عدنان هاشم
خاطرة العدد - أحمد ياسين / ١
كان الوقت فجرا من صبيحة اليوم الإثنين والعشرين من آذار سنة 2004 حين خرج رجلان من أحد مساجد غزة بعد صلاة الفجر يدفعان كرسيا يجلس عليه رجل نحيل أقعده المرض فبدا كأنه شبح ضئيل في غلس الفجر، إلا أن وجهه كان مشرقا متلألئا تجلله لحية كثة دب فيها الشيب فلم يبق فيها إلا شعرات سوداء قليلة تنبئ عن أيام شباب قد مضت. كانت عيناه واسعتين ولكن نظراته كانت هائمة حيث ابتلي بفقد البصر فلم يبق منه إلا بصيص من نور يرى به أصحابه، وقد يتبادل الشيخ بصوت ضعيف بضع كلمات مع مرافقيه ولكنه لا يكاد يسمع ما يقولان لضعف سمعه. وقد قست عليه الأقدار عندما كان شابا في السابعة عشرة من العمر حين صارع واحدا من أقرانه فأصيب بكسر في فقرات الرقبة تركته يعاني من شلل الأطراف الرباعي، فصار لا يستطيع المشي ولا يقوى على الوقوف منذ ذلك الحين، وصار الكرسي المتحرك رفيقه الدائم. كان رحمه الله عائدا إلى بيته بعد أن أدى صلاة الفجر التي كان مواظبا عليها في ذلك المسجد، وفجأة دوى صوت انفجار قوي، وإذا بقذيفة أطلقت من طائرة هليكوبتر كانت تحوم في الفضاء تنفجر قريبا منه وقذيفة أخرى تصيبه مباشرة فتحول جسده النحيل إلى أشلاء متناثرة، وتهشمت جمجمته فاندلع منها دماغه، وإذا بكرسيه يقذف بعيدا في الهواء ليهبط إلى الأرض ملطخا بالدماء، وقتل معه مرافقاه وتسعة فلسطينيين معه بقذيفة ثالثة، فكانت مجزرة مروعة صحت عليها غزة الجريحة صباح ذلك اليوم الحزين.
كان ذلك الرجل أحمد ياسين الداعية إلى الله والجهاد. كان رحمه الله ضعيفا في بدنه، ولكنه كان قويا في قلبه وإيمانه، فلم يقعده الشلل ولا الأمراض المتتابعة التي هدت بدنه أن يقف في وجه الاحتلال وأن يقول لا للقهر والتهجير. كان قوي الحجة، واضح البيان، ماهرا في الإقناع فأحبه الناس والتف حوله الأتباع فكان لسان حاله يقول:
السيفُ أصدق أنباءً من الكتبِ في حده الحدُّ بين الجَدِّ واللعبِ.
وإذا بذلك الشيخ النحيل الذي هدته الأمراض يقض مضاجع المحتل فيحسب له الأعداء ألف حساب، فيكثف عليه حملاته التشويهية ليكسر مهابته في نفوس أتباعه، ولكن ذهبت كل جهودهم أدراج الرياح. عند ذاك آلى آرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل السابق على نفسه تصفية الشيخ الفاني، فرصد ت مخابراته كل حركات الشيخ وسكناته حتى حانت لحظة الصفر حين عرفوا وقت خروجه من المسجد، وكانت طائرة الهليكوبتر متأهبة له ومتربصة به حتى إذا خرج من المسجد أصابته تلك القذيفة فجعلته أشلاء متناثرة.
خرجت كل غزة تودع أحمد ياسين إلى مثواه الأخير، فعاهدت الشيخ أن تسير على خطاه في الجهاد ولعل ما نراه اليوم هو واحد من الثمار التي زرع شجرتها الطيبة ذلك الشيخ المقعد الضرير.
كان رحمه الله قبل وفاته قد أدخل المستشفى بسبب التهاب الرئة، وكان الأطباء يتوقعون أن لا يحيا طويلا بعد أن عبثت الأمراض بجسده النحيل، ولو تركه شارون لوحده لما بقي على قيد الحياة طويلا، ولكن شاء الله أن يختم لأحمد ياسين بالشهادة، وشاء الله أن يبتلى شارون بإراقة دمه ليأتي ربه حاملا وزر قتله. ولم يمهل الله الظالم طويلا فلم تمض إلا مدة قصيرة من الزمن وإذا بشارون المارد المتجبر طريح المستشفى في غيبوبة دائمة دامت لبضع سنوات انتهت بوفاته، فأذاقه الله ضعف الحياة وضعف الممات وسقاه من نفس الكأس التي سقى بها الشهيد.
15تشرين الثاني 2023
883 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع