقيادة حماس وحلفائها، وستنضم اليها بكل تأكيد كل مدن فلسطين المحتلة، وكل فصائل المقاومة الأخرى، بما فيها المنضوية تحت خيمة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. عندها ستكون المعارك القادمة معارك فاصلة فعلا.
25/11/2023
653 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع