د. سعد ناجي جواد*
متى تستوعب اسرائيل حقيقة ان الإبادات الجماعية لن تُنهي القضية الفلسطينية العادلة والراسخة؟ ولماذا يُقبِل الاجانب على قراءة القران الكريم؟ وما هي الملاحظة الاكثر ايلاما على الموقف الرسمي العربي
منذ عام 1948، بل وقبل ذلك، وبالتحديد عندما فتحت ادارة الانتداب البريطاني الأبواب للمهاجرين الاجانب الى فلسطين، ورعت المنظمات والعصابات الصهيونية الارهابية ودعمتها بالسلاح والتدريب، لكي ترتكب مجازر ضد ابناء الارض لكي تهجرهم من وتقيم كيانا صهيونيا، والاعتقاد الاسرائيلي الرسمي، وجزء كبير من المهاجرين، ظل راسخا وثابتا بان (القتل والترويع والتشريد وسلب الاراضي) هو الاسلوب الامثل والوحيد للقضاء على الهوية الفلسطينية وعلى اسم فلسطين، بل وحتى مجرد التفكير به. قادة الكيان جاهروا بذلك بصورة اكبر بعد حرب 1967 واحتلال كل الاراضي الفلسطينية. وخير نموذج على هذا النمط من التفكير هو تصريحات موشي دايان التي قال فيها انه لم يعد يوجد شيءٍ اسمه فلسطين، ثم تبعته غولدا مائير والتي قالت (لا يوجد شيء اسمه دولة فلسطين)، واضافت مائير، التي كانت تتفاخر بامتلاكها جواز سفر فلسطيني منذ عام 1921 وحتى عام 1948، بان (دولة فلسطين موجودة فقط في مخيلة البعض).
وفي كل مرة يُثبِت ابناء فلسطين فشل هذه السياسة وعقم هذه المحاولات والتفكير، يلجأ من يحكم اسرائيل الى زيادة كمية العنف واستخدام الاسلحة المحرمة معتقدين انهم سيتمكنون من ابادة الشعب الفلسطيني وطمس هويته وحقوقه. وفي كل مرة وبعد كل مواجهة مسلحة يعود الكلام عن فلسطين وعن حق الشعب الفلسطيني في الحصول على دولته اقوى من ذي قبل. الأهم من ذلك انه في كل مرة تعتقد اسرائيل (ومعها راعيتها الاكبر الولايات المتحدة الامريكية) انها وجهت ضربة قاصمة لحركة من حركات التحرر الفلسطيني والعربي تكتشف انها ساهمت في خلق حركة اقوى وافضل تنظيما وتدريبا واستعدادا من سابقاتها، وتنجح في كسر شوكة الاحتلال الصهيوني وجيشه الذي تصفه بانه لا يقهر.
هذا الامر حدث في لبنان في مواجهة منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية السبعينات من القرن الماضي، ووصل الامر الى اجتياح لبنان وترحيل اعضاء وقادة منظمة التحرير، الا ان النتيجة كانت اعادة تنظيم المقاومة في المخيمات الفلسطينية و ظهور المقاومة اللبنانية التي استطاعت ان تجبر (الجيش الذي لا يقهر) على الانسحاب من جنوب لبنان، واليوم تمثل هذه المقاومة كابوسا كبيرا للكيان، بحيث ان الولايات المتحدة جاءت بقواتها واساطيلها وحاملات طائراتها الى المنطقة تحسبا من ما قد يحدث وتعجز اسرائيل على مواجهته. وهذا ما حدث ايضا نتيجة الامعان في قهر ابناء الضفة الغربية وسلب اراضيهم والقضاء بالعنف المسلح على انتفاضاتهم (خاصة انتفاضاتي الحجارة الاولى عام 1987 والثانية عام 2000)، حيث تم تثبيت حق الفلسطينيين في اقامة دولتهم في الضفة الغربية وغزة، وانتقل الامر الى ما يطلقون عليهم (عرب 48).
وعندما وجدت اسرائيل ان غزة اصبحت تمثل صداعا ومركزا للمقاومة ورغم كل الاجتياحات والقصف بالطائرات والدبابات والبوارج البحرية، تفتق ذهن قادتها العنصري عن فكرة بناء سور الكتروني ضخم كلف المليارات على اساس ان هذا سيبقي غزة معزولة في سجن كبير وتحت رحمة قوات الاحتلال، وفجاءة وجدت اسرائيل نفسها بعد 7 تشرين الاول/اكتوبر ان الاراضي التي تحتلها، وأرادتها ان تكون امنة، قد اصبحت ساحة معارك طاحنة بعد ان استطاعت المقاومة تدمير اجزاء من الجدار وعبوره بطائرات شراعية مما شكل صدمة لقادة الاحتلال لا يزالون يعانون منها لحد الان. هذا الفشل وتفوق العقل الفلسطيني على العقل العنصري للمخططين الاسرائيليين هو ما يفسر امعان نتنياهو وشلته من المجرمين في ارتكاب المجازر ضد كل ما هو فلسطيني وخاصة الاطفال والمدنيين.
وفي هذه المرة ايضا، ورغم انف قادة واحزاب اسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا وكل من يساند الاحتلال الاسرائيلي، كانت النتيجة ان العالم كله، سواء على مستوى الحكومات او المنظمات والافراد، اصبح يتحدث عن ضرورة اقامة دولة فلسطينية مستقلة وعن رفضه للمجازر. ومع ذلك ظلت اسرائيل غير قادرة على استيعاب هذه الحقائق او الدروس السابقة، ولا يزال قادتها المهزومين داخليا وميدانيا يصرون على اتباع اساليب الابادة الشاملة للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وفي غزة بالذات.
طبعا هذا الاصرار ليس بالغريب عليهم، فقبلهم فعل اريل شارون ومناحيم بيغن ورفائيل ايتان نفس الشيء ونهجوا نفس النهج في الثمانينات، وكانت نتيجتهم الاقالة او الاستقالة. حتى مقولة غانتس وزير دفاع دولة الاحتلال عن ابناء غزة بانهم (حيوانات بشرية) لتبرير قتلهم الجماعي، ورد مثلها على لسان رئيس اركان جيش الاحتلال الاسبق رفائيل ايتان اثناء اجتياح لبنان والمخيمات الفلسطينية عام 1983، وامر باستخدام كل الاساليب الوحشية والاجرامية ضد الفلسطينيين. وعندما سئل عن نتيجة هذه السياسة الهمجية قال للصحفيين (عندما يتم تسوية الارض [بالقصف والتدمير] كل ما سيستطيع العرب فعله هو الدوران حول نفسهم كالصراصير المحتجزة في قنينة مغلقة). واليوم يفعل نتنياهو نفس الشيء ويتناسى ان نفس المصير في انتظاره، حيث الكل يتحدث عن ضرورة اقالته واحالته الى المحاكم (احزاب المعارضة تريد محاكمته داخليا، ومنظمات وشخصيا دولية تريد محاكمته من قبل محاكم دولية لارتكابه جرائم ضد الانسانية وجرائم تطهير عرقي).
من ينظر الان الى المجتمع الدولي يستطيع ان يلحظ التغيرات التي طرأت عليه بهذا الخصوص. فدول العالم قاطبة بدأت تستهجن جرائم ومجازر الاحتلال، والتظاهرات تعم كل دول العالم، وامتدت حتى الى الدول آلتي عرفت بانحيازها التام لحكومة الاحتلال، واصبح العلم الفلسطيني وشعار فلسطين حرة (Free Palestine) يهز ارجاء كل عواصم العالم والجميع بدا يتحدث عن ضرورة قيام دولة فلسطينية، الا اسرائيل وقادتها الذين جبلوا على الاجرام.
بالنسبة لنا كعرب وكفلسطينيين ومسلمين فان التاريخ يخبرنا بان كل محاولات احتلال فلسطين الصليبية انتهت بالفشل، وبقيت فلسطين عربية على مدار التاريخ، ناهيك عن النصر المؤزر الذي يبشرنا به القران الكريم (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)، وكذلك الاحاديث النبوية الشريفة بهذا الصدد.
في هذا الصدد نقلت احدى القنوات الامريكية خبرا يقول ان هناك اقبال على قراءة القران الكريم والكتابات عن الدين الاسلامي، من اجل معرفة السر وراء الايمان المطلق بالقضية الفلسطينية وحب الاستشهاد وبالذات السر وراء ترديد مقولة (الحمد لله) عند حدوث اية كارثة. ومن يسخر من تلك الشواهد فعليه ان يتذكر ان كل الكذبة الصهيونية التي بُنيَت عليها فكرة (العودة الى ارض المعاد) قامت على قصص وهرطقات ما انزل الله بها من سلطان ولم ترد لا في التوراة ولا في كل الكتابات اليهودية الرصينة.
ملاحظتان اخيرتان، الاولى بشان مواقف اغلب الانظمة العربية، هذه المواقف تبقى مؤلمة ليس لانها لم تهب لنجدة ابناء فلسطين، وانما لانها تظل متفرجة على المجازر التي ترتكب بشان الاطفال والنساء والمدنيين في غزة. والثانية ان اسرائيل بأفعالها الاجرامية تخلق جيلا جديدا من المقاومين الشرسين الذين عاشوا المجازر والماسي وفقدوا احبتهم وهدمت بيوتهم ومدارسهم اما اعينهم. في حديث لاحد الاطباء في احدى مستشفيات غزة قال لقد نجحنا في اخراج 18 جنينا من بطون امهاتهم الذين قتلوا نتيجة القصف الاسرائيلي، وهؤلاء بالتأكيد، عندما يعوا مأساتهم، سيكونون جزءا من افواج المقاومين القادمين. وبدون اي شك فان هذا ابناء هذا الجيل هو الذي سيبقي اسم فلسطين خالدا، وسيواصلون مسيرة ابائهم واجدادهم حتى يتمكنوا من ازالة الاحتلال عن وطنهم، وان ينصركم الله فلا غالب لكم.
*كاتب واكاديمي عراقي
2040 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع